(الصورة مقتبسة من موقع Debate.org)
مراجعة منهجية لكتاب ستيفن كان : “الدين في حدود العقل”
بقلم الباحث الإيراني/ياسر ميردامادي (ترجمة/ فاخر السلطان)
قبل سنوات عدة، جرى نقاش حام بين الفلاسفة المتخصّصين في التحليل الديني وبين علماء اللاهوت الفلسفي حول السؤال التالي: هل يمكن أن يتشكل دين بمعزل عن “الأمر المتعالي المستقل عن العقل”؟ وهي رؤية تسمى بـ”اللّاواقعية الدينية”، أو أن يكون هذا الدين مجرد نمط حياة متجذّر في بعض القيم العليا من دون التزام يعكس “الواقع المتعالي” أو يفترض وجود “الحقيقة المتعالية”؟
ستيفن كان، المولود في 1942، هو فيلسوف يهودي أمريكي معاصر، وفي كتابه “الدين في حدود العقل” لا يستخدم مصطلحات مثل الواقعية أو اللّاواقعية، لكنه يقدّم سردا مختصرا وموجزا لموضوعه. يريد في كتابه أن يدافع عن “إمكانية وجود دين في إطار اعتقاد طبيعي”. لكني في هذا المقال سأسعى للاستدلال بأن دفاعه عن “اللّاواقعية الدينية” هو دفاع غير صحيح.
في الفصل الأول من الكتاب، ينتقد المؤلف ثلاثة أدلة مشهورة مرتبطة بالإيمان بالله (الدليل الكوني، والوجودي، والغائي) ويصل إلى نتيجة مفادها عدم وجود سبب مقنع للإيمان بالله. ورغم تأكيده وجود ضعف في أدلة الإيمان بالله، إلا أنه يمكن طرح سبب تراكمي لصالح الإيمان. ويستند هذا السبب إلى التالي: رغم وجود ضعف في أدلة الإيمان بالله، إلا أن وجود هذه الأدلة إلى جانب بعضها البعض بصورة تراكمية سيؤدي إلى طرح دليل لصالح الإيمان بالله.
وبناء على ذلك، يمكن القول إن الدليل التراكمي ليس دليلا مستقلا، وإنما هو نتيجة لوجود أدلة مستقلة. ويمكن فهم هذا الأمر من خلال المثال التالي: لنفترض أن لديك بعض الأكواب البلاستيكية، وفي كل كوب توجد ثقوب صغيرة جدا، وبالتالي لا يمكن شرب الماء بسلاسة من كل كوب من هذه الأكواب. ولكن إذا وضعت الأكواب فوق بعضها البعض، ستتمكن من شرب الماء منها. وعليه، سيكون لأدلة الإيمان بالله نفس حكم هذه الأكواب. فجمع الأدلة وتراكمها، يمثّل سببا مقنعا ومعقولا لصالح الإيمان بالله.
يجادل كان في الفصل الثاني من الكتاب، على أن الأدلة الفلسفية التي تساند مسألة وجود الله، لا علاقة لها بالحياة الدينية، لأنه باستطاعة التجربة الدينية أن تتغلب على الأدلة الفلسفية. وفيما يخص مسألة الشر، يؤكد على عدم قدرة هذه المسألة على نفي الإيمان بالله بشكل نهائي، مثلما أن مسألة الخير لا يمكن أن تؤدي إلى نفي الإيمان بالشيطان. وفي حين أن وجود الخير يجعل مسألة الإيمان بالشيطان غير محتملة، فإن وجود الشر يجعل مسألة الإيمان بالله غير محتملة.
لنوضّح أكثر هذه النقطة المهمة. فمن الأفكار البديعة في الفلسفة الدينية لستيفن كان، أنه، وفي نفيه للإيمان بالله بصورة عقلانية، وبخلاف العديد من الفلاسفة، يطرح ذلك بصورة غير مباشرة. بمعنى أنه لا يرد بشكل مباشر على الإشكالات التي يطرحها المؤمنون بالله فيما يخص مسألة الشر. فهو يسير في طريق مغاير، ويطرح عقلانية أو عدم عقلانية مسألة عدم الإيمان بالله. وهذا الطريق المغاير مبني على فرضية الإيمان بالشيطان. فلنفترض أن هناك شخصا يؤمن بالشيطان، أي أنه يعتبر الشيطان قادرا مطلقا وعالِما مطلقا وشرا مطلقا، وأن هذا الشيطان خلق عالَما مليئا بالشر لكي يستلذ بألم ومعاناة الناس. فالإيمان بالشيطان هو تحديدا في مقابل الإيمان بالله الذي هو قادر مطلق وعالِم مطلق وخير مطلق.
