في احد المرات التي ترافقنا فيها سويا الى بيروت من اجل مقابلة الشهيد رفيق الحريري بعد عودته المظفرة الى رئاسة الحكومة، وعند وصولنا الى وسط بيروت الذي أعاد الحريري بعثه من الرماد، التفت إلي رشيد جمالي قائلا: هل تشعرأنّ طرابلس وبيروت هما مدينتان في دولة واحدة؟ كان ذلك في بدايات الألفية الثالثة، حين شكلت لجنة المتابعة الثانية للبناء الجامعي الموحد في المون ميشال، وقد جمعتنا سويا في مكتبها التنفيذي الى جانب مصطفى حلوة وعلي العلي والراحل مصباح الصمد، علما أنه لا حاجة للوصول لوسط بيروت كي تفجع بالفرق بين واقع العاصمة الشمالية المتهالك وواقع المدن والبلدات الأخرى.
وإذ يحمل كلام الراحل تحسرا على مدينته التي أحبّها وأعطاها، إن من خلال الرابطة الثقافية التي شكلت في عهده منصة ثقافية ونضالية طبعت الفيحاء بطابع خاص وتمددت علاقاتها مع الصروح الثقافية على طول الوطن، أومن خلال التجمع الوطني للعمل الاجتماعي الذي ترأسه طويلا والذي شكل نموذجا ناجحا في العمل المدني والإجتماعي رغم المظلة السياسية التي ظللته، خصوصا حين تراجعت مؤسسات الدولة آبان الحرب، أو حين ترأس بلدية طرابلس محاولا خلال ولايته السير بها وسط حقول الألغام العديدة، علما انه كان محظوظا بخروج الوصي الكريه الذي فكك أوصال المدينة التي دفعت أثمان الحروب مضاعفة والتي تناوب على قهرها حركة التوحيد الإسلامي والوصي السوري وما بينهما، فإنّ كلامه يحمل ايضا اعجابا بذلك الرجل الذي استطاع إنهاض العاصمة من الدمار رغم حقول الألغام السياسية والإدارية والإجتماعية، ورغم تصاعد وتيرة النظام الأمني السوري اللبناني الذي جثم على صدور اللبنانيين، هذا النظام الذي لعب رشيد دورا في مقاومته بسبل مختلفة تتراوح بين الصمود الثقافي وبين المواجهة المدنية المباشرة، حتى ان مظاهرة تحدي انطلقت من الرابطة الثقافية آبن السيطرة السورية على المدينة مطالبة النظام السوري بإطلاق المخطوف د.جورج حنا تصدرها الجمالي مع اساتذة الجامعة وبعض نخب ومغامري المدينة، فضلا عن غيرها من الحراكات.
والأهم أنّ الجمالي كان يحمل هما تحديثيا للعاصمة الشمالية التي تراجعت بشكل دراماتيكي، وكادت تتحول لمدينة هامشية، رغم دورها الاقتصادي التاريخي في البلد عموما، وفِي الشمالين السوري واللبناني خصوصا.
حاول الرئيس رشيد الاستفادة من قوة الدفع التي اتيحت بخروج الوصي السوري، القابض على خناق الفيحاء والمفكك خصوصا لقوى واقتصاد العاصمة الشمالية، مستعملا إرثه الثقافي والنضالي الذي أوصاه به غسان تويني في مقالة خاصة عند انتخابه، ومقاربا القضايا والملفات والمشاكل المزمنة بدماثة ومرونة وطول أناة، الا ان لعنة الحرمان والمظلومية الطرابلسية والتي تتلطى خلفها المصالح السياسية القديمة والجديدة لم تساعده في انجاز كل ما يريد، ذلك ان هذه اللعنة تتطلب نوعا من الحزم والمواجهة وربما الوقاحة، وهي ليست من طبيعة رجل الثقافة والحوار، والذي للمناسبة غادرنا بنفس الاسبوع الذي غادرنا فيه صديقه أيقونة الحوار الدائم سمير فرنجية، وهما عملا معا طويلا في قضايا الحوار، وكانت لهما مقاربات متقاطعة في مجمل قضايا ومشاكل البلد عموما وطرابلس والشمال خصوصأ.
ورغم ثقل وتشعبات وتناقضات المسؤولية البلدية في مدينة مأزومة، فقد فتح لها مشاريع وآفاقا كثيرة رغم عثرات التنفيذ والتي لها أسباب ومسارب شتى، خصوصا حين طور العلاقة مع المدن المتوسطية والتي أعادت ربط الفيحاء بمثيلاتها على المتوسط وأدت إلى مشاريع لصورة لفيحاء 2020 تنتظر من يعمل لتنفيذها.
وفِي غمرة البحث عن تعريف للمجتمع المدني، وهو ما أراه بدلا عن ضائع في غياب الحركة الديقراطية والاجتماعية وحتى الحزبية العابرة للطوائف، نستطيع ان نجزم بأن تاريخ ومسيرة رشيد جمالي تجعله ناشطا مدنيا بامتياز، لذا لم يكن صعبا إقناعه باحتضان حركة بوزار التي ولدت من رحم حركة البناء الجامعي في المون ميشال والتي لعب الراحل دورا أساسيا فيها، وقد شكلت البلدية معه ومع نائبه الرئيس الحالي ومع اخرين من المجلس منطلقا لمعظم الاعمال الكبيرة الانشائية والفنية والبيئية، خصوصا في كلية العلوم، وفِي منطقة بوزار المجاورة، حتى ان احتفال نصب بوزار والذي نظمته بوزار والبلدية في عهد الجمالي تحول بنوعية حضوره وبالآفاق التي افتتحها في المنطقة، الى نقطة تحول حقيقية في العمل الانمائي للمدينة خارج “طرابلس المفيدة” قبل ان تعود الأوضاع للتشتت والتدهورمع انفجار جولات العنف وتحول طرابلس ساحة لتبادل الرسائل الدموية، خصوصا مع انطلاق الثورة السورية وردود النظام الدموية عليها.
ستفتقد المدينة والبلد عموما شخصية جمالي المحاورة والمنفتحة، وهو كان تقدميا حتى في عمله المهني، حيث غامر مبكرا في الاستثمار في التكنولوجيا الالكترونية، بعد ان استثمر طويلا في العمل الثقافي مرسيا دعائم معرض الكتاب ومؤسسا مكتبة مهمة في الرابطة الثقافية التي كان كل طرابلسي يشعر بان له فيها مكانا، حتى لو اقتصرت عضويتها الرسمية على خريجي دار التربية والتعليم الاسلامية، علما أنه قاوم مرضه بهدوء وظل يعمل بثبات، لحين رحيله المفاجئ. سنفتقدك يا من غادرتنا في عز الهذيان الإنتخابي المذهبي، وسيبقى إرثك معنا ومع كل الحالمين بالتغيير وبالخروج بالمدينة المتوسطية الجميلة والقلقة من عقلية القلعة التي يحاول البعض إدخالها فيه الى الأفاق الرحبة التي تستحقها هذه المدينة الجميلة والمتمددة بقلق على المتوسط الأزرق.
talalkhawaja8@gmail.com