مما لا شك فيه أن الإنجازات التي حققتها ماليزيا في مسيرتها منذ إستقلالها عن بريطانيا في عام 1957 غير مسبوقة في حالة البلدان الإسلامية، بل يمكن القول أن النموذج الماليزي في النهضة والتنمية هو أحد النماذج الإسلامية القليلة الناجحة إذا ما إستبعدنا النموذج التركي الذي له ظروفه التاريخية والسياسية الخاصة. فهل ماليزيا حقا بحاجة إلى تغيير على نسق ما جرى في بعض البلاد العربية تحت يافطة “الربيع”؟ وهل شعبها مستعد للتضحية بما تحقق له من رخاء وإستقرارا ونماء جريا وراء سراب “ربيع” لا يعلم أحد مآلاته؟ هذه الأسئلة وغيرها طــُرحت مؤخرا على خلفية إستعادة المعارض الماليزي الأشهر “أنور إبراهيم” لحريته كاملة بموجب قرار قضائي تاريخي مفاجيء، لاسيما وأن البلاد مقبلة على إنتخابات عامة في عام 2013 أو أبكر من ذلك.
لقد نجح حزب “أومنو” الحاكم في كوالالمبور منذ 1957 وعبر من توالوا على السلطة من قادتها، إبتداء من تنكو عبدالرحمن وإنتهاء برئيس الوزراء الحالي “نجيب رزاق”، في الإرتقاء بالبلاد وتأمين الإستقرار والأمن لها ومنع حدوث الإنقلابات العسكرية المفضية إلى الدمار والويلات على نحو ما حدث في أماكن كثيرة من العالم الثالث، فأضحت شعوب الأخيرة تتمنى ربع ما تحقق في ماليزيا. غير أن ماليزيا لم تعرف منذ إستقلالها سوى حزب حاكم وحيد. وحينما تدار مقدرات أي بلد بيد حزب واحد على مدى عقود طويلة، دون أن تصاحب العملية تجديدا للدماء أو أخذ مرئيات وتطلعات الأجيال الجديدة في الإعتبار، فإن أمراض الديكتاتورية والشيخوخة والفساد والمحسوبية تجد طريقها نحو جسد الحزب.
وهذا ما حدث لحزب “أومنو” خصوصا حينما آلت قيادتها لسنوات طويلة دون إنقطاع إلى رئيس الوزراء الأسبق “مهاتير محمد”. وهذا الذي يــُعزى إليه الكثير من الإنجازات الرائعة، لم يستسغ أن يبرز في أوساط حزبه شخصية تنافسه على الزعامة، وتعارضه في سياساته، وتؤسس لنفسها فصيلا سياسيا تحت إسم “راكاتان رقيات” (التحالف الشعبي)، حتى لو كانت تلك الشخصية رفيق درب طويل، وساعدا أيمن له، ومرشحا من صنع يديه لخلافته، بل وتربطها به روابط عائلية متينة منذ أن توسط لها للزواج من طبيبة العيون “وان عزيزة وان إسماعيل”، وشهد على عقد قرانهما.
وهكذا تصدر “أنور إبراهيم” المشهد السياسي الماليزي على مدى السنوات الأربع عشرة الماضية متحولا من الرجل الثاني في البلاد إلى ضحية من ضحايا “مهاتير محمد”، بعدما قيل أن الأخير لفق له تهما كيدية جائرة للتخلص منه مثل الإخلال بواجبات منصبه كنائب لرئيس الحكومة ووزير للإقتصاد، والتآمر ضد سياسات ماليزيا الإقتصادية والمالية، وصولا إلى إتهامه بممارسة الشذوذ الجنسي مع سائقه.
والحقيقة أن “أنور إبراهيم” إستغل منصبه وشخصيته الكاريزمية، وتداعيات الأزمة النقدية الآسيوية في عام 1997 ، معطوفا على تداعيات سقوط الديكتاتور سوهارتو في إندونيسيا المجاورة في عام 1998 ليقدم نفسه كبديل سريع لزعيمه وكمنقذ للبلاد من آثار الأزمة النقدية المذكورة. ومنذ تلك اللحظة بدأت متاعبه، خصوصا بعدما حكمت عليه المحكمة الفيدرالية بالسجن في عام 1999 لمدة ست سنوات بتهمة الفساد، قبل أن تضيف إليها في عام 2000 تسع سنوات أخرى عن تهمة ممارسة الشذوذ الجنسي مع حرمانه من كافة حقوقه السياسية.
