يسعى رجب طيب اردوغان الى القضاء على الدولة العميقة في تركيا. هل ينجح في ذلك مستغلا الفرصة التي اتاحها له الانقلابيون في الخامس عشر من تموز ـ يوليو الماضي؟
ما يقوم به اردوغان هو انقلاب على الانقلاب. ليس معروفا هل يمكن الانقلاب على الانقلاب ان يحظى بدعم شعبي في المدى الطويل في ضوء الرغبة في الانتقام التي تحرّك الرئيس التركي اوّلا وفي ضوء تمسّك المجتمع التركي عموما باسلام آخر غير اسلام الاخوان المسلمين الذي يسعى اردوغان الى فرضه ثانيا. إضافة الى ذلك، لا يمكن باي شكل الاستخفاف بوجود قيم خاصة بتركيا وشعبها. انّها قيم الجمهورية التي اسّس لها مصطفى كمال اتاتورك وارث الرجل الذي يبقى رمزا لتركيا الحديثة، تركيا ما بعد انهيار الدولة العثمانية في عشرينات القرن الماضي.
لا شكّ ان الشعب التركي وقف في وجه الانقلابيين وتصدّى لهم. انحاز الشعب التركي للديموقراطية، التي في اساسها التداول السلمي للسلطة، وليس لاردوغان وحزبه. ولكن هل ينحاز اردوغان بدوره الى الديموقراطية ويسير في خيار الشعب الذي لا يمكن ان يذهب بعيدا في الغاء الوضع الخاص للمؤسسة العسكرية الضامنة للعلمانية ولوحدة الأراضي التركية قبل أي شيء آخر؟
من الواضح ان لدى اردوغان، الذي استطاع تحقيق إنجازات كبيرة على الصعيد الاقتصادي يمكن وصفها بنقلة نوعية للبلد، رغبة معينة كامنة في داخل الشخص. تتمثّل هذه الرغبة في التخلص من الدولة العميقة في تركيا. عماد هذه الدولة العميقة الجيش من جهة والإسلام المتصوف لفتح الله غولن من جهة أخرى. يواجه الرئيس التركي تحديا كبيرا لم يسبق ان واجهه أي زعيم تركي منذ وفاة مصطفى كمال اتاتورك. يريد بكل بساطة القضاء على أسباب القوة التي تمتلكها المؤسسة العسكرية، بما في ذلك الكليات الحربية.
في النهاية يعود الفضل الاوّل في بقاء تركيا دولة تمتلك دورا على الصعيدين الإقليمي والدولي الى اتاتورك الذي عرف كيف يعيد تركيا الى الحياة ويمنع تفككها نهائيا بعد سقوط الدولة العثمانية. منع اتاتورك قيام دولة كردية، كانت حقا لهذا لشعب من جهة، كما حال دون تمدد الاتحاد السوفياتي وقبله روسيا في اتجاه مضيق البوسفور من جهة اخرى.
يركّز اردوغان حاليا على المؤسسة العسكرية وعلى وجود ما يسميه “الكيان الموازي” أي انصار غولن في كلّ الادارات، خصوصا في الجسم القضائي التركي وحتّى داخل المؤسسة العسكرية. هناك حملة تطهير لا سابق لها في تركيا بحجة الانتهاء من المؤسسة العسكرية وجعلها في تصرّف السلطة السياسية وبمثابة خادم مطيع لها. هذا امر طبيعي في الدول الديموقراطية، بل اكثر من طبيعي… ولكن هل بلغت تركيا مرحلة اصبح فيها من الطبيعي مقارنتها بدولة أوروبية ليس مطروحا فيها موضوع مثل موضوع سيطرة الحكومة المدنية على المؤسسة العسكرية؟
هناك أيضا حملة شعواء على كلّ ما له علاقة بـ”الكيان الموازي” وكأن فتح الله غولن جسم غريب في تركيا وطارئ عليها، علما ان غولان كان الى ما قبل ثلاثة أعوام بمثابة “العرّاب” بالنسبة الى اردوغان.
