ليس واضحا إن كان الصديق حازم صاغية مؤمّنا على ذلك «الدرس الغني» الذي يُفترَض أن «الأسد الأب» استخلصه من تاريخ سوريا بين أربعينات القرن العشرين وتسلِّمه زمام الحكم عام 1970: «إّما أن تبقى سوريّا في ظلّ استبداد عسكريّ وديكتاتوريّ وإمّا أن تزول هي نفسها». (مقالته «صحيح ..ولكن غير كامل، تعليق على كلام الأسد: لبنان ولاّدة حروب أهلية» موقع «لبنان الآن»، 8 شباط 2010). هذا طرح حدّي ومقلق، يستبعد جوهريا إمكانية بقاء سوريا موحدة ومتماسكة في ظل نظام وطني إصلاحي، كيلا نقول ديمقراطي. وهو إذ يحصر خيارات السوريين بين نظامهم الحالي وبين انهيار بلدهم، فإنه يحكم على تطلّعات طيف متنوع منهم بالإعدام، ويعزز دعوى النظام الذي ما انفكّ يماهي سوريا بذاته، مزاوجا أية احتمالات لزواله بزوال البلد ذاته. هذه الاعتبارات العملية وحدها تكفي للتحفظ عن «الدرس الغني».
لكن هل سوريا معرّضة بالفعل للزوال ما لم يحكمها «استبداد عسكري وديكتاتوري»؟
حازم محق في الإشارة إلى أن «المجتمع والروابط السابقة على الدولة والوطن (طوائف، مناطق، عشائر الخ)» بمثابة «ولادة للحروب الأهلية» (العبارة التي نسبت للرئيس بشار الأسد في حوار أجراه معه سيمور هيرش ونشر مطلع شباط الجاري) «حين لا يقترن وجودها بثقافة تعايش وتسامح وبتحكيم الشرعيّة الدستوريّة في ما بينها». وسخطه مبرّر على تخصيص لبنان وحده بهذه الصفة، فيما هي «لازمت وتلازم العالم ما بعد العثمانيّ برمّته، بما في ذلك سوريّا نفسها». لكن يبدو لي أن التركيز على «ثقافة تعايش وتسامح» وعلى «شرعية دستورية» تتحكم بالعلاقة بين الروابط دون الوطنية يضع بين قوسين الشيء الأساسي، أعني دور نخبة الحكم والنخب السياسية عموما في تطوير سياسات معززة للتماسك الوطني أو مضعفة له. هذا فوق أن الطرح نفسه لا يقول شيئا عن سبل نشوء ثقافة التعايش والتسامح تلك والشرعية الدستورية المأمولة. طبعا لا يمكن قول كل شيء في مقالة من 550 كلمة، لكن إذا أمكن قول شيء عن احتمال زوال سوريا ما لم تحكم باستبداد عسكري ديكتاتوري، فلا ينبغي أن تكون مفرطةً المطالبةُ بما كان من شأنه أن يكسر هذه الحتمية المتصلّبة أو يعدِّلها.
لا نركِّز على دور السياسة والفاعلين السياسيين من باب التحفظ على منح دور للثقافة نرى أنه مبالغ فيه فقط، وإنما كذلك للقول إنه ليس ثمة مجتمعات تتماسك من تلقاء ذاتها، أو بفضل خصوصية ما في ثقافتها. المجتمعات التي تخسر الدور المنظم والدامج والموحد للدولة ونخبة الحكم معرضة للتفكك والانقسام على نفسها. هذا صحيح في أميركا وفي أوروبا بدرجة لا تقل عن صحته لدينا. وهو لا يقتضي إنكار دور الثقافة والنظم القانونية، لكنه لا يُقرُّ لها بما يزيد على دور مكمِّل وتثبيتي.
مثل لبنان، سوريا تخسر قدرا كبيرا من دور المركز السياسي والنخبة السياسية في تشكل الأمة والدولة فيها. كتبتُ قبل أشهر مقالا بدا لي فيه أن سوريا ولبنان حلان فاشلان على حدٍّ سواء لمسألة بناء الأمة، وأن نموذج أي منهما ليس بديلا صالحا عن الآخر. في لبنان ينتقل منطق التعدد والتنوع الخاص بالمجتمع الأهلي إلى مقر السيادة الوطنية الواحد الموحد الذي هو الدولة دون تعديل تقريبا (ما يثبّت الأهليَّ ويجعله «طبيعة» لبنانية لا تزول بغير زوال لبنان ذاته). أما في سوريا فينقل منطق السيادة الواحد حتى إلى المجتمع المدني المفترض (ما يمنع تشكّله، وما يقف عند حدود البنى الأهلية كافلا تطبيعها، بل تجديدها). وبينما يضمن ذلك «استقرارا واستمرارا» سياسيين وأمنيين، فإنه يُجرِّد الجمهور السوري العام من حرياته ومن قدرته على الانتظام والمبادرة المستقلين. بالمقابل يضمن النظام اللبناني درجة عالية من الحريات العامة، لكنه مشتهر بتدني استقراره وبحساسيته المفرطة حيال «الخارج». ويتوحّد النظامان بهشاشة داخليهما أو بتدني مستوى تبنْيُنِهما الداخلي. في سوريا لأن الداخل مغلق وممنوع من التفاعل مع العالم حوله والتمرس بتحدياته وصعابه، وفي لبنان بفعل فرط انفتاحه والتدفق الواسع وغير المنضبط للخارج عليه. الثقافة السياسية التي تسيِّس السيادة الوطنية ذاتها، فلا ترى إلا بعدها الداخلي مرة والخارجي مرة، ليست أرفع شأنا من تلك التي تنظر إلى البلد المحكوم كقلعة محاصرة يتهددها عالم عدواني جوهريا. والثقافة السياسية الكارهة للبنان سقيمة جدا، لأنها في الغالب تكره أفضل ما فيه: حريات سكانه وتنوعه الاجتماعي وحيويته الثقافية. لكن هناك بالفعل ما هو كريه ومتعفِّن في لبنان: نظام سياسي يحرس انعزال اللبنانيين عن بعضهم ولا يكاد يعترف بهم إلا منسوبين إلى طوائفهم، ولا يكف عن تشويه فضائل لبنان الكبيرة ذاتها. والقول إن «قوة لبنان في ضعفه»، ومن المؤسف أن مثقفا شجاعا لا يتهيب الخرافات السياسية الكريمة كحازم صاغية صادق على هذا الشعار في أحد نصوص كتابه الأخير («نانسي ليست كارل ماركس»)، لا يَفْضُل في شيء رد قوة سوريا إلى عضلات أجهزتها الأمنية. ومن جهتي، لا أرى كيف يستقيم تطويب ضعف لبنان قوةً مع مبدأ سيادة الدولة، بل مع مفهوم الدولة ذاته.
