“الحلم بليبرالية الغرب ومساواة الشرق وأخوة الإسلام جعل الجميع يلتف حول الثورة ويضحي من أجلها”
فوزي أشرف الأهوازي – خاص الشفاف
يخطئ من يظن أن إيران سوف تحل مشاكلها بمجرد أن تمتلك القوة الذرية وصواريخ بعيدة المدى لتصبح القوة الإقليمية التي يُحسب لها ألف حساب. وكذلك حال من يظن أنها باكتشافها الأشمل واستخراجها الأوسع للنفط والغاز وغيرهما وإنفاق ما بوسعها على غير شعوبها ستجتاز كافة الأزمات. وذلك لأن مشاكل إيران ليست فقط تلك التي يتم إظهارها وتفخيمها من قبل الإعلام، كما هي ليست فقط تلك الآتية من وراء البحار، وإنما هنالك مشاكل أعظم قد لا يراها إلاّ من يعانيها ويكابدها في داخل إيران.
مضى ثلاثون عاماً على سقوط الشاه في إيران (فبراير 1979) ومازالت الجمهورية الإسلامية تعد الإيرانيين بتوطيد العدل وتحسين أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية. وهي لم تزل غير قادرة على تحقيق أبسط ما جاء في دستورها كمجانية التعليم ومسئولية الحكومة في توفير فرص العمل للجميع ومساواة الشعوب الإيرانية في التنعم بخيراتها والتحكم بخياراتها وتعميم التنمية في أرجاء إيران والعشرات من الأحلام الوردية الأخرى التي يؤلم الإيرانيين تذكـّرها خاصة إذا كانوا من أولئك الذين شاركوا في الثورة التي كانت تعدهم بليبرالية الغرب ومساواة الشرق وأخوة الإسلام معاً.
فلننظر إلى مكوّنات المجتمع الإيراني ككل ولنرى من هم سكان هذه القطعة من المعمورة البالغ عددهم 72 مليون نسمة، وما مدى العدالة التي تحققت فيهم وبشأنهم؟
هنالك خارطة ديمغرافية لإيران على أرض الواقع المُعاش، بعيداً عما يسمى بخطط الإمريكان لتفكيك إيران ودول أخرى، وبعيداً عن التقسيمات الإصطناعية التي ترسمها مؤسسات الحكم في إيران لخلط الأوراق. نعم، هنالك شعوب ذات لغات وثقافات مختلفة في داخل الحدود الإيرانية. إضافة على الفُرس أصحاب اللغة المسيطرة والمدن المتقدمة، هنالك العرب الأهوازيون الذين يعيشون فيما يسمى الآن بمحافظة خوزستان المحاذية للكويت وجنوب العراق ويمتد تواجدهم حتى جزيرة جسم (قشم حالياً) في مضيق هرمز. وهنالك البلوش الذين يقطنون جنوب شرق إيران. وهنالك الترك الآذربيجانيون، وهم يسكنون محافظات شمال غرب إيران ويمتد تواجدهم حتى العاصمة طهران التي يقول عنها الفرس مزاحاً “إنها قد احتُلَّت من قبل الأتراك من دون سفك دماء”. وهنالك أولاد عمومة الأتراك، أي التركمان الذين يعيشون فى شمال شرق إيران، والقشقائيون الذين يعيشون مع البختياريين والعرب في مناطقهم في جنوب إيران. وهنالك طبعاً الكُرد الذين يسكنون غرب إيران. كما هنالك اللُر الذين يعيشون في المناطق الفاصلة بين الكرد والعرب وأيضاً لهم أولاد عمومة وهم البختياريون اللذين لهم مناطقهم الجبلية المعروفة بزاغرُس. ولا ننسى أن شمال إيران المحاذي لبحر خزر يسكنه على الأغلب أناس باسم الكيلك أو الكيلانيون والمازي أو المازندرانيون، وهنالك قبائل العَجَم (الأتشُم) في محافظة فارس وقبائل الخمسة في غرب هذه المحافظة والطوالش في غرب بحر خزر واللَك (غرب إيران، بين الكرد واللُر) والخَلَج في النواحي المركزية، والسيستانيين في الشرق ولكل هؤلاء لغاتهم الخاصة بهم وتقاليدهم وأراضيهم وتواريخهم وما إلى ذلك. كذلك توجد أجزاء أخرى من مكونات المجتمع الإيراني كالأرمن واليهود والآشوريين والكلدانيين والصابئة (المندائيين العرب) والتات والجورجيين وغيرهم. أي هنالك ما يقارب 20 لغة و110 لهجة، وهذه لكانت فسيفساء جميلة لو تم التعامل معها بقدرٍ من الإنصاف.