قبل ان يسقط حكم الاخوان المسلمين في مصر، قبل ثلاث سنوات، نصح اردوغان الاخوان المسلمين في مصر بالعمل على القضاء على الدولة العميقة. كان الهدف تفكيك الجيش المصري الذي ما لبث ان استغل الثورة الشعبية التي قامت على الاخوان، وهي ثورة حقيقية ساندها العرب الشرفاء، كي يستعيد السلطة عبر عبد الفتّاح السيسي.
بغض النظر عن كلّ تقويم للسيسي، بحسناته وسيئاته، ولانجازاته التي قد تكون حقيقية، كما قد لا تكون كذلك، ما حصل في مصر كان ثورة سمحت للدولة العميقة بالعودة الى الواجهة وبسط سيطرتها على الإدارة بقيادة الجيش. كان هذا الجيش لعب دورا رئيسيا في التخلص من حسني مبارك، لكن الاخوان ما لبثوا ان انقلبوا على التفاهم الضمني الذي كان قائما بين الجانبين وباشروا المسّ به وببنيته.
هل ينجح اردوغان في تركيا حيث فشل في مصر، مع الاعتراف بوجود فوارق كبيرة بين البلدين؟
من الصعب الإجابة عن هذا السؤال، لكن الأكيد ان ليس في الإمكان الاستخفاف بالدولة العميقة في تركيا، مثلما انّه لم يكن واقعيا الاستخفاف بالدولة العميقة في مصر التي حاول الاخوان المسلمون القضاء عليها. ليس صدفة ان القرار الاهمّ لاردوغان يتمثل في التخلص من المدارس الحربية في تركيا. ليس صدفة التركيز على تلك الصورة التي ظهرت فيها الشرطة تعتقل عسكريين بمن في ذلك ضباط في الجيش. الغرض واضح وهو يتمثل في اظهار ان لا احد فوق القانون في تركيا وانّ مرحلة ما قبل الانقلاب ولّت الى غير رجعة…
لا شكّ ان اردوغان يبدو مستعجلا. كان دائما مستعجلا. تخلص من كل الرؤوس الكبيرة في حزبه من عبدالله غول… الى احمد داوود اوغلو. لا يريد ان يكون هناك من يستطيع الادلاء برأي مخالف لرأيه او من يستطيع تشكيل مركز استقطاب داخل حزبه. هل لرجل من هذا النوع يمتلك شبق الاخوان المسلمين الى السلطة، وهو شبق ليس بعده شبق، استكمال بناء دولة حديثة في تركيا؟ هل اردوغان رجل المرحلة القادر على نقل تركيا الى دولة المؤسسات الديموقراطية ام انّه ليس سوى حاكم آخر في دولة من دول المنطقة يهمّه قبل أي شيء آخر استكمال سيطرته على تركيا والانتهاء من صيغة مراعاة المؤسسة العسكرية وامتيازاتها لمصلحة الاخوان المسلمين وفكرهم؟
كلّ ما يمكن قوله انّ على اردوغان التمهّل قليلا بدل حرق المراحل. صحيح ان الانقلابيين ارتكبوا خطأ فادحا، بل جريمة في حقّ البلد. لكن الصحيح أيضا ان هذا الخطأ لا يبرر تلك الحملة الواسعة التي تصبّ في تغيير طبيعة النظام في تركيا. يبدأ ذلك بالانتهاء من أي دور للمؤسسة العسكرية وطيّ صفحة هذه المؤسسة التي ما زالت تعتبر نفسها جزءا من النظام الديموقراطي وشريكا فيه، إضافة الى انّها تلعب دورا أساسيا في المحافظة على العلمانية من جهة وعلى وحدة الاراضي التركية من جهة أخرى.
وحده الوقت سيكشف هل حظ اردوغان في تركيا سيكون افضل من حظه في مصر . الأكيد ان الوقت سيلعب دوره في تحديد مستقبل اردوغان. لكنّ الأكيد أيضا ان ليس في الإمكان باي شكل الاستخفاف بالدولة العميقة في تركيا. كان من الأفضل لو اعتمد الرئيس التركي سياسة اقلّ هجومية على المؤسسة العسكرية او على “الكيان الموازي”، علما ان المؤيدين له يقولون ان فرصة ما بعد افشال الانقلاب الأخير قد لا تتكرر ابدا… انّها فرصة العمر لاردوغان لا اكثر ولا اقلّ.