هذا كله ليس للقول إن سوريا لن تواجه مشكلات كبيرة ربما تمس وحدتها الوطنية وتماسك مجتمعها فيما لو ارتخت القبضة المستبدة الممسكة بها. ما من شيء يستند إليه المرء لنفي هذا الاحتمال في الظروف الحاضرة للأسف. لكن يبدو لنا أن هذه الاحتمال أوثق صلة بتكوين تلك القبضة ذاتها منها بارتخائها المحتمل. التوكّل الحصري على أدوات استبدادية في الإمساك بالبلد هو جذر وضعية المجتمع الممسوك الفاقد لتماسكه الذاتي والذي «يفرط» أو يتبعثر إن لم «تضبّه» من خارجه يد الاستبداد. أريد القول إن «الاستبداد العسكريّ والديكتاتوريّ» و«زوال سوريا نفسها» ليسا خيارين متنافيين، بل هما وجهان لبنية سياسية واحدة، لا تتيح للسوريين تطوير انتظامات مستقلة أو التدرب على «التعايش والتسامح».
كانت سوريا بلدا ضعيف الاستقرار السياسي حقا بين استقلالها وعام 1970 على ما أظهر حازم بيسر، لكن بعد 40 عاما من الاستقرار يُغرى المرء بالتساؤل عما إذا لم يكن الاستقرار السياسي إيديولوجية تناسب «المستقرين» في الحكم وتشكل «إفرازا طبيعيا» لهياكل سلطتهم وعقيدة للفئات الاجتماعية المنتفعة منها. لا يكتسب «الاستقرار السياسي» (و»الأمني»، حسب لازمة سوريا «مستقرة») قيمة رفيعة إلا إذا كان البديل الحتمي الوحيد عنه هو الحرب الأهلية. والحال إن هذه الحتمية هي بالضبط لسان حال إيديولوجية الاستقرار السوريا. وهو ما تساهل حازم في الإحالة عليه دون أن يوضح إن كان موافقا على هذه الحتمية، أو يعتني بإظهار أنها واقعة مصنوعة سياسيا وليست طبعا سوريا قارا.
إن وضعنا جانبا هذه الجبرية المصنوعة التي تحب أن تحتجب خلف حتميات ثقافية (الاستبداد نتاج الثقافة العربية أو الدين الإسلامي) أو اقتصادية (الخبز قبل الحريات) أو جيوسياسية (نحن في حالة حرب)، فهل ثمة ما يحول جوهريا دون صوغ سياسة وطنية إصلاحية، تُرقّي التفاهم الوطني وتوسِّع دائرة الحريات العامة وتعمل على تطوير تمرينات تعايش وتسامح عامة، وتتجه في المحصلة نحو «شرعية دستورية» تنحكم بالصراعات الاجتماعية والسياسية المحتملة؟ وهل إن ما يُرجَّح وقوعه من صراعات سياسية واجتماعية، قد تكون واسعة النطاق إذا تداعت الهياكل السياسية الراهنة، يعني زوال سوريا وامتناع بناء وطني جديد لها؟ لا يسعنا التنبؤ بالمستقبل. نحاول فقط التشكيك في حتمية قيامية بدا حازم متقبِّلا لها ولنتائجها العملية الخطيرة دون مسوغات مقنعة. نحاول أيضا إفساح مساحة للفاعلة البشرية الصاحية ضدا على بنى سياسية تثابر على إلغائها، وعلى حتميات متشائمة يُسلِس مثقفون سوريون قبل غيرهم قياد تفكيرهم لها هذه الأيام.
في النهاية، لا يحتمل أن تكون سوريا معرضة للزوال بزوال «الاستبداد العسكري والدكتاتوري» إلا بقدر ما إن لبنان مهدد بالزوال إن تغير نظامه الطائفي الحالي. سوريا لا تستنفد في نظامها، رغم اجتهاد هذا من أجل تفصيلها على قياسه. وأفترض أن لبنان فائض على نظامه أيضا. لذلك يمكن لشكليهما السياسيين أن يزولا دون أن يزول البلدان. بل لعل فرص نهوض البلدين وتطورهما مرهونة بزوال هذين الشكلين، وإن كان مرجحا أن يتسبب لهما ذلك بمشكلات عسيرة لبعض الوقت.
ويقيني أننا، حازم وأنا، شريكان في التطلع إلى تغير شكلي بلدينا، بقدر ما نتوجس مما قد يترتب على ذلك من مشكلات ومخاطر.