لن تُحسم المعركة العسكرية في طرابلس ما دام مصير القذافي غامضا، وطريق الدخول إلى مُجمّع باب العزيزية غير مفتوحة أمام الثوار، بالإضافة لبقاء سرت وسبها وصرمان تحت سيطرة كتائب القذافي.
ويبدو أن هذه المعركة تُخفي وراءها صراعا سياسيا ما انفك يطفو على السطح بين الثوار والمجلس الإنتقالي، وقد يطغى على المشهد الليبي في الأيام المقبلة.
هكذا تتأكد المخاوف التي سبق أن تضمنها مقال نشرته swissinfo.ch قبيل انطلاق عملية “عروس البحر” أو “فجر الأوديسا”، التي أتاحت لقوات الثوار الدخول إلى العاصمة الليبية طرابلس، إذ طفت على السطح الخلافات بين الرأس السياسية للانتفاضة (المجلس الوطني الانتقالي) وجسمها العسكري. وكشف مشهد السيطرة على وسط طرابلس غياب السياسيين الذين كانوا في بنغازي أو تونس أو الدوحة يُعلّقون على ما يجري عبر الشاشات، أو يُعطون التوجيهات، فيما كان الثوار لا يُعيرون اهتماما لأقوالهم وتعليماتهم.
ليس من المستبعد أن تؤدي معركة استكمال السيطرة على طرابلس إلى توسيع الشرخ بين الجانبين على نحو قد يُذكّر بالصراع الذي اندلع بين قيادة أركان جيش التحرير الوطني الجزائري، بزعامة هواري بومدين، أو ما كان يُسمى بـ”جيش الحدود”، لدى الدخول إلى العاصمة الجزائر صيف 1962، والحكومة الجزائرية المؤقتة.
وبدا من تعاطي الثوار والمجلس الإنتقالي مع موضوع اعتقال محمد النجل الأكبر لمعمر القذافي (الذي تمكّن من الفرار لاحقا بدعم من القوات الموالية لأبيه) تباعد في الرؤى بين رئيس المجلس مصطفى عبد الجليل المقيم في بنغازي ورئيس المجلس العسكري في طرابلس عبد الحكيم بلحاج. وكان لافتا أن عبد الجليل توعّد الثوار بالعقاب في حال حصول أية تجاوزات ووصف بعضهم بـ”المتطرفين الإسلاميين” ما أثار استغرابا لدى المراقبين لأن عبد الجليل نفسه كان يُصنّف من ضمن “الإخوانيين” بين أعضاء المجلس الإنتقالي.
جروح قديمة
أبدى أحد المعارضين البارزين للقذافي في تصريح لـ swissinfo.ch خشيته من نكء جروح قديمة، باعتبار أن عبد الجليل وقع أيام توليه وزارة العدل في حكومة القذافي، على قرار بإعدام عبد الحكيم بلحاج، الذي كان ينتمي إلى “الجماعة الليبية المقاتلة” المُرتبطة بتنظيم “القاعدة”.
وفي الوقت الذي كان فيه عبد الجليل بعيدا عن طرابلس كان نائبه عبد الحفيظ غوقة في الدوحة مُجتمعا مع بعض أعضاء في المكتب التنفيذي للمجلس، بينما كان يُفترض أن يكون في العاصمة طرابلس بوصفه القيادة السياسية للثوار.
وهنا يُطرح السؤال: لمن يستمع الثوار، وما هي المرجعية التي تٌوجههم؟ وفي هذا السياق لاحظت شخصية ليبية رفضت الإفصاح عن هويتها أن المعركة العسكرية انطلقت بسرعة لافتة في أعقاب اغتيال القائد العام السابق لقوات الثوار اللواء عبد الفتاح يونس، فهل يُؤكد هذا أن يونس كان يُعرقل تقدم الثوار، خصوصا في معارك البريقة التي استنزفت قواهم؟ لا أحد يملك اليوم الجواب على مثل هذه الأسئلة المُحيرة.
تداعيات عسكرية وسياسية
يُذكر أن أعضاء المكتب التنفيذي (حكومة المهجر) المؤلف من ثلاثة عشر عضوا، هم فقط المعروفون، فيما ظلت أسماء الأعضاء الآخرين (وعددهم سبعة وعشرين عضوا) طي الكتمان، ويُرجح أن غالبيتهم من المنتمين إلى التيارات الإسلامية (الجماعة الإسلامية، الإخوان المسلمون، المُقاتلة…). كما أن ثوار مدينة مصراتة، ثالث المدن الليبية، يرفضون الاعتراف بالمجلس الإنتقالي.
