“النهار” – فيفيان عقيقي
للمجتمع الدرزي عقيدة تحكم تقسيماته الداخليّة التي تطغى عليها الطبقيّة. فهو من الناحية الدينيّة ينقسم إلى روحاني بيده أسرار الطائفة ومؤلّف من الرؤساء والعقلاء والأجاويد، وإلى جثماني يبحث في الدنيويات ومؤلّف من الأمراء والجهال. الجاهل هو درزي لا يعلم عن الدين سوى القليل، لا ينتقل إلى طبقة العقّال إلّا بعد امتحان صعب يكتسب على أثره ثقة الشيوخ الذين يدركون أسرار الدين. لا تغيب هذه الطبقيّة في التقسيم الديني عن الناحية الاجتماعيّة حيث يسود النظام الإقطاعي منذ قرون عدّة، فتخضع القرى لشيخ مختار من أمير يرث ملكه وسلطانه أباً عن جدّ، إذ يرفض الدروز منذ عصورهم الأولى الخضوع إلّا لمشايخهم ولا يعترفون إلّا بسلطة أمرائهم حفاظاً على ما يعتبرونه خصوصيّة داخليّة.
في مقابل هذه التقسيمات لطالما شهد المجتمع الدرزي انقساماً سياسياً، بدأ بصراعٍ قيسي – يمني انتهى في معركة عين دارة عام 1711 بانتصار الحزب الأوّل وهروب الثاني إلى جبل حوران (جبل دروز)، ليتقاسم اليزبكيون والجنبلاطيون (ينتميان إلى الحزب القيسي) زعامة الطائفة منذ القرن الثامن عشر، قبل أن ينقسما بين إرسلانيين وجنبلاطيين ويشتدّ خلافهما في القرن التاسع عشر، إلى أن رجحت كفّة الفريق الثاني مع كمال جنبلاط مطلع الحرب اللبنانيّة واستمرّت مع وريثه حتى عام 2005 بدعم من النظام السوري، ولم تتّحد الطائفة طوال هذه الفترة إلّا خلال حرب 1982 – 1983 التي شهدت مجازر دمويّة انضمّت إلى سابقاتها في تاريخ هذا الجبل.
محاولات تغيير خجولة
لم يشهد التاريخ الدرزي تاريخياً محاولات داخليّة للانقلاب على هذه التركيبة الطبقيّة الاقطاعيّة الدينيّة أو تطويرها بما يواكب أسس الديموقراطيّة والحريّة، بل لطالما كان المجتمع سداً منيعاً في وجه أي محاولة تغييريّة. في أحداث 1845 حينما انتفض الفلاحون في وجه إقطاعيي جبل لبنان الجنوبي (الشوف حالياً – مجتمع خليط من الموارنة والدروز)، تحوّلت الانتفاضة إلى خلاف طائفي ماروني – درزي، إذ رأى فيها الدروز خطراً وجودياً على تركيبتهم المجتمعيّة فارتكبت مجازر بحقّ الفلاحين الموارنة، وصولاً إلى ثورة الفلاحين التي انطلقت عام 1858 من جبل لبنان الشمالي (كسروان حالياً – مجتمع ماروني فقط) وأدّت إلى تحويل النظام السياسي في القسم الشمالي من إقطاعي إلى شعبي بقيادة طانيوس شاهين، ولكنها أسفرت عن مجازر عام 1860 عندما وصلت “الثورة” إلى القسم الجنوبي من الجبل، نتيجة وقوف الفلاحين والإقطاعيين الدروز مجدّداً صفاً واحداً في وجه الفلاحين الموارنة حفاظاً على خصوصيّة طائفتهم الداخليّة.
في التاريخ الحديث، تُعتبر محاولة “تيار التوحيد اللبناني” الذي أسّسه وئام وهّاب عام 2006، مدعوماً من سوريا وحزب الله، هي الأبرز، فقد رفع شعار محاربة الإقطاع السياسي داخل الطائفة، منطلقاً من ضرورة عدم إلغاء الأصوات المعارضة أو تهميشها لمصلحة النظام الإقطاعي التاريخي. بعدما انكمش صوت وهّاب، ارتفع صوت مجموعة شبابيّة يقودها ريدان حرب، الخارج من عالم الرياضة (رئيس نادي لبنان الدولي) إلى ميدان السياسة. مجموعة أسّست “حزب الوجود” في أواخر عام 2013، من ضمن أهدافها القضاء على الإقطاعيّة المستفحلة في الجبل. أطلقت حملة في هذا الإطار بالتزامن مع ما يسوّق عن نيّة النائب وليد جنبلاط الاستقالة من مجلس النواب وتوريث مقعده في الجبل معطوفاً على الزعامة الجنبلاطيّة إلى ابنه تيمور، وعن إعداد النائب طلال أرسلان العدّة لنقل الزعامة الإرسلانيّة إلى ابنه مجيد، فيكون تيمور ومجيد امتداداً لتاريخ العائلتين السياسيتين وتجذيراً للتقليديّة داخل الطائفة.