لكن المؤمن بالشيطان يواجه حقيقة مغايرة، تتمثّل في عدم وجود الشر فحسب في هذا العالم، بل هناك الخير أيضا. ومن ثم فإن “موضوع الخير” يشكّل تحدّيا لعقلانية المؤمن بالشيطان، مثلما يشكّل “موضوع الشر” تحدّيا لعقلانية المؤمن بالله. كيف يمكن للشيطان، الذي يتمتع بمعاناة الناس، أن يخلق الخير في هذا العالم؟ المؤمن بالشيطان يستطيع أن يجادل بالتالي: أن خلْق بعض الشر ضروري لخلق الخير. وبهذه الطريقة يستطيع أن يكيّف وجود الخير مع إيمانه بالشيطان.
ما يريد أن يقوله كان هو أن إجابة المؤمن بالشيطان على سؤال الخير هي مثل إجابة المؤمن بالله على سؤال الشر. فكما يمكن للشخص أن يكون مؤمنا بالله ويقدم إجابة على سؤال الشر (على اعتبار أن من شروط وجود الخير، خلق الشر). كذلك، يمكن للشخص أن يكون مؤمنا بالشيطان ويقدم إجابة على سؤال الخير (على اعتبار أن من شروط وجود الشر، خلق الخير). من الواضح أن الإيمان بالشيطان، هو وجهة نظر باطلة. لكن، جدال كان لم يقف عند هذا الحد، إنما مساعيه تهدف إلى بيان أن أساس استدلال المؤمن بالله لمسألة الشر، يشبه أساس استدلال المؤمن بالشيطان لمسألة الخير. وعليه، إذا كان الإيمان بالشيطان غير معقول، وهو بالتأكيد غير معقول، فإن مصير الإيمان بالله لن يكون أفضل من ذلك.
يمكن الاستنتاج بأن ما يريد أن يوضحه كان في جداله هو التالي: إذا لم يكن هناك عامل آخر يرجّح صحة الإيمان بالله على الإيمان بالشيطان، أو يرجّح صحة الإيمان بالشيطان على الإيمان بالله، حينها سيكون الأساس المنطقي لهذين المعتقدين متشابها، بمعنى أنه لن يكون هناك فرق بين عقلانية أو عدم عقلانية أي معتقد بالنسبة للآخر. لكن، بالنظر إلى الدور المحوري الذي تلعبه التجربة الدينية في الحياة الدينية للأشخاص في مختلف الثقافات، فمن شأن التجربة أن توضّح بأن الله هو خير مطلق لا شر مطلق. والجانب الغالب على هذه التجربة الدينية يشير إلى وجود نوع من العقلانية في مسألة الإيمان بالله لا في مسألة الإيمان بالشيطان، إلّا إذا قال البعض بأنه لا توجد أي قيمة معرفية في التجربة الدينية.
في الفصل السابع من الكتاب، يركّز المؤلف على مفهوم الإيمان الديني. فمن وجهة نظره، يرتبط الإيمان الديني باليقين. ولأن هناك العديد من الأسباب التي تؤكد هذا المفهوم، إلا أن اليقين قد يكون كاذبا بل وخطيرا. ولكن كان في كتابه لا يناقش نماذج من الإيمان الديني خارج إطار اليقين، مثل نموذج كيركغور، بل ولا يشير إليها حتى.
