الإجابة على هذا السؤال
ليست بالأمر السّهل. إذ أنّ الأمر يحتاج إلى خلفيّة ذهنيّة فرديّة، تستند إلى موروث حضاري واجتماعي، تدفعه إلى مساءلة نفسه وإلى إجراء حساب نفس. إنّ حساب النّفس الفرديّ يخلق في نهاية المطاف مجتمعًا كاملاً يجري حسابًا ذاتيًّا. من هنا فإنّ المساءلة الذاتية الفرديّة، أي حساب النّفس، هي جوهر وأساس عمليّة الإصلاح الذّاتي. وعندما تكون هذه الركيزة قائمة في حضارة ما، اجتماعيًّا أو دينيًّا، عندئذ تكون لدى الفرد المنتمي لهذه الحضارة آليّة للإصلاح الذاتي وتجاوز الأخطاء والخطايا على شتّى أنواعها.
المعضلة الكبرى التي تواجه العربيّ منذ أن ظهر على مسرح التاريخ هي انعدام وجود مثل هذه الآليّة، أي آلية حساب النفس، في حياته منذ فترة الجاهليّة مرورًا بالإسلام وانتهاء بحاله في هذه الأيّام. وعندما تكون الحال على هذا المنوال مضافًا إليها جوهر في التركيبة المجتمعيّة العربيّة يحكمها ويُحدّد مسيرها ومصيرها، ألا وهو المبدأ الأعلى، مبدأ الأنساب البيولوجيّة دون غيرها، أي مبدأ القبليّة على ما يشتمل من عصبيّات، فإنّ الحال العربية تُضحي أكثر عواصة.
ولمّا كانت هذه البقعة من الأرض تضمّ خليطًا غريبًا عجيبًا من الإثنيّات والملل والنّحل الغارقة في الغيبيّات دون أن تستطيع الإفلات منها، فإنّ الطريق إلى التّفتُّت البشري تصبح سالكة داخليًّا، أيّ داخل هذه المجتمعات فيما بينها. كما وتصبح الطريق سالكة أمام قوى خارجية للولوج من هذه النافذة إلى هذه البقعة من الأرض بغية الحفاظ على المصالح وفوق كلّ ذلك تحقيق الأطماع.
لا شكّ أنّ الحنين
إلى الماضي هو جزء من الطبيعة البشريّة على العموم. هذا الحنين يطرق الذهنية البشرية مع تقدّم الإنسان في السنّ، ولذا يمكن أن نضع هذه الحالة في خانة الصراع مع الزّمن الذي يسير دائمًا وأبدًا قُدمًا، ولا يرجع للوراء قيد أنملة أو ثانية. كذا هي حال الزمن السيّار إلى ما لا نهاية، وهو لا يفرّق بين العرب والعجم ولا بين البيضان والسودان.
ولكن، ومن جهة أخرى،
فإنّ الحنين إلى الماضي قد يضحي مرضًا عضالاً إذا تحوّل إلى حال من الشلل العام في التّعامل مع حاضر الفرد واستشراف مستقبله. وعندما تكون هذه الحال ليست حالاً فرديّة بل حال مجموع بشريّ – قوم أو شعب أو أمّة – فقد يمسي هذا المجموع شراذم بشرية تهيم على وجهها في خضمّ محيط بشري مترامي الأطراف ومتلاطم الأمواج في آن.
فلو نظرنا إلى هذا الحنين العربي الإسلامي إلى ذلك الماضي البعيد، أي إلى مرحلة البداية الإسلامية مرحلة الخلافة الراشدة، والتي يعتبرونها ذروة الطموحات، ويقومون بتجميلها في ذهنية العامّة بكلّ أصناف التشبيهات والاستعارات، فذلك يعني أنّ عيون العرب والمسلمين مشدودة دومًا نحو الوراء. فإذا كانت الطموحات هي الماضي، فما من دافع يدفع المرء إلى استشراف المستقبل.
