لم أكن اعرف عن وجيه نحلة الكثير. والقليل الذي كنت اعرفه عنه هو ما اشترك به مع كثر من اللبنانيين، فقد تسلل وجيه الى عقولنا وذوقنا وحياتنا عبر الكتابات عنه أو المقابلات التي كانت تجرى معه أو تجرى عنه في وسائل الاعلام كافة، خصوصا المرئية منها، حيث كانت تعرض خلالها بعض من أعماله التي تبهر الناظرين اليها بألوانها وأشكالها وحروفيتها وانطباعياتها. وكان تأثيرها قويا حتى على المتواضعين بثقافتهم الفنية امثالي، مع انني سكنت في شارع جاكوب في باريس الخامسة لسنة كاملة! والذين يعرفون هذا الشارع المحتشد بالمعارض الخاصة، يدركون انه لا مفر، حتى على طالب رياضيات، من اكتساب بعض، مهما كان يسيرا، من ثقافة الفن التشكيلي والذي لا يمكن رصد القفزة الحضارية في أوروبا من الظلام الى الأنوار دون المرور بمبدعيه على مر القرون. حتى أن تاريخ تطور المدن الإيطالية يكتبه البعض من خلال روائع الأعمال الفنية رسماً ونحتاً وعمارة. ويقول كثر، وانا منهم، ان العلاقات والتقاطعات بين الرسم (والنحت والعمارة امتداداً) والرياضيات هي الأكثر تشابكا بين موضوعين، رغم ان فن الرسم يخاطب الذوق الرفيع والمرهف، حتى من خلال الجداريات الملحمية، بينما تخاطب الرياضيات العقول بمعادلات جافة تشبه تلاطم الامواج العاتية، حتى أن معظم الفنانين ومنهم فناننا الراحل، كما معظم الفلاسفة والمفكرين، كانوا ملمين بحيز معقول من الرياضيات الهندسية والجبر، بينما العكس غير صحيح رغم نسبة المتذوقين المرتفعة بين جماعة الرياضيات والعلوم عموما.
هو العقل إذن حين يبدع ينحو منحيين :
منحى إبداعي ملحمي سلاحه الخيال، ومنحى ابداعي فلسفي ومعادلاتي سلاحه المنطق.
وكما أن ليس كل الرياضيين من وزن العبقري مايكل عطية، فليس كل الفنانين بالطبع من وزن المبدع وجيه نحله.
فوجيه قادته موهبته وطموحه من موظف في دائرة المساحة براتب ١٠٠ ل ل الى فنان تشكيلي فريد واستثنائي تحول الى ظاهرة. خصوصا حين ادخل الارابسك والحروفية لتصبح موضوعا رئيسيا من المواضيع الفنية اللبنانية، بعد ان احتكرت اللوحات والجداريات والأيقونات ذات الطابع الديني الساحة الفنية. وإذا أضفنا ان وجيه ولد في بيروت من أصول جنوبية وأقام لاحقا في الرابيّة في بيت جميل تدخل اليه من بوابة متحف، بعد تمكنه المادي وصعوده الخارق ، وتنقل فترة طويلة بين باريس والرياض، لأدركنا كنه الخلطة التي شكلت جزءا من هذه الشخصية الملحمية التي لعبت في الحياة، كما لعبت بالأشكال والالوان، باعثة الروح والجمال والفرح في كل الاتجاهات.
حين أطلقنا مبادرة جدار بوزار للسلام على حائط كلية العلوم في القبة في نيسان ٢٠٠٤ كرد رمزي على جدار الفصل العنصري في فلسطين كما وصفته محكمة لاهاي، من ضمن أهداف داخلية أخرى، التف حول حركتنا الوليدة عشرات الفنانين من جميع المناطق والأطياف، خصوصا أنها تلازمت مع الصراع السياسي بين أركان النظام الأمني السوري اللبناني وحماته من جهة وبين رفيق الحريري وفرسان البريستول من جهة اخرى، وحين فجر موكب الحريري بأكثر من طنين من الـ” ت.ن.ت” تحول هذا الإلتفاف الى تقاطر من الفنانين التشكيليين من شتى المناطق والمدارس والإتجاهات.
كان عدنان خوجة ومحمد عزيزة وعلي العلي وسامي بصبوص والسوري عبد المحسن الخانجي قد أنجزوا جدارياتهم قبل زلزال الإغتيال، وكان فضل زيادة في خضم تحيته الجدارية للشهيد الحريري حين رفعت احدى الصحف العريقة عنوان “بوزار تمحو خطوط التماس الطرابلسية” ردا على محاولة سحب المدينة العريقة من الروزنامة الحداثية والسيادية لصالح التقويمين السوري والاسلاموي. لذا كان ترحيبنا استثنائيا بفكرة فضل للتواصل مع السوبر ستار وجيه نحلة من أجل العمل على الجدار، خصوصا ان المدينة اصيبت بمس حداثي ردا على الجريمة الإرهابية الرهيبة، ظهر على شكل انتشار الفكرة البوزارية في كل مكان ذو رمزية، ومنها مركز استخبارات مار مارون السيء السمعة. حتى ان احدى الصحف الطرابلسية كتبت “لقد اصبح لكل قرية بوزارها ولكل شارع جداره”، كما أطلق على المدينة المقاومة بالرسم والتلوين والطلاء شعار “طرابلس مدينة الجداريات”.
