إن الانجاز الأول لانعقاد هذا المجلس، يكمن في عملية انعقاده في ذاتها، بعد حرب باردة وساخنة شنتها وتشنها الأجهزة الأمنية على المجتمع المدني والمجتمع السياسي فدكتهما دكا… هذه الأجهزة الأمنية تعتبر – أيضا في ذاتها – المنجز الوطني والقومي الوحيد والممّيز للنظام في تاريخ سوريا!
لن نتحدث عن تاريخ هذه الحرب فيما يسمى بفتنة الثمانينات التي تم استثمارها لخوض حرب إبادة ضد السياسة باسم الحرب ضد مجموعة عشرات منشقة عن الأخوان المسلمين فيما سمي بالطليعة المقاتلة، حيث تم تتويج سوريا منذ لحظتها بوصفها مملكة أمنية للصمت ولثقافة الخوف… لتبدأ منذ هذه اللحظة حالة التطابق بين سوريا الواقع والخيال الروائي الذي دشنته رواية جورج أورويل الشهيرة 1984، حيث سيبرز الواقع السوري أشد خصوبة وكثافة من الرعب التخييلي الروائي، حيث قرئت -حينها- هذه الرواية، وكأن الكاتب كان يستحضر –هجائيا عنيفا- مستقبل فاشية زمنه في روايته، في صورة سوريا السجن الكبير الذي أبدعه الفعل الأمني في الثمانينات وهو يرسم صورة (سوريا الحديثة /سوريا الأسد)…
هذه الحرب الساخنة التي حرقت زرع المجتمع السياسي وضرع المجتمع المدني، ستتحول تدريجيا الى حرب باردة تمكن المجتمع السوري منذ بيان 99 أن يطل برأسه ويقول : أيها العالم نحن ما زلنا أحياء تحت الأنقاض… جمرا تحت رماد الحريق…
كان هذا البيان الذي وقعت عليه نخب المجتمع السوري : مفكرون وكتاب وأدباء وفنانون ومثقفون تكنوقراط، كان إيذانا بأن المجتمع السوري المتفرد في تاريخ مواجهته للاستعمار وأسبقية تحرره منه عربيا،لا يمكن أن يموت… عقب ذلك كان قيام لجان إحياء المجتمع المدني فيما سمي بوثيقة (الألف) وانتشار المنتديات في معظم المحافظات السورية، حيث مثلت نهوضا مدنيا سلميا ممتلئا بالحلم والطموح لاستعادة الشرعية الدستورية، واستعادة الممكنات التاريخية للانتظام بسيرورتها التي توقفت منذ عقود…وذلك تزامنا وتحايثا مع تحول العالم الى الديموقراطية التي حلت محل الاشتراكية بوصفها (سمة العصر)، بعد أن قامت الشرعيات (الثورية والانقلابية) بالانقلاب على كل مقومات كيان الدولة والمجتمع،حتى وصلوا بسوريا لاستقطاب ثنائي حاد : لتكون ثنائية : سلطة/ورعايا -وثنا وعبيدا – عصابة/ورهائن، فقوضوا كل المكتسبات المدنية: الحقوقية والسياسية والإدارية التي أرغمت الحركة الوطنية الاستعمار على بناء انجازاتها الإدارية والقانونية،حيث يعتاش المجتمع السوري إلى اليوم على بقايا النظام الإداري والحقوقي والقانوني الذي خلفه الاستعمار، من الذي تبقى و لم تطاله يد الفساد والخراب (الوطني والقومي)… والذي لا يزال يستمر تقويضه فسادا، وإلغاءاً للقضاء والقوانين بما فيها (القوانين الاستثنائية) ذاتها التي تتوفر على منظومة ما –وإن كانت غير طبيعية ولا أخلاقية ومتوحشة- لكنها لا يمكن أن تنصاع لـ(الاعتباطية المقيدة) التي تزعجها أية قوانين حتى ولو كانت (قوانين الطواريء)، وذلك في ظل النظام التوتاليتاري من نوع عسكري متخلف –حيث قتل الأنا القانونية وهلاك الأنا الأخلاقية- سيما عندما ينحل النظام الشمولي الى مستوى العصابة..حيث كل شيء ممكن وكل شيء مستحيل في المجتمع الشمولي ذي البعد الواحد على حد تصوير حنة أرندت.
هذه السيروة التي بدأت (ببيان 99)، وتبلورت ونضجت في صيغة (لجان إحياء المجتمع المدني)، كانت قد شكلت نواة نظرية للخطاب الوطني الديموقراطي المدني المعارض في سوريا،والذي سيتوج في إعلان دمشق من خلال تحقيق أعلى وأوسع وأرقى صيغة تنظيمية للمعارضة في سوريا، في كونه تمكن من أن يكون سقفا وطنيا للجميع، للخلاصة الوطنية ذات الكثافة النوعية التي لم يطالها الخراب.. إنه عصارة سوريا المعنى المنتهك على مدى خمسة عقود،المعنى الذي لم تفسده الفهاهة والرثاثة والرياء والنفاق والتدليس وروح العبودية..
