المتابع للشأن السياسي العراقي المعقد والمرير يلاحظ عدداً من المتغيرات الهامة على الساحة العراقية وحتى محيطها الإقليمي. هذه المتغيرات تستدعي بالضرورة إعادة النظر بالمنهج الذي إعتمد في تشكيل الوزارات السابقة، إضافة الى تركيبها وأسس تركيبها أي مبدأ المحاصصة الذي ثبت فشله وأضحى عاملاً سلبياً ومعرقلاً للسلطة التنفيذية في تحقيق الأمن وإعادة بناء البلاد. بالطبع عندما نشير الى ضرورة التغيير، فإن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال تجاهل السلطة التشريعية والمؤسسات المنتخبة من الشعب، ولا يعني ذلك الإتكاء على عوامل إقليمية أو دولية للإطاحة بحكومة المالكي كما يروج البعض بذلك بالسر والعلن أحياناً. إن ما نقصده هو أن هناك متغيرات كبيرة حدثت منذ تشكيل الوزارة الحالية تستدعي بالضرورة إعتماد برنامج يتناسب مع أولويات هذه المتغيرات ومع أسس لتركيبة وزارية هي الأخرى تأخذ بنظر الإعتبار هذه المتغيرات ونتائجها علاوة على تجربة السنة الماضية وأسسها.
إن اولى هذه المتغيرات هي الضغوط الداخلية والخارجية التي تتعرض لها الإدارة الأمريكية وحلفائها من أجل إعادة النظر في وجودها العسكري في العراق، سواء بجدولة الإنسحاب أو استراتيجيته. وتتراوح هذه المطالبة الداخلية في الولايات المتحدة بين التنافس الحزبي والصراعات السياسية بين الأحزاب على وجه الخصوص، وبين التبعات المالية والإنسانية التي تتحملها بلدان التحالف. وهذا يعني أن أمام الحكومة العراقية والعراقيين عموماً مواجهة مهمة خطيرة وحساسة وهي ملأ الفراغ الأمني الذي يفرضه أي إنسحاب لهذه القوات أو حتى إعادة إنتشار لها، وإلا سيتحول العراق إلى ساحة أكثر سخونة من الوضع الحالي وما يتركه من عواقب إقليمية ودولية.
المتغير الآخر هو التطور الحاصل في القوات المسلحة العراقية بالرغم من بطئه. فقد أخذت هذه القوات تخطو خطوات وتنحى في بنائها المنحى المسلكي والولاء للعراق وليس لأحزاب أو ميليشيات عبثية. وتمثل ذلك في الشروع في تطهير هذه القوات من الفوضويين والعبثيين والمتحزبين واختراقات فلول أجهزة النظام السابق والإرهابيين مما بدى تأثيره إيجابياً على أدائها في الأونة الأخيرة. وهناك مزيد من الخطوات ينبغي القيام بها لتحرير هذه القوات من قبضة الاحزاب بكل ألوانها، إضافة إلى تطويرتسليحها بشكل سريع ومنظم. إن إعادة بناء القوات المسلحة على أساس مهني ومسلكي وإحتفاظ الدولة وحدها بالسلاح هي ضمانة أكيدة لفرض الأمن في البلاد والشروع بإعادة بناء هذا البلاد الخربة على أسس ديمقراطية يحترم فيها القانون.