في الفصل الثامن والتاسع، ومن خلال إشارته إلى النبي أيوب في العهد القديم، يجعل المؤلف مسألة الإيمان بالله عرضة للتساؤل قبل أي شيء آخر. حجته في ذلك هي أن معرفة الله من خلال الإيمان الديني يمكن أن توضّح كيف للأسباب الإلهية أن تصبح غير مبرّرة. ثم يقدّم تفسيرا شاذّا حول الكتاب. ففي رأيه، الكوارث التي حلّت على أيوب لم تكن بسبب الذنوب التي ارتكبها، إنما ارتبطت بالرهان الذي أجراه الله مع الشيطان حول قوة إيمان أيوب، وهو رهان خال من الرحمة في نظر كان. فالمؤلف يعتقد بأن هذا الرهان له تأثير مدمّر على أي نظرية للعدالة الإلهية. فنظريات العدالة الإلهية تسعى لإثبات أن الله هو خير مطلق، لذا كيف لهذا الخير المطلق أن يبرّر خلق الشر؟ لكن من وجهة نظر المؤلف، حتى لو استطاعت نظرية العدالة الإلهية أن تبرّر الأفعال الإلهية، فإن تكلفة هذا التبرير ستكون عالية. فمثل هذا التبرير سيجرّد من المؤمنين أسباب طلب المساعدة من الله. فالله لديه أسبابه لجلب الشر على المؤمنين، وهذه الأسباب تتجاوز فهمهم لها.
وإذا فقدنا طريقة معرفة الله، أو أن كلماتنا لم تستطع أن تصف الله، عندئذ سيصبح الله شيئا غير معروف. في هذه الحالة، ستتحوّل المعرفة الخاصة بمفهوم الله إلى مشكلة. هذه هي حجة المؤلف في الفصل العاشر. ولكن، ألا يمكن أن يكشف الله عن نفسه للبشر من خلال المعجزة؟ الفصل 11 من الكتاب مخصص لنقد مفهوم المعجزة. ويستند نقد المؤلف لهذا المفهوم إلى نقد هيوم. فالمعجزة تستلزم تعليق القوانين الطبيعية، وبما أن الأدلة لا تحبّذ تعليق هذه القوانين، فإن حدوث المعجزة هو أمر غير محتمل.
في الفصل 12 من الكتاب يستخدم كان منهجية النقد التي استخدمها ضد المعجزة، في موضوع الوحي الإلهي. فهو يجادل على أن أي ادعاء باتصال إعجازي مع الله في صورة وحي إلهي هو ادعاء تافه، لأن الوحي، باعتباره مصداق للمعجزة، هو أمر غير محتمل وإرادة إلهية غير معروفة (إذا آمنّا بوجود إله).
في الفصل 13، يتحدى المؤلف الحجة البراغماتية لباسكال والمؤيدة للإيمان بالله. تستند حجة باسكال إلى وجود عقلانية عملية في مسألة الإيمان بالله أكثر من وجودها في مسألة عدم الإيمان بالله. فإذا عشنا في الدنيا ونحن مؤمنون بالله ثم بعد الموت اكتشفنا بأنه لا وجود لله، فلن يصيبنا سوء يذكر، باعتبار أننا منعنا أنفسنا من التمتع بلذات محدودة في الدنيا، وتحمّلنا ألم أداء بعض الأعمال التعبديّة. لكن، إذا عشنا ونحن مؤمنون بالله، وبعد الموت اكتشفنا وجود الله، فإننا سننعم بسعادة أبدية. بينما إذا عشنا في الدنيا دون إيمان بالله، وبعد الموت اكتشفنا عدم وجود الله، فإننا بالطبع نكون قد حققنا ربحا محدودا في الدنيا متمثلا في التمتع ببعض الملذّات الممنوعة والتحرر من أداء بعض الأعمال التعبّدية. لكن، إذا اكتشفنا بعد الموت بأن الله موجود، فسيكون الخسران بانتظارنا. لذلك، من العقلانية أن نعيش تحت مظلّة الإيمان بالله لا تحت مظلّة عدم الإيمان به.
