هذا السؤال الذي يعلو إلى سطح الخطاب العربي بين فينة وأخرى أكبر دليل على الخطيئة الكبرى التي ارتكبها كلّ أولئك الذين يطرحونه. طوال عقود، اعتقد هؤلاء بوجود دور خارج الدور الذي يُفترض أنّه مُعلّق في رقابهم. بكلمات أخرى، إنّ الخطيئة الكبرى التي ارتكبها هؤلاء هي افتراض كونهم ذوي مزية تضعهم فوق سائر البشر من حولهم. إذ إنّهم توهّموا أنّ دورهم أهمّ من دور العامل في مهنة أخرى أيّاً كانت. أليس للنجّار دور وللحدّاد دور وللمزارع دور في مجتمعه؟ أليس هؤلاء مطالبين بالقيام بأدوارهم على أفضل وجه ومطالبين بإتقان مهنتهم؟ وعلى ذلك، قِس. أليس المثقّفون مطالبين بإتقان مهنة الثقافة التي يدّعون حملها على أكتافهم؟
فماذا تعني هذه المسمّيات التي يحملونها؟ فلو عدنا إلى الأصل اللغوي للمصطلح في حضارتنا، فإنّ الحقل الدلالي لهذا الأصل يعني الحذق والفهم، وفوق كلّ ذلك ضبط الأمور. والثِّقاف هي الحديدة التي تُستعمل لتقويم اعوجاج الرمح وتسويته. فالثقافة إذاً، وبكلمات أخرى، هي النظر في التجارب الإنسانية المتراكمة، ومحاولة فهمها من جميع جوانبها بغية تقويم الاعوجاج لدفع حياة المجتمعات البشرية وعلى جميع الصعد إلى الأمام.
والســـؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق، هل أتقـــن المثقفون العرب مهنتهم طوال هذه العقود الماضية، وهل قوّموا الاعوجاج، أم إنهم كانوا جزءاً من تأبيد الاعوجاجات في المجتمعـــات العربية؟ ليس من السهل الإجابة عن هــــذه التساؤلات في المجتمعات العربية، إذ لأجل تقـــويم الاعوجاج المجتمعي سياسيّاً واجتماعيّاً وحضـاريّاً هنالك حاجة إلى هامش واسع من الحـــرية للعمل. هذه الهوامش تكاد تكون معدومة فـــي مجتمعاتنا، وهكذا وجد «المثقّفون» أنفسهم، وللضغـــوطات المعيشية، يعملون في إطارات هي فــي جـــوهرها متّشحة بالعصبيّات على اختلاف مشـــاربها، أكانت هذه عصبيّة سياسية، دينية، طائفــــية وما شابه ذلك. ولمّا كانت وسائل الإعلام والاتصـــالات بكلّ تصنيفاتها تخضع للسلطات العربيــــة، انغمس المثقفون طوال عقود في مهنة «مسح الجوخ» للأنظمة التي يعيشون في كنفها، ولم يشـــذّ عن هذه القاعدة إلا نفر قليل وجد نفسه خـــــارج هـــذه المنــــظومات المتحكّمة بكلّ شــــاردة وواردة في أحسن الأحوال وفي أسوئها وجــــد نفسه وراء القضبان أو منفيّاً من الأوطان.
إنّ الذين انخرطوا في إعلام الأنظمة قد زمّروا وطبّلوا للسلطان طوال عقود، وبذلك خانوا المهنة التي زعموا أنّهم يحملونها على أكتافهم. فكم طبّل المطبّلون لعبد الناصر، وكم زمّر المزمّرون للأسد، وكم استفاضت القرائح في مديح المستبدّين، مثل صدام التكريتي وغيره، على طول العالم العربي وعرضه. أمّا الإنسان العربي، المغلوب على أمره، فقد فاز بفتات البلاغة التليدة والبليدة التي أغدقها عليه أمثال هؤلاء طوال عقود. لم يقم أحد من هؤلاء بثقف الاعوجاج في السياسة والمجتمع، بل على العكس من ذلك، أبّد هذه الاعوجاجات بإسباغ المديح عليها ليحظى بفتات من خبز السلطان.
وهكذا أوغلت الأنظمة، على اختلاف مشاربها، في غيّها من دون رقيب يقوّم اعوجاجها أو رادع يردعها عن مواصلة هدم المجتمعات التي زعمت تزعّمها. لم تقم كلّ تلك الأنظمة وأبواقها ببناء دول وأوطان عابرة للإثنيات والعصبيّات البرّيّة، بل انصبّ اهتمامها على الإمساك بمقاليد الحكم، ليس إلا. وطوال كلّ هذه العقود حاولت هذه الأنظمة إلهاء الشعوب بأعداء خارجيين متوهّمين بغية حرف مشاعر التململ وتصريفه إلى الخارج بدل أن يتحوّل غضباً موجّهاً ضدّها.
فإذا كان البناء السياسي العربي مبنيّاً على أسس من العصبيّة (وهي عصبية متعدّدة الوجوه، قد تكون إثنية، طائفية، قبلية أو حزبية) فالنظام العربي في بنيته نظام فاقد الثقة بالنفس. إذ إنّ السيطرة على مقاليد الحكم مرهونة بالغلبة، ولا يمكن أن تتأتّى هذه الغلبة إلا بالاستبداد. ولهذا فإنّ ثقة الحاكم بالمحكومين لا يمكن أن تتوافر، إذ إنّ أيّ حركة أو كلمة ناقدة تعني ضعضعة مكانة الحاكم أو سلطته، وبما أنّه لا شغل شاغلاً له غير التشبّث بالحكم مهما كلّف الأمر فلا مكان للنقد في عرفه.
لقد تراكم الغضب العربيّ على هذه الأنظمة حتى انفجر قبل سنوات في انتفاضات شعبية موجهة للداخل فقط. ومنذ ذلك الأوان، ذاب ثلج صروح العروبة البلاغية وبان مرج حقيقة هذه المجتمعات المتشرذمة التي تختلف أكثر ممّا تأتلف. وهكذا رأينا أنّ العراق عراقات كثيرة، وسورية سوريات عدة، واليمن وليبيا يمنات وليبيات كثيرة ومتصارعة. وبكلمات أخرى، فإنّ الحال اللبنانية الواهية هي التي انتصرت على هذه البقعة من الأرض.
وحينما نعود إلى دور المثقف العربي في هذا السياق، نرى أنّ الغالبية العظمى من حاملي الهمّ الثقافي العربي لا تقدّم أيّ تصور لتقويم هذا الاعوجاج المجتمعي والحضاري، بل على العكس فهي تواصل الانخراط في عملية الهدم هذه بمواصلة انخراطها في العصبيات البالية التي لم تجلب سوى الخراب.
* كاتب فلسطيني