وهناك أيضاً إصطفاف جديد سواء على نطاق الأحزاب السياسية او الكتل الإنتخابية أو حتى على النطاق الشعبي والرأي العام عموماً. فهناك تصدع في قائمة الإئتلاف الموحد تمثل في خروج حزب الفضيلة من هذا الإئتلاف، علاوة على الموقف المعارض لمجموعة مقتدى الصدر لكل مواقف الإئتلاف وخروج وزرائه من التركيبة الحالية لمجلس الوزراء. إن التصدع في قائمة الإئتلاف بلغ حد المناوشات وحتى المواجهات الساخنة بين أطراف فيه وخاصة مع مجموعة مقتدى الصدر. ولهذا فهناك أكثر من مؤشر على سحب المرجعية لدعمها السابق لهذه القائمة، هذا الدعم الذي تورطت فيه إبان الإنتخابات التي جرت في السنوات السابقة. وينطبق نفس الأمر على القائمة الوطنية العراقية التي لوحظ التعارض في مواقف أطراف فيها عند التصويت في مجلس النواب، وتعارض مواقف بعضها مع موقف الدكتور أياد علاوي وتحركه العربي والدولي وعدم نشاطه في العراق بل تركيزه على التحرك الإقليمي والدولي. وطال هذا التصدع في القائمة العراقية أحد نوابها في مجلس النواب الذي أعلن إنسحابه من الكتلة النيابية. ولا يستثنى من ذلك حتى قائمة التوافق والحوار والمصالحة وغيرهم من الذين أدين بعضهم بالتلاعب بالمال العام أو أنهم لم يعودوا يمثلون ناخبيهم الى حد بعيد في الموقف السياسي وسوف لا يتم إنتخابهم في أية إنتخابات قادمة.
ولعل أبرز المتغيرات هو ما يجري الآن في محافظة الأنبار وديالى من شروع أهالي هذه الديار الى التغيير الجذري في موقفهم السابق من التعاطف مع المسلحين والتكفيريين ومجاميع القاعدة أو دعاة “المقاومة” أو السكوت على هذه الزمر وممارساتها خوفاً أو إرتهاناً لها، وتحولهم الآن الى قوى المواجهة في تصفية هذه الزمر المدمرة. وهذا يشكل أكبر تغيير في الإصطفاف السياسي في البلاد. إن متابعة لمشهد التصدي للتكفيريين وأنصار القاعدة ودولتهم الإسلامية المنبوذة في محافظة الأنبار أمر متوقع لأن هذه الزمر من بقايا أجهزة صدام القمعية أو أوباش القاعدة الغرباء لايريدون الا الدمار والقتل للعراقيين بغض النظر عن طوائفهم ومذاهبهم. إنهم جمدوا الحياة وسدوا أبواب أرزاق الأهالي وفرضوا نمطاً من السلطة والتجبر أشد قسوة من سلفهم صدام حسين. فجامعة الأنبار اغلقت وهرب اساتذتها الى خارج الحدود ولحق بهم الاطباء ورجال الاعمال واجبرت النساء على التقوقع في بيوتهن ونصبت المحاكم القراقوشية بشكل لم يشهده العراقيون. وليس من قبيل الصدفة ان يتصدى اهالي العامرية لهذه الزمر في الايام الاخيرة ويستنجدوا بالقوات العراقية والامريكية لإنقاذهم من شبكات المجرمين الغرباء وأن يوجه الحزب الإسلامي العراقي أخيراً وبعد تردد سهام الإدانة بعد أن أصبح أحد أهداف هؤلاء العديمي الدين. وهذا مؤشر على إصفاف جديد في القوى الإجتماعية والسياسية في البلاد ونزعة الأكثرية الى التعاون لإعادة الأمن الى البلاد.
ولابد أن نشير الى أمر هام برز خلال الفترة الأخيرة وهو مآل الصراع المذهبي والطائفي. فعلى الرغم من كل الخطط التي وضعها عملاء “القاعدة” في العراق وفلول النظام السابق في تفجير المواجهة الطائفية لخلق حالة دائمة من عدم الإستقرار في البلاد، الا أن هذا المشروع المدمر بقي في إطار نخبوي ولم يتحول الى ظاهرة مواجهة شعبية بين العراقيين. فلو تحولت الساحة العراقية الى مواجهة شعبية في المواجهات الطائفية لما بقي أي ركن من أركان العراق سالماً وتنعدم كل
الآفاق لإرساء الإستقرار في البلاد. نعم أن هذا المشروع الجهنمي مازال يلحق الأذى ويعرقل إستتباب الأمن ويؤدي الى حالات مأساوية من القتل والتهجير بواجهة سنية أو شيعية، الا أن أفعال هذه الزمر تتخذ طابعاً إرهابياً وعبثياً عشوائياً بحتا، و تبقى معزولة عن الوسط الشعبي العراقي. وأصبح واضحا للشارع العراقي أن لهذه الزمر الفوضوية أهداف سياسية لفرض سلطتها وتحميل إرادتها على كل العراقيين إضافة الى تنفيذ مخططات إقليمية ودولية تتعارض مع مصالح العراق.
