كواحد من الأغلبية المحبطة من أبناء هذه الأمة المنكوبة يؤرقنى دائماً هذا التساؤل متى سنتجاوز كل هذه العقبات التى تعترض سبيلنا ونلحق بركب الأمم المتقدمة ويكون لنا إسهامً حضاري يعيد لنا إحترام العالم ويجعلنا نفخر بإنتمائنا الى هذه الأمة .
وكبداية منطقية حاولت أن أشخص حالتنا، ولم تكن المهمة سهلة كما تصورت، إذ أنه لا يوجد إجماع على أى شىء وهذه مشكلة ليست بالجديدة فى كل تاريخنا سواء القديم أو المعاصر، أى أنه حتى مجرد تشخيص حالتنا يعتبر معضلة كبيرة فما بالك بالعلاج فالحاصل أن هناك أقلية صغيرة من الانتهازيين والمنتفعين من الأوضاع القائمة لا يرون أننا نعانى من أى مشاكل وإننا نحقق إنجازات يومية يحسدنا العالم كله عليها وإذا كانت لدينا بعض المشاكل “الصغيرة” هنا وهناك فإن العالم كله يعانى من مشاكل أكبر وأخطر. وهناك الأغلبية الفقيرة التى تعانى فى صمت يدعو الى العجب وهذه الأغلبية تحيل كل المشاكل الصعبة التى نعايشها الى سبب واحد هو البعد عن الدين ولديها قناعة قوية وراسخة بأن كل مشاكلنا ستحل تلقائياً بمجرد عودتنا الى الصراط المستقيم وعندما تسأل وما الذى يحول دون العودة الى هذا الصراط تكون الاجابة أنها تلك الأقلية الانتهازية وعندما تسأل وكيف نتخلص من هؤلاء ، تكون الاجابة أننا فى إنتظار المعجزة !!
أما النخبة المثقفة فإنها تسلم بوجود مشاكل صعبة ومعقدة ولكنهم يرجعونها الى أسباب متنوعة فمنهم من يرى أن مشكلتنا ثقافية بامتياز و تتمثل في تشبع شعوبنا وبقيم وعقائد لا تؤدى الا الى التخلف ، ومنهم من يرى أن مشكلتنا سياسية بالأساس وتتمثل فى حالة استبداد الأنظمة الحاكمة لدينا وغياب الديمقراطية والشفافية ودولة القانون والمؤسسات المستقلة….الخ فكل شيء يدور في فلك الحاكم . وهناك من يرى أن مشكلتنا اقتصادية قبل كل شىء وهذا ما سوف أركز عليه قليلاً فى هذا المقال، وقبل أن أشرع فى هذا أود أن أؤكد على الحقيقة التالية :
أن لدينا بالفعل مشاكل خطيرة وللأسف فان القلة المنتفعة – وهى أيضاً القلة المسيطرة على مقاليد الحكم وكافة المؤسسات السياسية والأمنية والاعلامية – تبث رسالة كاذبة باننا نعيش أزهى عصور الحرية والتقدم والرخاء والرفاهية ولكننا مدللون ونميل الى الشكوى دون مبرر ، والدليل على كذب هؤلاء أننا نأتى دائماً فى ذيل كل المؤشرات الاقتصادية والعلمية والاجتماعية العالمية … الخ التى تقوم بها المؤسسات الدولية وهى مؤشرات محايدة وتقاس بمعايير علمية والأهم من هذا أن أنظمتنا الحاكمة لا تعترض عليها وعلى سبيل المثال لا الحصر :
– تحقق منطقتنا العربية متوسط دخل فردى متدن مقارنة بالعالم كله ويعيش حوالى نصف سكان المنطقة تحت خط الفقر .
– تدهور حالة المستشفيات العامة لدينا وعدم وجود برامج رعاية صحية فعالة للفقراء .
– سوء حالة التعليم لدينا حتى أن جامعتنا باتت تتنازع فيما بينها على احتلال مؤخرة كل القوائم الدولية المعنية بقياس جودة التعليم الجامعى .
ويمكن أن أعرض المزيد من هذه الأمثلة ولكننى أكتفيت فقط بالاشارة الى ثلاثة أمثلة محددة تتعامل مع أهم ثلاث مشاكل نواجهها فى عالمنا العربى وهى الفقر والمرض والجهل ، وبهذا فإننا نفضح بشكل موضوعى أكاذيب القلة المنتفعة بان مجتمعاتنا غنية ومتقدمة وانه ليس فى الامكان أبدع مما كان .