إن مسيرة الآلام الطويلة جمعت وأحاطت ولفت حولها كل التنوع والتعدد السياسي والثقافي والإثني، لقد استقطبت خلاصة التعدد والتنوع في معنى نوعي جديد لسوريا، مما كان يصعب جمعه واستقطابه حتى في مرحلة الاستعمار، حيث ظلت التيارات السياسية والفكرية تتنوع وتتعدد خارج الكتلة الوطنية الكبرى لحزبي (الشعب والوطني )، لقد كان الحزبان الوطنيان الشعبيان بأفق ثقافي ليبرالي ممثلان للنخب العليا المدنية الصناعية والأعيان الريفية… وذلك قبل أن تنحل النخب المدنية والريفية، كما ستتبدى في الزمن الشمولي الديكتاتوري… الكتلة الوطنية قائدة معركة الاستقلال لم تتمكن من تحقيق حالة (الإجماع الوطني على مستوى التعدد السياسي)، إذ ظلت تيارات كثيرة خارج الكتلة الوطنية : التيارات القومية اليسارية والإسلامية… كما وظلت الإثنيات القومية كالأكراد والآشوريين خارج هذا التكتل -الذي لم يستقطبها- الذي قاد سوريا برلمانيا وجمهوريا منذ قيامها 1920 حتى 1958…
بينما مع إعلان دمشق سيتحقق الإجماع التعددي المتنوع المشار إليه، إذ لم يبق تيار فكري أو سياسي أو إثني لم يجد نفسه وبرنامجه في إعلان دمشق..لقد تكثفت في الإعلان إذن الخلاصة المجتمعية النوعية لكل ما بقي واقفا خارج حالة الدمار الوطني والاجتماعي والأخلاقي والنفسي..أي أن درجة المعاناة الشاملة للشعب السوري في ظل الشمولية الأمنية “الوطنية السديمية ” وحدت الناس ضدها بكل تياراتهم ومشاربهم السياسية وانتماءاتهم القومية،بأكثر مما كانت عليه حالة المعاناة الشعبية والمجتمعية في ظل الدولة الكولونيالية الاستعمارية التي لم تتمكن فيه الكتلة الوطنية من دمج المجتمع السوري التعددي في إطار سياسي تنظيمي واحد كما سيفعل إعلان دمشق…
ولعل لحظة الإعلان هذه منذ تخلقها وإشهارها في 16/10/2005 مرورا بانعقاد مجلسه الأول 1/12/ 2007، تتويجا بانعقاد مجلسنا الوطني في المهجر -بروكسل 6/7/2010.
نقول: إن لحظة الإعلان هذه بمحطاتها الثلاث ستكون الدينامو الاجتماعي لإعادة إنتاج “الوطنية السورية” التي وأد النظام الشمولي الأمني الأسدي – المفترض أنه بعثي قومي – تبرعمها وحوّلها الى (سديم )أغبر يتلاشى ويزداد كل يوم تآكلا وتفككا وانكفاء وهبوطا من الانتماءات السوسيولوجية – السياسية الأفقية، إلى الانتماءات الأهلية: الطائفية والعشائرية والعائلية العمودية التي يحكمها نظام القرابة على أسس روابط الدم…
ولعل البداية التأسيسية لعملية تفكك الوطنية السورية تبدأ من لحظة الانتقال من الشرعية الدستورية إلى الشرعية (الثورية /الانقلابية)، حيث إلغاء الحياة السياسية المدنية هي دعوة صريحة لإحياء الحياة الاجتماعية الأهلية القائمة على نظام القرابة… حيث التعبير الأكثر حضورا لنظام القرابة هذا، يتمثل بهذا التضافر والتواشج بين (الطائفية والعائلية)… إن إلغاء الأحزاب بل ورفض صدور قانون للأحزاب خلال الحقبة الشمولية التسلطية لا يمكن أن يرد عليه وفق قوانين الاجتماع البشري إلا عبر البحث عن البديل في صيغ التجمع الطائفي فالعشائري فالطائفي ما قبل المدني.