إن كل المؤشرات وتجارب الحكومات السابقة تشير الى أنها فشلت في القيام بمهماتها بسبب هذه المحاصصة البائسة. فقد ذهب عدد من الوزراء الى تحويل وزراراتهم الى حصن للمريدين أو من لون طائفي ومذهبي معين دون النظر الى الكفاءة والخبرة والقدرة على إنجاز مشاكل المواطنين. كما ذهب الوزير يعلن عن سياسة لا علاقة لها بالبرنامج الحكومي الذي إتفق عليه. فتصريح لرئيس الجمهورية سرعان ما يصدر من نقيض له من أحد نوابه، ويعلن وزير آخر موقفاً آخراً لرئيس الوزراء حول أخطر المشاكل التي تواجه البلاد. ويضطر الوزراء الى التستر على أعمال وعبث قوى مؤتلفة معهم أو التستر على نشاطات مسلحة بما فيها ضد القوات المسلحة العراقية خوفاً من إنهيار نظام “المحاصصة” البائس الى حد أن قوى عديدة مشاركة تتستر على القتلة التكفيريين او الميليشيات التابعة لأطراف أخرى ومنع مثولهم للقضاء جراء قيامهم بأعمال القتل والتخريب مما أفقد هيبة الدولة والوزارات المتعاقبة. ويتسع هذا العبث “المحاصصاتي” ليشمل حتى التستر على نشاطات معادية للعراق من قبل دوائر إقليمية. فهناك طرف يلتزم الصمت أزاء إتهام حكام ايران وتورطهم بدعم المتطرفن وتوريد السلاح الى العراق الى حد نفيه الممل، في حين يرفض الطرف الثاني حتى الحديث عن تدخلات عربية في الشأن العراقي وتسهيل دخول التكفيريين والإنتحاريين الى العراق الى حد تزكية هذا التدخل بإعتباره صادر من دول شقيقة يجب عليها التدخل في العراق بدون أذن. إن أغرب ما يحصل في العراق هو هذا الجشع لتشكيل جيوش لا تدري ما هي مهماتها في ظل تشكل الوحدات العسكرية العراقية. إن البعض ممن في الحكومة أو في مجلس النواب يقوم مثلاً بتشكيل جيش المهدي!! فأفراد هذا الجيش لا يقومون بعملية بناء وتنظيف المدن بل تدمير مستمر وعبث بالسلاح، و “شايشين” يصولون ويجولون بأسلحتهم في مناطق آمنة تارة في الديوانية وأخرى في الكوت أو السماوة ولا تعرف ما هو هدفهم. كل هذه المظاهر نتيجة طبيعية لهذه المحاصصة البائسة التي إبتلى بها العراقيون شر بلاء. فالحكومة مشلولة ولا يستطيع رئيس الوزراء أن ينفذ برنامجه الإنتخابي نتيجة للضغوط التي تمارس ضد أية خطوة يخطوها لصالح إستتباب الوضع وعرقلتها.
إن أهم خطوة تواجه العراقيين هو التفكير بإسلوب جديد في تشكيل مجلس وزراء جديد يجمع بين الإستحقاق الإنتخابي وبين الحد من نظام المحاصصة والإعتماد على الكفاءات المهنية العراقية وما أكثرها لإخراج البلاد من عنق الزجاجة. العراقيون ترتفع أصواتهم الى حد الإنفجار جراء الجمود في معالجة الوضع المتردي، والبوادر الإحتجاجية والغليان الشعبي أخذ بالظهور. ولا بد من تفكير جديد وتشكيل حكومة بعيداً عن الأنانية الحزبية والطائفية المقيتة وبعيداً عن ثقافة العنف والخناجر والبنادق كي يستطيع العراقيون العيش كسائر خلق الله بأمن وسلام.
adelmhaba@yahoo.co.uk
* كاتب عراقي