نعود الى قضيتنا الأساسية ألا وهى هل من أمل ؟ وهل ستثمر الجهود التنموية العشوائية التى تقوم بها حكوماتنا عن انفراجة حقيقية بحيث يشعر المواطن العادى بتحسن ملموس فى ظروفه المعيشية وهو ما سيؤدى بالضرورة الى تحرره من أغلال الفقر والتطرف وغياب العقلانية ومن ثم إنطلاق قدراته الابداعية وتحقيق ما نصبوا إليه جميعاً من العيش فى مجتمعات مستقرة تنشد التقدم وتكافح التخلف والتطرف وتسهم بشكل بناء فى مسيرة إعمار الأرض بدلاً من تخريبها وتصدير العنف والارهاب الى شتى أنحاء العالم .
وبداية أقول أن مشكلتنا المحورية هى حالة التخلف الاقتصادى وعندما يقال لك أن مجتمعاً ما يعانى من حالة تخلف اقتصادى فإنه يمكنك أن تجزم بنسبة يقين 100% أن هذا المجتمع متخلف أيضاً سياسياً وحضارياً وعلمياً وثقافياً وأخلاقياً وفنياً وأدبياً ورياضياً … الخ. ومصيبتنا الكبرى الآن هى أننا نضيع الكثير من الوقت والجهد من أجل معرفة الأسباب التاريخية وراء حالة التخلف هذه ، وانتهينا بالفعل الى حالة صدام حاد مع بعضنا البعض فقط من أجل معرفة أسباب تخلفنا وذلك لاختلاف الرؤى والمعتقدات والانتماءات وتبنى الشعارات الغامضة وبات جلياً أن هذا الطريق لن يؤدى إلا إلى النزاع والاختلاف ، وبدلاً من هذا فإننا نرى أنه ينبغى أن نتغاضى عن معرفة الجذور التاريخية لمظاهر التخلف المتعددة فى حياتنا رغم أهمية هذا ولكن فى حالتنا نحن بالذات والتى تتميز بالكثير من التعقيدات والمخاطر فإنه يتعين علينا أن نفكر فى طرق العلاج مباشرة ولعلى أوضح هذا بمثال بسيط ، هب أن طبيباً أمام شخص مصاب بالتهاب رئوى، هنا سوف يمطر الطبيب العادى هذا المريض وأهله بالأسئلة المعتادة عما اذا كان السبب عدوى أم إهمال لحالة إنفلونزا عادية أم بسبب التدخين أو عامل الوراثة أو بسبب السفر أو تغيير الجو … الخ بالطبع هذه الأسئلة مفيدة لتشخيص الحالة بدقة ومن ثم البدء فى العلاج المناسب ، ولكن فى حالتنا فإن المريض مصاب بما هو أخطر والأسباب المحتملة أكثر تعقيداً ومن ثم فإن الطبيب الحاذق عليه أن يبدأ فى محاولة العلاج بالطريقة الأكثر شيوعاً والتى جربت من قبل مع هذه الحالة وأثبتت فعاليتها مع غالبية المرضى بغض النظر عن معرفة السبب .
وحيث أننى من المعتقدين بقوة – وقد أكون مخطئاً فى هذا – بان مشكلتنا اقتصادية بالأساس ، وأننا لو نجحنا فى تحقيق دفعة اقتصادية قوية لمجتمعاتنا فإن باقى المشاكل سوف تبدأ فى الانفراج بشكل تلقائى ، وبمعنى آخر فإنه لن يمكننا التعامل مع كل التشوهات التى تسود مجتمعاتنا مرة واحدة فمثلاً لن يمكننا فى هذه المرحلة من حياة شعوبنا التخلص من ظاهرة استبداد أنظمة الحكم لدينا وتأسيس مجتمعات ديمقراطية تقوم على الشفافية والمساءلة … الخ والسبب فى هذا طبيعة شعوبنا المستكينة وما تتمتع به أنظمة الحكم من دعم خارجى قوى وحماية داخلية من المجالس النيابية الصورية القائمة وأجهزة الأمن والاعلام والقضاء والأهم من كل هذا المؤسسات الدينية الرسمية ، إذاً فإن محاولة الاصلاح عن طريق التركيز فقط على طرق هذا الباب وحده ( باب الاستبداد ) لن تجدى فى هذه المرحلة ولكن بإمكاننا الضغط على هذه الأنطمة لتبنى برامج اصلاح اقتصادية فعالة تهدف بالأساس الى تحقيق تنمية اقتصادية مستدامة . “Sustainable” وهذه الأخيرة تعتمد بشكل أساسى على ما يلى:
(1) توزيع الدخل وعوائد التنمية بشكل عادل، أما الحاصل الآن فإن كبار الرأسماليين خاصة المقربين من السلطة الحاكمة يتمتعون بمعظم ثمار التنمية ويلقون بالفتات للغالبية الفقيرة. ينبغى الضغط على هؤلاء وعلى الحكومات من خلال النخب المثقفة والمخلصة ومنظمات المجتمع المدنى الداخلية والغربية لاجبارهم على تبنى برامج ومبادرات إجتماعية تهدف بشكل أساسى لتحسين التعليم والصحة بإعتبارهما الركيزتان الآساسيتان لتقدم أى مجتمع وزيادة وعى أفراده ومساعدتهم على الانخراط فى الشأن العام والمطالبة بحقوقهم العادلة .