من الطبيعي أن يكون لهذا التباعد بين الجانبين تداعياته العسكرية والسياسية، فمعركة طرابلس لم تُحسم، وتشير مصادر الثوار إلى أنهم لم يسيطروا سوى على ثمانين في المئة من المدينة. والأهم أن النسبة المتبقية تشمل قلعة العزيزية، ومركز صلاح الدين الأمني، والمستشفى العسكري، وبعض الفنادق التي يتحصن فيها رموز من نظام القذافي.
وهنا يُطرح سؤال محوري: كيف سيتعامل الثوار مع العقيد القذافي وأبنائه وأركان نظامه إذا ما ثبت أنهم مازالوا في العزيزية؟ وكيف ستتم السيطرة على المناطق التي مازالت موالية للقذافي؟ وبخاصة مدينة سرت الاستراتيجية وواحة سبها عاصمة الجنوب وصرمان وغيرها؟.
مع إقبال كتائب جديدة من الثوار تباعا إلى العاصمة سيطغى على التطورات في الساعات والأيام المقبلة الحسم العسكري في العزيزية والمواقع الأخرى التي ما زالت تسيطر عليها كتائب القذافي. كما لا يمكن معرفة موقف الثوار بعد تحرير طرابلس من أعضاء المجلس الذين كانوا يعملون مع النظام قبل 17 فبراير، وكذلك من المنشقين الذين غادروا الحكم في الأسابيع الأخيرة، أمثال موسى كوسا، وشكري غانم، ونصر مبروك عبد الله، وعمران بوكراع، وحتى عبد السلام جلود (رئيس الوزراء بين 1972 و1977)، الذي كان على خلاف مع القذافي.
مصير “الإعلان الدستوري”
أما على الصعيد السياسي، فلا يُعرف مصير خريطة الطريق التي وضعها المجلس الإنتقالي لمرحلة ما بعد القذافي، والتي أعلن عنها في 17 أغسطس 2011 باسم “البيان الدستوري”، والرامية لتسليم المقاليد في أجل أقصاه سنة واحدة لهيئة منتخبة بعد وضع دستور للبلد. وكرر البيان المؤلف من 37 بندا المبادئ العامة لخريطة الطريق التي اعتمدها المجلس الإنتقالي في مارس الماضي وعرضت swissinfo.ch تفاصيلها في حينه.
ثم تبقى التداعيات الإنسانية والأمنية لمعركة طرابلس، فبالإضافة للتهديدات بالسرقة والنهب التي تُخيم على أبراج ذات العماد، حيث مقرات الشركات النفطية ومكاتب المجموعات العالمية، ومجمع زرقاء اليمامة التجاري وبعض الفنادق، هناك مخاطر نبهت لها المنظمة الدولية للهجرة التي ستقوم بعملية اجلاء لآلاف الأجانب المحاصرين في العاصمة الليبية، بحسب ما ذكرت صحيفة “الصباح الأسبوعي” التونسية.
وفعلا شرعت هذه المنظمة في البحث عن كيفية ترحيل آلاف المصريين والاجانب المحاصرين. ويرجح أن يتم هذا عن طريق البحر، وبالتالي قد تعرف بعض الموانئ التونسية على غرار الميناء التجاري بجرجيس وصول آلاف اللاجئين في الايام القريبة المقبلة. واستقبلت المعابر الحدودية التونسية منذ اندلاع الصراع في ليبيا مئات الآلاف من المهاجرين الاسيويين والافارقة. وقال شهود عيان للصحيفة ان الجيش التونسي قام بتعزيزات عسكرية خلال الايام الأخيرة وكثف من عمليات المراقبة والدوريات “حتى لا يعمد أحد إلى تجاوز الحدود التونسية خلسة”.
قصارى القول في ضوء تفاعلات معركة تحرير طرابلس هو: هل سيتم الإحتفال رسميا بتحرير العاصمة مع عيد الفطر، مثلما توقع السفير الليبي في باريس منصور سيف النصر، أم أن هذه المعركة الفاصلة ستكون طويلة ومُضنية ومُكلفة؟.