“محاربة الإقطاع في كل أشكاله هو بند من بنود الحزب الذي أسّسناه. إن استمرار انتقال السلطة وفق المنطق التوريثي لا وفق العقل والرؤية والفكر، سيقودنا إلى أزمة. هذا هو بيت القصيد، وهذا هو خلافنا مع الإقطاعيين”، وفق ما يؤكّد حرب لـ”النهار”، ويضيف: “نحن نواجه التوريث الموجود في كلّ لبنان ونجابهه. شعبنا عاطفي وغرائزي أسلم أمره إلى أولئك، لذلك نعمل على توجيه رسائل لحضهم على سماع صوت العقل لا الغريزة، ولو كان تقدّمنا بطيئاً. نحن لا نتكل على أي جهة أو بلد، وإنما على الشباب الذين تكتلوا وتمرّدوا على هذا الواقع، رفعنا الصوت وحصدنا تجاوباً في كلّ قرى الشوف والجبل وعاليه وحاصبيا وراشيا وأقليم الخروب. هناك نقمة لدى الناس في الجبل الذين يعانون من بطش الإقطاع، ومن إهمال المنطقة التي لم تلحظ أي مشروع اجتماعي أو مؤسّسة عامّة منذ أكثر من ثلاثين عاماً”.
طروحات وطموحات تدخل في إطار المنافسة الحرّة والديموقراطيّة، بحسب ما يقول مفوّض الإعلام في الحزب التقدّمي الاشتراكي، رامي الريّس لـ”النهار”، ويضيف: “الجبل مفتوح لكلّ الاتجاهات السياسيّة والفكريّة، ويحقّ لكلّ فريق أن يعبّر عن وجهة نظره. المنافسة ديموقراطيّة وتالياً لا يمكننا تحليل مدى نجاح الأحزاب الأخرى في إحداث خرق في الجبل، لأن صناديق الاقتراع هي التي تحدّد الأحجام في نهاية المطاف”.
بين ثقافة الرفض وعادة الخضوع
الديناميّة والحراك داخل المجتمع الدرزي مفقودتان بحسب المحلّل السياسي في جريدة “النهار” ابرهيم بيرم، الذي يقول: “يتميّز الدروز بوجود كتلة وازنة تستلم زمام القيادة. لقد انقسم الدروز تاريخياً بين حزبين يزبكي – جنبلاطي تحوّل لاحقاً إرسلاني – جنبلاطي، كانت الغلبة بداية للإرسلانيين، قبل أن يتساووا ليستلم الجنبلاطيون الدفّة لاحقاً. في فترات الحروب أو الاضطرابات يتكتل الدروز في ما بينهم بخلاف أوقات السلم حيث قد نشهد حراكاً داخلياً. بعد الحرب لطالما كانت المختارة مرجعيّتهم، شهدنا على الحالة التي أسّسها وئام وهاب ولكنّها بقيت صغيرة، واليوم يبدو أن نمو هذه الحالة الجديدة ليس بالأمر السهل في ظلّ الأخطار التي تعصف بالطائفة في سوريا، والخوف الذي يعتريهم نتيجة الموقف الذي يأخذه زعيمهم النائب وليد جنبلاط. إن نشر ثقافة الرفض والتجرؤ على الوقوف في وجه الإقطاع هما ما أعطيا وزناً لحالة وهاب، لكن رغم ذلك بقيت المرجعيّة واحدة ولم تتصدّع بسهولة”.
إن حصول أي خرق داخل هذه التركيبة الجامدة صعبٌ لكنه ليس مستحيلاً، ويقول بيرم: “خرق من هذا النوع بحاجة إلى شروط وأجواء مختلفة عمّا نشهده راهناً، يحتاج إلى هدوء وارتياح في نفوس أبناء الطائفة لا أن يكونوا في حالة خوف على وجودهم، كما أنه يحتاج إلى إضعاف جنبلاط وورثته سياسياً، أو تكوين قوّة وازنة في وجههم”.
يبقى التوريث السياسي ظاهرة في لبنان ومنظومة تقليديّة تتحكّم فيه، لا تقتصر على جماعة معيّنة وإنّما هي عابرة للطوائف، قد تكون الطائفة الشيعيّة هي أبرز من انتفض على الإقطاع، مع ثورة الجياع التي قادها الإمام موسى الصدر، فأقصت كلّ رموزه قبل أن تحكمها أحاديّة يطغى عليها الطابع الديني، كما كان للمسيحيين ثوراتهم الداخليّة بدءاً من القرن التاسع عشر مع فلاحي كسروان الذين أقصوا المشايخ والإقطاعيين وطردوهم من قصورهم، وصولاً إلى الحرب اللبنانيّة التي أنجبت زعيمين أحدهما عسكري ابن بائع حليب من حارة حريك الفقيرة (رئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون) والثاني طبيب ابن فلّاح من بشري (رئيس القوات اللبنانيّة سمير جعجع).
Twitter : @VIVIANEAKIKI
نقلاً عن “النهار”