لقد ساهمت الأحزاب العقائدية التي تريد أن تحل أوطانها (اليوتوبية/الطوبى : أممية شيوعية –أو أممية إسلامية – قومية عربية أو قومية كردية) محل الوطنية السورية،أي حلول الايديولوجيات ما بعد الوطنية،ونقصد بالوطنية السورية في هذا السياق،هو الانطلاق من مفهوم : سوريا أولا قبل أي اعتقادية ايديولوجية قومية عربية أو قومية كردية، عقائدية إسلامية أم علمانية، يمينية أم يسارية.. فكل هذه المنظومات هو تجاوز للوطنية المحددة والملموسة في نموذج (الدولة الوطنية) الحديثة، حيث كلها تحيل إلى أوطان يوتوبياها العقائدية ما بعد الوطنية من جهة، مثلما يحيل نظام القرابة إلى (الوشائجية) ما قبل الوطنية من جهة أخرى، لكن التأكيد على أولوية الدولة الوطنية الديموقراطية الدستورية، لا يحيل أبدا دون العربي أو الكردي أن يعتز بقوميته وأن يحلم بطوبى مشروعه القومي العربي أو الكردي، لكن هذه الوطنية الدمجية والاندماجية لا تتيح للعربي السوري أن يعتبر أن العربي الموريتاني أو العراقي…الخ أقرب له من الكردي السوري… والعكس صحيح أيضا بالنسبة للكردي السوري، حيث مفهوم الدولة الوطنية والاندماج (المواطنوي) لا يتيح معرفيا وثقافيا أن يعتبر الكردي أخوته الأكراد الآخرين في كل أنحاء كردستان في (ايران –تركيا-العراق…الخ) أقرب له من العربي السوري…كما ولا يمنع الإسلامي من التطلع إلى عالم إسلامي يشكل قوة راجحة في الميزان الإقليمي وعالم المصالح الدولي،لكنه عالم التكامل والتعايش مع الآخر العالمي بوصفه آخر في الإنسانية، من خلال اعتبار أن ثقافة حقوق الإنسان هي ثقافة كونية ليس خاصة بالغرب أو بالشرق، أي رؤية الآخر بوصفه محددا ومعرفا ومكملا للأنا، وليس (فسطاطا للحرب) أو تطلعا لأسلمة العالم، هذه المشروعية لأفق إسلامي عالمي يتكامل مع الآخر لا يتيح في منظور الدولة الوطنية أن يعتبر المسلم العربي أن الباكستاني المسلم أقرب له من القبطي المصري أو المسيحي السوري…!!!الخ
إننا عبر مفهوم (الوطنية/المواطنة) نتطلع إلى الوطنية التي تنكب على مفهوم المواطنة والحقوق في التساوي بغض النظر عن الدين أو الجنس..المواطنة التي تعني تخطي التكسير الاجتماعي ما قبل الوطني : طائفي.. مللي نحلي من جهة، ومن جهة رفض التلاشي السديمي ما بعد الأنا الوطنية، باسم مواجهة بلاغية شعارية صوتية لفظية يعرف الوطنية بدلالة التناقض مع الآخر وضد الآخر الخارجي كغطاء لقمع وقهر الآخر الوطني من جهة أخرى..
فالوطنية السديمية بهذا المعنى ليست سوى الايديولوجيات الشعبوية التعبوية الشعارية ما بعد الوطنية ذات الضجيج البلاغي، حيث خمسة عقود من هذه (السديمية الوطنية المعدومة ملامح الهوية الوطنية) بما تتعرض له من الامتهان والقهر والتسلط والفساد، الذي مآله : تفكيك الدولة الوطنية إلى هويات عتيقة، وقد أشرنا من قبل إلى أن إلغاء الحياة السياسية والمدنية والديموقراطية هي دعوة صريحة لإحياء الهويات العتيقة القاتلة، بتعبير مباشر إن إلغاء الحياة الحزبية في سوريا كان من شأنه بعث هذه الهويات القاتلة المشار إليها، وشحن الحياة السياسية والثقافية بثقافة الكراهية عبر شيوع التوتر الطائفي الذي تستثمره إيران في محيطها الإقليمي العربي لخلق جيوب طائفية غير وطنية تنتمي للطائفة قبل الانتماء إلى الوطن،ومن ثم تسعير الكره الإثني والقومي في صورة الحرب اليومية ضد الأخوة الأكراد (قتل شبابهم في خدمة العلم…ومسيرات الإعتقال اليومي )حتى بات خبر اعتقال الشاب الكردي حدثا عاديا كما كنا نسمع أخبار اعتقال الفلسطيني في الأراضي المحتلة….ناهيك عن حالة التهميش والاقصاء للأشوريين السريان بما بات يغدو ظاهرة نزوح جماعي عن الوطن الأم الذي (يشكلون فيه الابن الأول لهذه الأم التي اتخذت من اسمهم ملفوظها (سوريا)، حيث السلطة السادية لا تكتفي بالإفقار المادي والسياسي والثقافي والأخلاقي لمجتمعاتها، بل تعمل على اجتثاث عمق ذاكرة التاريخ والجغرافيا السورية….