لم نخفي تهيبنا من اللقاء مع الفنان الراحل الذي صمت سمعته الآذان، وزاد من تهيبنا، انه فاز بتلك الفترة بالجائزة عن لقب الفنان الأسرع بالرسم مع الموسيقى في مسابقة جرت في ساحة اللوفر وعزف معه خلالها عبد الرحمن الباشا. كما تناقل لنا عن دوره في جداريات قصر المؤتمرات في الطائف المنجزة مع المقاول الأسطورة آنذاك الشيخ رفيق الحريري والذي ارسله بصفته كبير رسامي “اوجيه”، بطائرة خاصة ليأتي بألوانه ومواده وما يرغب به من مدينة الفن والضوء والجمال باريس والتي شكلت قبلة دائمة للراحل في حله وترحاله، معرجا منها من وقت لآخر إلى مدن الروائع الإيطالية.
حصل اللقاء الاول مع الوجيه في منطقة بوزار في القبة امام الجدار وفِي شارع الجيش(الجامعة) الذي كنا وما زلنا نطمح بان يشكل صلة الوصل بين عرى المدينة المفككة وبينها وبين اقضيتها المتنوعة، خصوصا ان المنطقة تشكل تكثيفا لذاكرتنا الأكاديمية والأهلية والمدنية والاجتماعية ، اذ فيها زرع الفرنسيون ثكنات قياداتهم الانتدابية قبل ان يسلموها بعد الاستقلال للآباء البيض الذين حولوها الى مهنية كبيرة وقفت شامخة في قبة النصرإلى جانب مدارس وإرساليات فرنسية وأميركية وأرثوذكسية، قبل ان تنفجر في محيطها الجولات الأولى للحرب الأهلية الشمالية، فيهجرها الآباء وتحتلها لاحقا قوات حافظ أسد الردعية، ثم تبدأ بقضمها كلية العلوم بعد التفريع، دون ان ننسى أنّ الإنكليز اختاروا المنطقة في النصف الاول من القرن العشرين مكانا هادئا وجميلا ومشرفا لسكن موظفي وإداريي مصفاة طرابلس، قبل ان تنضم المنطقة لاحقا الى ضواحي البؤس والتخلف والتوتر مع ازدياد النزوح من الريفين الشماليين اللبناني والسوري وانتشار البناء العشوائي الرخيص وتكون الكانتون العلوي وتداعياته، خصوصا مع الإنقضاض السوري على العاصمة الشمالية.
لقد التقط فناننا الراحل نبض حركة “بوزار” المولودة في المنطقة بالتوازي مع حركة البناء الجامعي في المون ميشال من الوهلة الاولى، خصوصا انه أباح لنا بحبه للمدينة التي اطلقت بعض مشايخ النهضة وحركة الفنانين العشرة وروائع الخطاطين والكتاب والشعراء ومنشئي المطابع والصحف والراكز الثقافية، والتي ما زال ابناؤها يمتازون بلطف المعشر وحسن الإستقبال رغم معاناتها المضاعفة. حيث أنها شكلت جاذبا لعائلات بيروتية ولبنانية وسورية استوطنت الفيحاء الشمالية دون قلق أو حذر أوغرابة، مستدركا طبيعة الهزة الحداثية التي يسعى لها مطلقو حركة “بوزار” من هذه المنطقة بالذات، معترفا بأنها تحمل في طياتها نوعا من رومانسية ستشكل بالضرورة قوة دفع استثنائية رغم طابعها المغامر. وقد بدا وجيه نحلة متقدما بذلك على كثير من المثقفين الطرابلسيين، الذين ظنوا بأننا مصابون بلوثة يساروية في اختيار المكان، وبعضهم كان قد طالب عن جهل بتغيير الوجهة باتجاه “المناطق المرتاحة من المدينة التحتا” أي غرب البولفار.
لكم كان منظرنا طرابلسيا ونحن ملتفون حول الوجيه المتواضع عَلى ترويقة من الفتة والفول والحمص في مطعم شعبي وطلابي امام جدار”بوزار” والذي اختار منه الفنان الراحل مساحة كبيرة لتنفيذ جدارية أرابسك عمل لها شهورا طوال، فخرجت من يد الوجيه تحفة قدمها للمدينة التي احبها وأحب اَهلها كثيرا.
في احدى زياراتنا له انا و”شريكي” الراحل مصباح الصمد سألنا عن اسماء عائلتينا الصغيرتين، ولم نكد نرتشف القهوة، حتى أنجز لوحتين بهذه الأسماء على الكاتالوغات التي قدمها لنا والتي احتوت بعض روائعه وطبعت بمناسبة معرض سبعونه في الأونيسكو، وكم كان شعورنا رائعا بهذه الهدية التي زادت من حميمية ورهافة العلاقة مع الرجل الأيقونة.
وفِي احدى مقابلاته التلفزيونية الاخيرة بعد خروجه من احد “غيباته” المتكررة في المستشفى، سألته المذيعة كيف يستعيد نشاطه عادة بعد كل “غيبة”، فأجابها بانه يبدأ بتشكيل فترة الغياب اولا ثم يتابع وكأنه لا انقطاع. ورغم غيابه الجسدي نهائيا، سيبقى الوجيه مستمرا بيننا سواء عبر أعماله وألوانه وإبداعاته سواء عبر فلسفته وثقافته وعبثه الباعث فينا رفعة الذوق وحب الحياة.
و إذا أردنا ان نلخص وجيه ببضع كلمات، نقول أنه بكل بساطة شكل مثالا آخر عن قصة نجاح تثبت مرة اخرى أن الخلطة اللبنانية بكل نكهاتها هي التي تتيح لطائر الفينيق ان ينهض
دائما رغم لعنة الموقع وفساد بعض النخب والفئات وأنصاف الإلهة التي تخرج من جوفها ما يزكم الأنوف أحيانا.