قد يسأل سائل: إذا كانت المناطق الإيرانية توزع هكذا بين الشعوب ذوي اللغات والثقافات المختلفة، فأين هم الفرس في “بلاد فارس” وأين يُنطَق باللغة الفارسية؟ الجواب هو أنهم يعيشون في كافة أرجاء البلاد ببركة الجيش والدوائر الحكومية والمدارس التي لا تُدرِّس إلاّ بالفارسية، والأسواق حيث التجارة في أيديهم والنوادي والصحف والإذاعات والمواصلات والاتصالات وغيرها، وأيضاً ببركة سياسة التفريس بشتى السبل التي تخلق من الأطفال شباباً وكباراً لا ينطقون بلغات شعوبهم المقهورة، بل يزيدون ويضاعفون بأنفسهم وكياناتهم عدد نفوس الغير القاهر لهم. وعلى أي حال، فإن موطن الفرس أساساً يمتد من خراسان في شرق ايران إلى طهران ومن هناك إلى إصفهان وشيراز ثم إلى كرمان وجنوب خراسان وذلك بتضاريس وتداخلات وطبعاً بلهجات وثقافات وتقاليد وملابس تراثية مختلفة، خاصة وأن مسافات شاسعة تباعد المدن والقرى المركزية وتبعثرها.
لا توجد إحصائيات حكومية أو دولية معتمدة عن عدد نفوس الشعوب في إيران لا في زمن الشاه ولا في الزمن الراهن. ولكن هنالك ارقام تذكرها بعض المصادر بالتخمين والتقريب، نقدم منها ما أعلنته مكتبة الكونغرس الأمريكي قبل سنوات وهي كالتالي: الفرس60%، الأتراك 24% (20% آذربيجانيون، 2% قشقائيون، 2% تركمان)، الكُرد 7%، اللُر3%، العرب 2%، البلوش 2%، الآخرون 2%.
ولكن موقع ايندوبيديا (الموقع الهندي للمعلومات) يذكر لنا النسب التالية: الفرس:51%، الآذربيجانيون 24%، الكيلك والمازيون 8%، الكُرد:7%، اللُر2%، العرب 3%، البلوش 2%، الآخرون 1%.
أما موقع ويكيبيديا (القسم العربي) فيذكر توزيعات أخرى ومنها ما يلي حسب تقديرات عام الثورة الإسلامية في إيران(1979): الفرس وأولاد عمومتهم 63%، الآذربيجانيون والتركمان 20%، العرب 7%، الكرد 6%، البلوش 2%، الآخرون 2%.
قد يكون الاختلاف في النسب ناتجاً عمن تُدرجهم التخمينات في هذا الإطار أو ذاك. فمثلاً قد لا يُحسب أناسٌ من العرب بمجرد أنهم لا يلبسون ملابس العرب أو ينطقون الفارسية بطلاقة، أو أن يكون التحدث بالفارسية أسهل لهم، أو أنهم في مناطق مبعثرة بعيدة عن الأنظار كضواحي المدن والقرى النائية وما إلى ذلك، كما قد يكون بسبب عدم شمولية الدراسة أو حتى عدم حيادتها.