(2) الاستخدام الكفء للموارد الاقتصادية والتشهير بعمليات الفساد . والحاصل الآن أن هناك هدراً كبيراً لموارد الشعوب العربية فى مشاريع دعائية تراعى البعد المظهرى أكثر من البعد التنموى مثل إقامة ناطحات السحاب والعقارات والمراكز التجارية التى تتسم بالفخامة الشديدة التى لا تجد مثيلاً لها فى أكثر دول العالم غنى، ومن المظاهر الواضحة لسوء إدارة الفوائض المالية الضخمة التى تتمتع بها الكثير من الدول العربية الآن هو تشجيع إقامة شركات الوساطات المالية المنتشرة بشكل مبالغ فيه فى العالم العربى وهذه الشركات ومنها عدد لا بأس به من الشركات الأجنبية تشجع الأفراد على عمليات المضاربة على الأسهم المحلية وكما هو معروف فإن عمليات المضاربة بكافة أنواعها سواء على الأسهم أو السلع أو العملات وحتى الـ Hedge Funds تعنى بإختصار شديد أن شخصاً ما يربح ما يخسره شخص آخر بحيث تكون المحصلة النهائية صفر ، والأهم من ذلك أن شركات الوساطات المالية هذه تعمل على توجيه جزء كبير من المدخرات المحلية الى الأسواق المالية الأجنبية وهذا بالطبع يحرم الأغلبية الفقيرة من حقها الطبيعى فى هذه الثروات التى كان من الأجدى توجيهها الى مشروعات تنموية حقيقية تسهم فى تحسين مشكلتى الفقر والبطالة المتفشيتين .
(3) وأخيراً العمل على تقدم المجتمع تكنولوجياً لأنه بدون تقدم تقنى سيصعب علينا اللحاق بقطار العولمة المفروض علينا من العالم المتقدم ، والبعض يهون كثيراً أو ينظر بعدوانية شديدة لمسألة العولمة ويرى أن مصلحة شعوبنا تتمثل فى الابتعاد عنها وهذا خيار خطير لأنه يعنى العزلة عن العالم والمزيد من التخلف والتراجع .
صحيح أن العولمة كما أسلفنا فرضت على العالم بواسطة أغنياؤه ولكنها تبقى مسألة إختيارية وليست جبرية ولكن كونها أصبحت خيار العالم أجمع فانها لم تعد خياراً لأن البديل الوحيد المتاح غيرها هو العزلة والانكفاء على الذات والتخلف عن العالم كله . والعولمة بتبسيط شديد تهدف الى إعادة تخصيص كل الموارد من خلال قوى السوق الحرة وتقليص دور الحكومات فى إدارة الاقتصاد بالاضافة الى تشجيع عمليات التجارة الدولية الحرة والتى سينجح فيها الأقوى من حيث القدرات التكنولوجية ولهذا نوهنا الى أهمية تنمية هذه القدرات لدينا حتى نتمكن من المنافسة والبقاء وضمان نجاح عملية التنمية المستدامة وهى بيت القصيد وأملنا فى التغلب على مشاكلنا حسب ما نراه ونعتقده ، وكما يقول علماء الادارة فإن البقاء لم يكن دائماً للأقوى ولكن كان للأكثر قدرة على التأقلم مع الظروف المتغيرة .
ومرة أخرى فإننا نؤكد على أن عملية النمو الاقتصادى أصبحت مرتبطة إرتباطاً عضوياً بمستوى التقدم التكنولوجى فى أى مجتمع وبدون قدرات تكنولوجية ستتع الفجوة بيننا وبين العالم أجمع وسنظل دائماً فى مؤخرة الأمم .
والخلاصة أن أوجاعنا فى العالم العربى تتزايد يوماً بعد يوم وبعضها بدأ يلتهب بشكل حاد والفجوة تتزايد بيننا وبين سائر دول العالم التى حدد معظمها مساره نحو التقدم وبدأ السير فيه بجدية وعزيمة ، أما نحن فلا زلنا ’ننظِر ونتقاتل داخلياً ونزداد تخلفاً وفقراً ونلقى بالملامة على غيرنا وبدلاً من أن ننظر حولنا ونتعلم فإننا ننظر الى أعلى فى إنتظار المعجزة ، واذا لم نتخلص من طريقتنا هذه فى التعامل مع مشاكلنا فإننا لن نترك لأبنائنا سوى مستقبل أكثر ظلاماً مما نحن فيه .
وبعد فإن أملنا فى مستقبل واعد يعتمد على قدراتنا الذاتية وليس على الآخر كما نعتقد دائما.
Mahmoudyoussef@hotmail.com
مستشار اقتصادي مصري