يقوم نقد كان للحجة البراغماتية لباسكال، على الأساس التالي: أننا لا نعرف شيئاً عن الله، وبالتالي إذا كان الله موجودا فلن نعرف كيف سيكون. ونتيجة لذلك، نحن لا نعرف على أي إله يجب أن نراهن في كامل حياتنا: على إله يطلب منا أن نكون عبيدا له، نمدحه ونعبده، أو على إله يريدنا أن نكون مستقلين، نعتمد على أنفسنا، ونتمتع بشجاعة المعرفة، ونتشبث بفهمنا، بدلا من ممارسة الإيمان؟
في الفصل 14، يجادل كان بأن الكمال الإلهي يتطلب ألّا يطالب الله الناس بعبادته (ما يقصده كان من “العبادة” هو التسليم المطلق لإرادة الله). وعلى الرغم من أن عملية ثناء الله ومدحه يمكن أن تكون أمرا معقولا، حسب كان، إلا أن عبادة الله ليست كذلك، لأن العبادة تجعل الله ديكتاتورا ويصبح المعبودون حفنة من العبيد. لا يكتفي كان، مرة أخرى، بالنقاش الفلسفي الجامد، ويتجه لمناقشة لاهوت العهد القديم، ويقدم تفسيرا رائعا ومختلفا لقصة مساومة إبراهيم مع الله في سفر التكوين. ملخص القصة، وفقا للعهد القديم، أن الله يقرر تدمير قريتي سدوم وعموره بسبب خطايا أهل القريتين، ولا يخفي إبراهيم عن الله رفضه تحقيق هذا التدمير، فيصرّ على أن يساوم الله لكي يتجنب عذابه.
يقول إبراهيم في البداية: ربنا! إذا وجدت 50 شخصا نزيها في القريتين، فلا تدمرهما. وتستمر المساومة بين إبراهيم وبين الله، وخلالها يتم تقليل عدد النزهاء درجة درجة حتى يتمكّن من إبعاد القريتين عن العذاب الإلهي. فمن أصل 50 نزيها، يتم تقليل العدد إلى 40، ثم إلى 30، ثم 20، وفي نهاية الأمر يرد الله على هذه المساومة بالقول بأنه لن يعذّب القريتين حتى لو كان فيها 10 من النزهاء. النتيجة التي يتوصل إليها كان من قصة المساومة هي أن “نظرية الأمر الإلهي” غير قابلة للدفاع حتى من قبل أصحاب الرأي الديني. فرغم أنها نظرية لاهوتية/أخلاقية معرفية، لكنها تقول بأن الخير والشر لا يملكان معيارا مستقلا عن إرادة الله. يقول كان بأنه إذا كان كل الخير وكل الشر مرتبطا بإرادة الله، فيجب على إبراهيم ألّا يدخل في مساومة مع الله، وكان على الله ألّا يقدم تنازلات لإبراهيم.
كان، وبعد أن انتقد الفهم الواقعي للدين، يتطرق في الفصول الخمسة الأخيرة من الكتاب إلى فهمه غير الواقعي عن الدين. استنتاجه هو أن الأديان هي ظواهر ثقافية، وأنه لا يمكن وصف التعاليم الدينية بأنها صادقة أو كاذبة، وإنما يجب اختبارها من حيث ثرائها الأخلاقي والثقافي. النقطة المهمّة هنا هي أن المؤلف ليس ضد أن يعيش الإنسان بصورة متديّنة، وإنما يسعى للدفاع عن تديّن خال من الميتافيزيقيا ومن الإيمان بالله. فوجهة نظره تقول بأن العيش بصورة متديّنة لا يحتاج إلى الله. فالدين، حسب كان، هو طريقة حياة مستقلة عن العقائد الميتافيزيقية وخاصة عن الإيمان بالله.
يميّز كان في كتابه هذا، وكذلك في كتبه الأخرى، بين وجهة النظر العلمية من ناحية، ووجهة النظر الدينية من ناحية أخرى. ففي رأيه، يمكن للتجربة أن تبرهن على زيف وجهة النظر العلمية، لكن لا يمكن أن نبرهن على زيف وجهة النظر الدينية. هذا التمييز القاطع بين الاثنين يؤدي إلى شبهةٍ وشكٍّ كبيرين. صحيح أنه يمكن الحكم بزيف وجهة النظر العلمية من خلال التجربة، لكن أيّا كان حكمنا على زيف أو عدم زيف وجهة النظر العلمية، إلا أن الإيمان بالطبيعة هو جزء من إطار عمل ميتافيزيقي، إذ من خلال هذا الإطار يمكن أن تتوضّح طبيعة العمل الاجتماعي والمؤسساتي لبعض الباحثين. ومن ثم، لا يوجد أي تفاوت بين الإيمان بالطبيعة والإيمان بالله، فالاثنان يمثّلان وجهة نظر ميتافيزيقية، ومن ثم لا يمكن أن نخضعهما للتجربة لنحكم بزيفهما، إنّما يمكن تقييمهما بعقلانية.