أما من حيث الديانة والمذهب، فإن الغالبية العظمى من الإيرانيين مسلمون وأغلبهم شيعة. تنص المادة الثانية عشر من الدستور الإيراني على أن “الدين الرسمي لإيران هو الإسلام والمذهب الجعفري الإثنى عشري وهذا المبدأ لن يتغير إلى الأبد”. ولكن إيران لم تكن شيعية قبل حكم السلطان اسماعيل الصفوي (1502م) حيث أمر بتخيير الناس بين التشيع أو استقبال الموت. ومنذ ذلك الزمن انحصر الوجود السنّي في المناطق الحدودية. فالآن، بينما يزعم أهل السنة في إيران بأن نسبتهم هي 30% من إجمالي السكان، تشير الأرقام شبه الرسمية إلى أن الشيعة يشكلون 89% من سكان إيران، ويشكل أهل السنة 10% من إجمالي السكان وتتوزع النسبة الباقية (أي الـ1%) بين الأرثوذكس الأرمن واليهود والزرادشتة والبهائيين والصابئين وغيرهم. ولكن حيث أن أهل السنة يقطنون في كثير من نواحي الجهات الأربعة لإيران فيمكن تصديق المصادر المستقلة القائلة بكون السنة يشكلون 15 إلى 20 بالمئة من سكان إيران. وللإيضاح يجب القول بأن غالبية أكراد إيران ينتمون إلى المذهب الشافعي، والبلوش والتركمان ينتمون إلى المذهب الحنفي، وهنالك أناس آخرون من أهل السنة كعرب الجنوب (من أبوشهر ولنجة وصولاً إلى جزيرة جسم) والطوالش وكذلك سكان جنوب خراسان وبعض القرى المتناثرة في محافظة فارس (وسط) وغيرها.
وأما من حيث التاريخ فلم تكن لبلاد فارس سلالات حاكمة فارسية متتالية كما يزعمون. ناهيك عن الحقبة التي سبقت الإسلام والتي تتعارض بشأنها أساطير الشاعر الإيراني المعروف “فردوسي” و التي تم اختلاقها في القرنين المنصرمين الا ان ابحاث المؤرخ الإيراني القدير؛ ناصر بور بيرار الحديث كشفت زيفها. فلننظر إلى السلالات التي حكمت إيران بعد الفتح العربي الإسلامي، لنرى أن الحكم كان دوماً بيد الأتراك وأما الفترات التي حكم فيها الفرس كانت قصيرة للغاية . طبعاً لم يشهد تاريخ إيران من قبل، تلك العنصرية اللغوية التي شهدها في النظام البهلوي (1925-1979) ومن تخرّج من مدرسته الشوفينية ،مضيفاً إلى تلك العنصرية، ما حمله من تمييز مذهبي وجنسي و ما شابه ذلك.
هنالك مصهر كبير لتفريس الشعوب غير الفارسية في كافة أرجاء إيران، وهنالك جهود لتشييع الآخرين بشتى السبل ولو على الظاهر. وهنالك أيضاً محاولات إدماج وبل تذویب من لا يؤمن بنظرية “ولاية الفقيه المطلقة” (حسب الدستور المعدل) في بوتقة الولاء للسلطة التي لا يخرج منها المرء إلاّ مقولباً ذلولاً أو منافقاً خجولاً أذا ما كُتبت له الحياة.
قد يستغرب القارئ الكريم من كلام كهذا يقال عن إيران الثورة التي تشهد الانتخابات تلو الانتخابات و تطلق الشعارات تلو الشعارات. ولكن ليس من الممكن دفن الرؤوس في الرمال تجاه الحقائق البسيطة التالية التي يمكن التحقق منها بأسهل الطرق:
1- لا يجتاز أي طفل أي صف و لا يقرأ أي كتاب إلاّ بالفارسية ولا يشاهد كرتوناً إلاّ بها.
2- لا يتعلم أي طفل أي معلومة إلاّ إذا كانت تتطابق مع أفكار القيادة حتى لو كانت في علم الأحياء أو الجغرافيا وما شاكل.
3- لا يحصل أي شاب على أي فرصة عمل أو دراسة جامعية إلاّ إذا كان مطيعاً (ولو ظاهرياً) لولاية الفقيه المطلقة وخاضعاً لسيادة الفرس على كافة جوانب الحياة.
4- لا يمكن لك أن تبوح لأحد أنك تقلّد مجتهداً آخر إذا كنت ترغب في الحصول على فرصة عمل أو كنت راغباً في عدم فقدان مكانتك أين ما كانت.
5- لا توجد أي صحيفة تُنشر باللغات المحلية إلاّ صُفيحات في جوف صحف فارسية أسبوعية باهتة. (فإذا رأيت صحيفة عربية مثلاً تُنشر في إيران سل رجاءً من الذي ينشرها ومن أين وماذا يوجد فيها).