غير أنّ النّظرة
إلى عصر الراشدين وكأنه عصر ذهبيّ ليس سوى شعار لا يستند إلى حقائق تاريخية، بل هو مجرّد وضع مساحيق تجميلية على تلك الفترة بغية إخفاء قبح الحاضر والماضي معًا. يكفي أن نقرأ خبرًا واحدًا عن ذلك ”العصر الذهبي“ لكي نفهم مدى زيف هذه النّظرة إلى ذلك الماضي. فها هو الطبري يروي لنا في تاريخه خبر مقتل عثمان: ”وأمّا عمرو بن الحمق فوثب على عثمان، فجلس على صدره وبه رمق، فطعنه تسع طعنات. قال عمرو: فأمّا ثلاث منهنّ فإنّي طعنتهنّ إيّاه لله، وأمّا ستّ فإنّ طعنتهنّ إيّاه لما كان في صدري عليه.“
ليس هذا فحسب، بل لقد ألقيت جثّة عثمان في دمنة حتّى نهشت الكلاب قدمه. وقد بقي مرميًّا ثلاثة أيّام، كما يذكر ابن أعثم في كتاب الفتوح: ”وبقي عثمان ثلاثة أيّام دون أن يُدفن حتّى كاد أن يتغيّر. وقال أحد كبار الخارجين من أهل مصر ويدعى عبد الله بن سحراد: لن نرضى بدفنه في مقابر المسلمين لأنّه ليس مسلمًا“. وهذا مجرّد غيض من فيض ممّا ينضح به هذا التاريخ العربي وتلك ”العصور الذهبية“ التي يطمح إليها من يحنّ إلى الماضي. ألا تذكّر هذه الأخبار بما يجري في هذا الأوان؟ ألا تذكّر بما كان من حال قتل وسحل القذافي على سبيل المثال، وبما سيؤول إليه مصير من هم على شاكلته في بلاد العرب والمسلمين؟
إنّ جذور العنف هذه
قائمة في أساس التركيبة المجتمعيّة. فنحن العرب لم نعرف طوال تاريخنا القديم والحديث معنى ”الدولة“، بما يحمله هذا المصطلح من معانٍ. إنّ الأنساب البيولوجية هي التي تتشكّل منها الدولة في الذهنية العربية، أي إنّ القبيلة هي الوحدة السياسية التي يتحرّك فيها العربي ويتعامل مع العالم من خلالها. وليست العلاقات القائمة بين القبائل سوى شكل من أشكال العلاقات الدبلوماسية بين الدول. وهي قبائل – دول – قد تتكاتل أحيانًا ثمّ ما تلبث أن تتقاتل، كما هي حال العرب على مرّ التاريخ.
من هنا، فإنّه ومنذ نشوء الإسلام كان الصّراع على السلطة في هذه البقعة من الأرض صراعًا قبليًّا في الأساس، ولم يكن في يوم من الأيّام صراعًا حول رؤيا أو أيديولوجية بعينها. لقد ألبس طالبو السلطة صراعهم بلباس ديني هنا وهناك غير أنّ الجوهر كان جوهرًا قبليًّا ليس إلاّ.
على العموم، يمكن وصف الحال العربية بأنّها حال طفوليّة على جميع الأصعدة. والأنكى من كلّ ذلك هو أنّها طفولة ممنوعة من التعبير عن ذاتها، سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وعلميًّا وعاطفيًّا إلى آخر قائمة مسالك التعبير البشري. ولهذا السبب فإنّ التعبير الوحيد الذي تبقّى أمام هذا المجموع البشري هو تعبير العنف، وهو العنف الذي نشاهد إسقاطاته في كلّ صقع من أصقاع العرب.
لا مناص من العودة إلى التأكيد على طريق الخروج من هذه الدوامات اللانهائية. إنّها طريق فصل الدين عن الدولة، فصل الطائفة عن الدولة، فصل القبيلة عن الدولة، وإقامة الدستور المدني الذي يتساوى فيه الأفراد، رجالاً ونساء، في كلّ ماحي الحياة، أمام القانون المدني.
هذه هي الطريق ولا طريق سواها. وهذه هي الحقيقة المرّة، ولا يمكن المضيّ في دسّ الرؤوس في هذه الرمال العربية.
أليس كذلك؟
نُشِر في “إيلاف”