تستوجب قراءة إعلان “لقاء الدولة والمواطنة” هويته “الشيعية” المعارضة لهيمنة كل من “حزب الله” وحركة “أمل” على القرار الشيعي، مراجعة الأسباب التي انتجت هذا التحرك بصفته المذهبية على رغم وجود أحزاب سياسية أساسية في لبنان صنعت رصيدها من مناهضتها لهذه الثنائية في إطار “14 آذار”.
والسؤال الطبيعي هو لماذا لم تحضن هذه الأحزاب مثل هذا اللقاء، سابقاً وحاضراً؟ او لنقل أكثر من ذلك، لماذا تجاهلت هذه الاحزاب مثل هذا اللقاء او ساهمت في القضاء على أي تحرك سابق في هذا الاتجاه، ما منع اختراق هذه الثنائية وحصر التمثيل الشيعي فيها؟
وفي حين لا يمكن توقع ما هو أقل من اتهام “حزب الله” لكل شيعي خارج عن السيطرة بالعمالة وتهديده مباشرة او مواربة وتخوينه وهدر دمه اذا كان صاحب تأثير، يبدو نافراً “القتل المعنوي” للشيعة المستقلين والسياديين وعدم احتضانهم او تأييدهم ودعمهم في إطار حركة كانت واعدة، كما هي حال “14 آذار” منذ صعود نجمها حتى أفوله تدريجيا مع تكدس أخطاء تحولت خطايا قاتلة لهذه الحركة بفعل قرارات اتخذها أهل الدار وساهمت مفاعيلها في القضاء على الحلم السيادي الاستقلالي، لتعود الغلبة لأحزاب طائفية شرهة الى الحد الأدنى من السلطة المقرونة بالذمية للحزب الإلهي ومرجعيته الإيرانية.
هنا لا بد من المقارنة بين سلوك هذه القوى التي سمّت نفسها سيادية، وخسرت سيادتها بتنازلاتها العشوائية، وبين سلوك “حزب الله” الذي حرص منذ اليوم الذي تلا 14 آذار 2005، او حتى فور جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري الى تبني كل فرد او حركة يمكن تصنيفها مناهضة لحركة “14 آذار”. كان يكفي الحزب رئيس عصابة في الطريق الجديدة لتلميعه، على ان تصنع منه وسائل الاعلام الممانِعة شخصية سنية منافسة لرئيس الحكومة سعد الحريري، او تختار من النواب الذين كانوا يدورون في فلك الوصاية السورية مَن يخدم خطابها وتدّعي ان له حيثية ويمثّل الشارع السني الذي يجب عدم اختصاره في شخص واحد. ولا تكتفي بالكلام وانما لا تبخل بالتمويل والحماية لدى ارتكاب الجرائم.
الزرع هذا، حرص الحزب على ريِّه، لجني ثماره ولا سيما مع تطورات الوضع الإقليمي الذي انعكس ايجاباً لصالح النفوذ الإيراني الممتد عبر العراق وسوريا الى لبنان.
وفي حين شكلت أصوات الاعتراض الشيعي جزءا أساسيا من حراك “14 آذار” في بداياته، الا ان السلوك تجاهها كان صادماً في بعض المحطات، وتحديداً بعد “اليوم المجيد” في 7 أيار 2008. آنذاك كان الانتقاد لدى بعض المنضوين في أحزاب الحركة السيادية بدائياً وشمولياً وجاهلاً، ما تسبب بعزلة جديدة للشيعة السياديين، تضاف الى عزلتهم الأولى داخل طائفتهم، والى خيبتهم الأولى جراء الاتفاق الرباعي الذي أجريت الانتخابات النيابية على أساسه عام 2005.
فالآذاريون المنضوون تحت راية أحزابهم، لطالما اعتبروا الشيعة “تشكيلة” لحركتهم، اذ كان يكفيهم مشاركة وجه سياسي شيعي في مناسباتهم للقول ان هناك قوى من هذه الطائفة خارجة عن التحالف الثنائي المهيمن.
فالمطلوب كان النوعية وليس الكمية، ولا لزوم للتخلي عن التعامل مع الحزب والحركة في الاستحقاقات الكبرى، كالانتخابات النيابية او انتخاب رئيس الجمهورية او تشكيل الحكومة.