6- لا توجد أي محطة إذاعية أو قناة تلفزيونية تبث برامج بلغة أو لغات أبناء المحافظات سوى سويعات قليلة جداً وذلك مرة في الأسبوع لرفع العتب وببث برامج باهتة وهابطة إلى أدنى المستويات.
7- لا يحق لأحد أن ينشر كتاباً بلا رخصة من الرقابة الشاملة التي تعارض نقاش الدين والمذهب والحرية وصلاحيات السلطات وحقوق البشروشروط المواطنة.
8- لا يحق لأحد أن يناقش في توزيع ثروات البلاد على مناطقها أو توزيع ميزانية التعليم على مختلف أبنائها بشكل جاد.
9- لا توجد أية انتخابات برلمانية أو رئاسية دون اختيار مسبق للمرشحين والتأكد من ولائهم لشخص القائد.
10- لا يُترك أي مسؤول سابق انتقد بعض الإجراءات في النظام إلاّ وقد ذاق الهوان بشتى الألوان، ومنهم الشيخ منتظري والشيخ نوري وحجاريان وباقي وغانجي وآغاجري وكثيرون آخرون.
ليست العبرة بعدد هذه اللاءات وطول هذه القائمة، وإلاّ لطالت إلى ما شاء الله. ولكن كان لا بد من ذكر هذه النماذج من الانتهاكات لحقوق من التفوا حول الثورة بأحلامهم الجميلة وضحّوا بدمائهم وسنوات أعمارهم وكل ما كانوا يملكون وكذلك لحقوق أبنائهم – عفواً، أبناء من تبقى منهم على قيد الحياة وأنجب- ، وكل هذا غيض من فيض.
إنها بوتقة كبيرة حامية الوطيس، قد لا ينجو منها الكثيرون في داخل إيران وبل خارجها. ولكن مهلاً هنالك أيضاً بوادر أمل. فلنتذكر بعضها معاً:
أ- مرور ثلاثة عقود على تجربة كشفت عن مدى صدقها في وعودها الرنانة بخصوص توزيع الثروات وتمهيد سبل الرقي وتوطيد العدل والمساوات والحرية، وأفرغت ما كان في جعبتها من سياسات خادعة كضرب هذا بذاك، وتشطين هذا ثم ذاك، وخلق الأعداء الواحد تلو الآخر، وإشغال الجماهير بتوافه الأمور. إذاً، فاصبحت مكشوفة لكل ذي ناظر إذا كان يبصر.
ب- لقد تطورت أوضاع المجتمع الإيراني في كافة الأبعاد، ومنها زيادة عدد الدارسين والمثقفين بشكل هائل، وانتشر الإيرانيون في كافة أصقاع العالم وتعرفوا على ثقافات الشعوب وتقدم المجتمعات، فتفهّمت الشعوب المختلفة لمشاكل بعضها البعض وتلاحم المضطهدون في بعض المطالب المشتركة، وكذلك تفهمت وتقاربت أوساط المجتمع من طلاب ونساء وعمال وموظفين وغيرهم.
ت- حدث التطور الهائل المشهود في وسائل الإعلام والإتصالات رغم منع استخدام الأطباق اللاقطة في إيران وعدم حصول الملايين من الإيرانيين على فرص الإتصال بالإنترنت وحرمانهم من الصحف المناسبة الدولية والداخلية.
ث- تم كشف الزيف ومعارضة الأقوال مع الأفعال في العراق، بحيث بدأ الناس يتساءلون في إيران: إذا كان التدخل الاستعلائي غير جائز فماذا تفعل إيران في العراق؟ وإذا كان الحكم الذاتي جيداً في كردستان العراق والمحافظات ذات الأغلبية الشيعية، فلم لا يحق هذا للجيران في إيران؟ وإذا كانت للمرجعية مكانة في النجف، لماذا لا تحظى بنفس المكانة في قم وطهران؟
وفي النهاية يبدو السؤال جلياً ملحّاً على كل ذوي الألباب وليس على المصابين بدائَي التفريس (مع احترامی للفرس) والتشييع (مع احترامی للشیعة) فقط وهو: هل من مفر للتخلص من المسخ واستعادة آدمية البشر في إيران؟ أنا لست يائساً، فأجيب على السؤال الأخير بنعم وأجيب على السؤال الرئيس بـ”لا” وألف لا.