في هذه الأثناء شمرت زوجته عن سواعدها لتؤسس حزبا جديدا تحت إسم “حزب كيعادلان” (حزب العدالة)، ثم لتشكل إئتلافيا سياسيا يضم كل الجماعات المتضررة من نفوذ “أومنو” وسطوة “مهاتير. وقد مثل هذا الحدث منعطفا هاما في تاريخ البلاد السياسي، ولا سيما بعد أن نجح الإئتلاف في السيطرة على خمس ولايات من ولايات البلاد الثلاث عشرة في إنتخابات عام 2008 العامة، وأستطاع جذب أكثر من 400 عضو، وأسس نحو 218 فرعا في ربوع البلاد. وبتلك النتيجة فقد “أومنو” لأول مرة في تاريخه أغلبية الثلثين في البرلمان.
في التاسع من يناير الجاري، أصدرت محكمة كوالالمبور قرارا تاريخيا مفاجئا، أقرت فيه ببراءة “أنور إبراهيم” من جميع التهم المنسوبة إليه، وأعتبرت أن الأدلة المقدمة ضده لا ترقى لإدانته بتهمة الشذوذ الجنسي، وهي التهمة التي حاول المتهم جاهدا طيلة السنوات الماضية أن يبطلها كونها الأكثر تدميرا وتشويها لصورته أمام الجماهير الماليزية المحافظة.
من المفيد هنا أن نستعرض ردود الأفعال على القرار القضائي وتداعياته المستقبلية، خصوصا في ظل ما يدور من جدل حول الأحكام القضائية في البلاد العربية التي إكتوت بإضطرابات ما يـُسمى ب “الربيع العربي” (البحرين ومصر مثالا).
البعض وجد في القرار دليلا على نزاهة القضاء الماليزي وعدم خضوعه لإملاءات السلطة الحاكمة. لكن البعض قال أنه أتخذ بضغوط من “نجيب رزاق” كي يحسن من صورته وصورة حزبه أمام الرأي العام المحلي والمنظمات الحقوقية الأجنبية، خصوصا وأن شعبية الأخير وحزبه تراجعت منذ يوليو الماضي حينما قمعت حكومته تظاهرة عامة شارك فيها 20 ألف مواطن طلبا للإصلاح (ريفورماسي). وهي التظاهرة التي أجبرته على إتخاذ بعض الخطوات الإصلاحية العاجلة التي شملت قانون الأمن الداخلي المعمول به منذ زمن الإستعمار البريطاني، والذي يجيز للحكومة الإعتقال دون محاكمة لفترات غير محددة. فريق ثالث رحب بالقرار وإعتبره فرصة لإستعادة “أنور إبراهيم” لثقته بنفسه وبالتالي قيادته لحزب زوجته في الإنتخابات القادمة، متوقعا حصوله على الأغلبية اللازمة لإخراج “أومنو” من السلطة، ومحذرا من إندلاع حركة إحتجاجية ربيعية عارمة لو قامت السلطة بوضع عراقيل أو قيود أمامه، أو لجأت إلى التزوير.
غير أن عددا من المراقبين المختصين بالشأن الماليزي من أمثال الأكاديمية في جامعة الإدارة السنغافورية “بريجين ويلش” والناشط الحقوقي “إبراهيم سفيان” قالوا بأن البيئة صارت مواتية أكثر من أي وقت مضى لمنافسة سياسية حرة، وللتركيز على الملفات الأكثر إلحاحا بدلا من الدخول في مماحكات شخصية أوتجريح ذوات الخصوم كما كان الحال في الفترات السابقة، مضيفين أن الماليزيين أعقل من أن يجروا بلادهم إلى أتون الفوضى والتخريب، لأنهم في غالبيتهم العظمى تربوا على إحترام القانون، وإسماع أصواتهم من خلال القنوات المشروعة.
أما “مهاتير محمد” فقد كان الوحيد الذي أبدى إستغرابه من عدم إدانة القضاء لصديقه السابق، آخذا على المحكمة إغفاله لأقوال الشهود وتركيزه بدلا من ذلك على الفحوصات الطبية والمختبرية وكاميرات المراقبة.
* كاتب ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
elmadani@batelco.com.bh
هل ماليزيا بحاجة إلى إستنساخ “الربيع العربي”؟ يسعد الجميع, ان الإنسان العربي أصبح مرن , بعد الربيع العربي, أي, فاق من النوم المغناطيسي المرسل من قبل الفئة الحاكمة منذ قرون , خاصتا الآن , بعد انتهاء بعض الدكتاتوريات, للأسف ليس كلهم في الوطن العربي والإسلامي , الطريق في بداية . اليوم المثقف يتقبل النقد, بل يقوم في تصحيح مواقفه المتحجرة السابقة, وهو يسير الى الأمام مع التغيرات التي تجري في العالم كله , وليس الوطن العربي الذي يعيش في سجون الحكام باسم الوطن والدين وهم أبرياء . لم أتصور في يوم من الأيام أن يورد هذا النص من بين أنامل… قراءة المزيد ..