ولطالما كان استخدام الصوت الشيعي السيادي محدوداً ومحصوراً دوره في المناسبات الخطابية. اما في الحياة السياسية الفعلية فلا شيعة من خارج “الثنائي”، وتحديداً بعد تجربة رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة الذي أصر على توزير إبرهيم شمس الدين، ما ابقى حكومته فعالة عندما انسحب منها وزراء الحزب والحركة، بعد ذلك بات ممنوعاً مدّ اليد الآذارية الى الحصة الشيعية.
في المقابل، وبعد بدء مسلسل التنازلات، كان مدّ اليد طبيعيا من الجانب الممانع الى الحصة السنية او المسيحية او الدرزية مع كثير من الدعم لكل من يعارض الفريق الآذاري، او بفصيح العبارة لكل من يعارض معارضي الحزب ومحوره… ومن دون أي مراعاة او مواربة.
والا كيف نفسر اسقاط الحكومة الأولى للرئيس سعد الحريري وتشكيل حكومة برئاسة نجيب ميقاتي وباشراف “حزب الله” من دون أي التفات إلى ما يريده الشارع السني.
أكثر من ذلك، كيف يمكن قراءة حماية شاكر برجاوي المطلوب للقضاء ودعمه بالمال والرجال، وادراج اسمه في استفتاء لشعبية الشخصيات السنية الى جانب اسم الرئيس سعد الحريري والوزير نهاد المشنوق.
هكذا هو الشغل في الجهة المقابلة. اما في جهتنا، فحدِّث ولا حرج عن تجاهل أي حركة شيعية لا تدين بالولاء لـ”حزب الله”، كما جرى مع السيد محمد حسن الأمين او مع مالك مروة او الراحل الكبير السيد هاني فحص او او…او حتى العلامة السيد محمد حسن فضل الله الذي صرح بأن “الذين يلتزمون ولاية الفقيه لا بد لهم ان يدرسوا الامور على اساس التوفيق بين ما هي مصلحة البلد الذي يعيشون فيه وما هو رأي الفقيه. وعليهم ان يناقشوا الفقيه. فهو ليس شخصا معصوما بل هو يخطئ ويصيب. وعليه ان يستشير الناس في ما يصدر عنه من آراء وتعليمات ومواقف. وانني اعتقد ان الذين يلتزمون ولاية الفقيه لا ينبغي لهم ان يلتزموا التزاما اعمى وانما يجب ان يدرسوا ما يصدر عنه لكي يعرفوا من خلال ذلك هل اخطأ او اصاب فيه. وهذا لا يقتصر على الذين يلتزمون ولاية الفقيه وانما الناس الذين يلتزمون فتاوى المرجعيات الدينية”.
ولكن لم نجد في قوى “14 آذار”،حتى قبل انزلاقها الى تنازلاتها القاتلة، من يتبنى مثل هذا التوجه ويشبك مع مثل هذه الشخصيات لمواجهة هيمنة “حزب الله” ومن خلفه إيران من جهة، وللمساهمة في فتح المجال امام الشيعة غير المحسوبين على الحزب من جهة ثانية، وتوفير منابر وساحات لتحركهم ودعمهم بما يفترض، حتى لا يعودوا الى حضن الحزب او يصمتوا خوفاً من هيمنته.
واليوم، يطل “لقاء الدولة والمواطنة” معلناً هويته “الشيعية” وكأنه يقول لأحزاب “14 آذار” التي تواصل انزلاقها الى الذمية الحزب الهية: لا نستطيع الاتكال عليكم، لكننا سنحاول التحرك من الداخل، فلا أحزاب “14 آذار” حاولت فتح المجال ولا الأحزاب التي تدّعي علمانيتها ومدنيتها أعلنت رفضها مصادرة “حزب الله” للدولة اللبنانية واكتفت بمهاجمة جزئية لرموز السلطة. نحن نخاطر ونعرف أساليب من نواجه. لكن لا بد من المحاولة.
sanaa.aljack@gmail.com
المصدر: “النهار”