لقد شكل إلغاء الحياة (السياسية /الحزبية) دعوة صريحة لقيام نظام حياة يحكمه التعصب ومن ثم تسلطية الطغم بوصفها (عصابات) استيلاء واستيطان، فعندما يحال بين الكائن الاجتماعي أن يمارس اجتماعيته عن طريق القنوات المؤسساتية الحديثة : الحزب – النقابة – النادي..فانه سيبحث عن كائنيته الميالة عضويا (بوصف الإنسان حيوانا اجتماعيا سياسيا) عبر الانشداد الغريزي للجماعة، فعندما تحرم الإنسان من حرية الاجتماع والسياسة،فلن يبقى منه سوى الحيوان: (الغريزة الوحشية – العنف –السادية والإرهاب) التي يتم احتكارها –بدورها- تسلطيا وفئويا من قبل السلطة المافيوية،فتغدو مجتمعات قطعان شاردة في مواجهة وحش السلطة الوثن، حيث العقل الغريزي التوحشي العنفي والإرهابي يتحول إلى سلوك نحو الآخر في الداخل الوطني وفي الخارج الاقليمي والدولي، وباعتبار الخارج أقوى،فإن إشباع النهم الغريزي التوحشي سيقع على عاتق الداخل، في مثال ما انحطت إليه الدولة السورية من النموذج الوطني الدستوري في المرحلة الليبرالية البرلمانية حتى أواخر الخمسينات،إلى تسلطية عارية في ظل الدولة الشمولية.
هذا الفهم للمسألة الوطنية بين المواطنة :حريات – مجتمع مدني – حقوق إنسان من جهة، أي أولوية ولاية الذات على ذاتها، وبين –من جهة أخرى- فهم المسألة الوطنية بوصفها كيانا سديميا غائما بلا وجوه ولا ملامح ولا سيماء فردية،حيث ولاية (الجهاز) على الفرد، من خلال طمس فرادة الأنا داخل هويات (جمعوية) وظيفتها أن تمارس وطنيتها وفق ثقافة الكراهية للآخر والبحث دائما عن عدو في الداخل أو الخارج : وهو دائما عدو لفظي( الاستعماروالامبريالية )، وباعتبار أن هذا المنظور للعالم غير واقعي وغير ممكن مع ازدياد وحدة العالم…حيث بمقدار تعولمه،بمقدار ما تبدو هذه الأفكار كاذبة وزائفة وشعارية صوتية.
في المجلس الوطني في دمشق 1/12/2006 انسحب العقائديون الذين يفكرون بالوطنية بوصفها (سديما كليانيا) موجها للعداوة وكره الآخرين والحرب المؤبدة مع عدو دائم مفترض قابع في الخارج..
إن بعض هذا التيار لم يتردد أن يخون رياض الترك ورياض سيف لقبولهما تلبية دعوة احتفال بالعيد الأمريكي القومي..لكن مع ذلك -وربما بسبب ذلك – كانت الأغلبية مع التيار الوطني الديموقراطي الدستوري أي التيار المؤسس على مفهوم (الوطنية /المواطنة) في المجلس الوطني الأول لإعلان دمشق في دمشق 1/12 2007…
إن الصورة ذاتها ستتكرر في مؤتمر المجلس الوطني لإعلان دمشق في المهجر المنعقد في بروكسل يومي 6/7/2010، حيث سينتج ذاته لصالح (الوطنية/ المواطنة)،التي تعول على أولوية الحرية الفردية بوصفها أساس أية حرية اجتماعية، وليس ثمة تعارض، أي الوطنية المؤسسة على الشرعية الدستورية للدولة الوطنية الحديثة، دولة الحق والقانون والحريات السياسية وثقافة حقوق الإنسان بوصفها ثقافة كونية وتتأسس على منظومة قيم كونية قائمة على قبول الآخر في صيغة شرعية التعدد والتغاير والاختلاف، وحيث لا حريات وطنية بلا حريات سياسية، وبهذا المعنى أتى المجلس الوطني في بروكسل مكملا ومتمما للمجلس الوطني في دمشق، يكرس أفقاً مدنياً ديموقراطياً وعقلانياً قادراً على تقبل الآخر والتعايش معه.
mr_glory@hotmail.com
• كاتب سوري – فرنسا
هوامش أولية حول انعقاد المجلس الوطني لإعلان دمشق في بروكسل
العالم العربي يرى قطعة الذهب وهي الديمقراطية ليس يشمها ولكن يدوس عليها مع الاسف.
اعلان دمشق ـ جودت سعيد ـ لا عنف
http://www.youtube.com/watch?v=lUdNAUgE3mg&playnext=1&list=PLB4A3781D27356EF6&index=3