قد لا يكون مستغربا ان يخرج رئيس المجلس النيابي اللبناني وزعيم حركة امل على الصحافة ويؤكد ان التحالف بينه وبين الامين العام السيد حسن نصرالله وبين حركة امل وحزب الله من العمق بمكان ان ليس باستطاعة اي من الاطراف الداخلية والخارجية دق “اسفين” بينهما.
هذا اقل الواجب الذي يمكن لنبيه بري ان يقوم به اتجاه حزب الله وامينه العام، خصوصا بعد الخطاب الاخير للسيد نصرالله الذي قدم فيه مرافعة مطولة ومدعمة بالقرائن عن عمق التحالف بين الطرفين ومدى الثقة “المطلقة” التي يتمتع بها بري في متابعة الملف السياسي والتفاوضي المرتبط بالطائفة الشيعية على المسرحين اللبناني والدولي.
اقل الواجب، فمهما حاول بري قوله وتقديمه من مسوغات لما خرجت به برقيات “ويكيليكس” الاميركية عما دار من احاديث بينه وبين السفير الاميركي جفري فيلتمان ووزراء حركة امل وبعض نواب كتلته البرلمانية، لن تستطيع التعويض عن مسحة الالم التي ارتسمت على وجه حليفه المفترض امين عام حزب الله واجبرته على التخفيف من الحدة التي تتسم بها خطاباته عندما يتعلق الامر بأشياء تشتم فيها رائحة الخيانة او التآمر على المقاومة وحزب الله والشيعة. لكن ماذا سيكون موقف “قيادة المقاومة” اذا ما استمر مسلسل “ويكيليكس” وتكشفت معه حقائق اخرى نقلا عن اشخاص آخرين مقربين من بري قد تكون اكثر ايلاما وقسوة مما سبقها من تسريبات. فهل يمكن عندها تسويغ كلامهم القاسي والانقلابي و… لهؤلاء الحلفاء ومحاولة احتواء مفاعيله، مقابل النيل من اصدقاء اخرين لم يكن ما سرب عنهم سوى مجرد انتقادات لطرف سياسي لا ترقى للنيل من الحزب ومقاومته.
واذا ما كان من الصعب على اي وطني معارض لحزب الله او مؤيد له، ان يوافق او يتقبل ما جاء من كلام في “ويكيليكس” نقلا عن بعض الاطراف اللبنانية – حلفاء ومعارضين – من تشجيع وتحريض خلال حرب تموز 2006 ضد ابناء العائلة الشيعية، احد المكونات الاساسية للنسيج اللبناني والوطني، فانه من الصعوبة بمكان ان نحاول التسويغ للبعض من الحلفاء ونتهم اخرين ممن كانت له علاقات مع اطراف دولية دون اخرى، لكن في اطار الثابت الوطني، بالخيانة وطعن المقاومة بالظهر.
لا شك ان خطاب الامين العام كان مفعما بالحزن، ليس فقط على ما نقلته “ويكيليكس” عن حلفاء واصدقاء كان يعتقد انه امن جانبهم، بل ايضا على ما حفلت به الاحداث الاخيرة في ساحل العاج من اخطاء سياسية تشوب دوافعها مصالح ضيقة تكاد الجالية اللبنانية التي يغلب عليها الطابع الشيعي الجنوبي ان تدفع ثمنها.
في المباشر حاول السيد نصرالله في دفاعه عن الرئيس بري ان يستوعب الصدمة وان يدافع عما تبقى من صورة التحالف بين قطبي الساحة الشيعية السياسية، ليس لقناعة عميقة بان ما تكشفت عنه رسائل “ويكيليكس” هو مزور او طاله التحريف او انه ملفق وعار عن الصحة، بل لان الحفاظ على صورة القطبية والتحالف بين القوتين الشيعيتين واستمرار القبض على الطائفة بكاملها هو المطلوب والملح في المرحلة المقبلة وما فيها من تحديات داخلية واقليمية ودولية.
لكن ماذا يعني هذا الدفاع؟ وهل كان نصرالله مجبرا على ذلك، ام هل كان نبيه بري بحاجة لمثل هذا الدفاع؟ اسئلة تحفز المتابع على رصد مسار ومحطات هذا التحالف بين القطبين الحزبيين والسياسيين داخل المشهد الشيعي اللبناني.
فبعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في الرابع عشر من شهر فبراير/شباط 2005 والهجوم، ومحاولات العزل السياسي، الذي تعرض له بري بعد هذا الاغتيال، ضاقت الخيارات امامه خصوصا وانها تزامت مع تراجع في التأييد السوري كان قد بدأ قبل الاغتيال على الرغم من محاولات التصحيح التي قام بها بري من خلال تبني تشكيل تكتل وطني في مقابل تكتل البريستول المعارض لسوريا، وبعد الاغتيال لم يبق امامه سوى اللجوء الى دائرة الحماية التي يوفرها تحالف قوى الثامن من آذار، وتبنت قيادة حزب الله مساع لترميم علاقته مع دمشق وبالتحديد مع الرئيس بشار الاسد.
حاول بري الحفاظ على استقلالية ما لنفسه واللعب على خيوط التوازن مع الفرقاء اللبنانيين مستفيدا من موقعه داخل قوى الثامن من آذار، الا ان حرب تموز 2006 حرمته هامش اللعب ووضعته امام واحد من خيارين، فاما ان يستمر في اللعب على خيوط التوازن وبالتالي الدخول في مغامرة خسارة قاعدته الشعبية التي باتت اكثر انسجاما مع قاعدة حزب الله داخل الطائفة الشيعية في ظل مغرى المقاومة والانتصار، واما ان ينضوي في تحالف مع شريكه في الطائفة بانتظار لحظة الافلات.
بعد حرب تموز والمستجد السياسي والعسكري الذي فرضته نتائج هذه الحرب وتحول حزب الله الى احد المتحكمين بمفاصل اللعبة السياسية بتفويض عن قوى اقليمية، لم يبق امام بري سوى اللجوء الى حزب الله للدفاع والحفاظ على مكتساباته في التركيبة السياسية والادارية وما تبقى له من نفوذ سياسي.
وفي الخطاب الاخير لامين عام حزب الله والذي خصص المحور الاول منه للدفاع عن نبيه بري وما جاء عن لسانه في رسائل “ويكيليكس” ومحاولة تبرئته والايحاء بان ما جرى كان في اطار اتفاق ضمني مسبق بين الطرفين وتوزيع ادوار يتولى فيه بري قيادة الحوار السياسي والاطلالة على العمل العسكري، فيما يتولى نصرالله قيادة العمل الميداني والمواجهة مع عدم اهمال الجانب السياسي، فان في هذا الخطاب الكثير من الاشياء التي لا بد من التوقف عندها.
فالخطاب على الرغم من نعومته وهدوئه، الا انه لم يستطع اخفاء الصدمة والارباك الذي شعر به نصرالله وقيادة حزب الله من الكلام المسرب وما فيه من آراء ومواقف عن حزب الله وبالتحديد امينه العام.
ولجوء نصرالله للعض على الجرح والتأكيد على استمرار التحالف بين الطرفين سيدفع ببري للارتماء اكثر في حضن نصرالله، ما يعني مصادرة ما تبقى لبري من هامش مناورة وحرية العمل السياسي، ما يعني أيضا إلغاء لكيانه السياسي وزعامته داخل الطائفة وان كان هذا الالغاء مؤجلا او ممنوعا على اي من الاطراف الحديث عنه، وهذا يعني الانتقال من مرحلة كونه لاجئا سياسيا لدى حزب الله بعد حرب تموز الى مرحلة المصادر مع منحه بطاقة “قيد الدرس” لحين اثبات ولائه وخلوص نيته والتخلي عن رغبة القفز على الخيوط.
ولعل السؤال الاساس الذي تطرحه هذه التطورات، هو المتعلق بانعكاساتها على الساحة الشيعية؟
في المراحل الماضية، استطاع كلا الطرفين، اي حزب الله وحركة امل، من مصادرة القرار الشيعي، وحتى مصادرة قرار الطائفة الشيعية بكاملها بذريعة الحفاظ على وحدة الصف الداخلي في مواجهة الاستهداف الذي تتعرض له المقاومة وجمهورها. والجميع يعرف ويعلم كيف تم توزيع الادوار في التصدي لاي صوت شيعي حاول التمايز عنهما، لكن حتى تلك المحاولات المبنية على الاعتراف بالاخر وعدم العداء كانت تتعرض للاحباط، والحرب استخدمت فيها كل الاسلحة الاخلاقية وغير الاخلاقية.
اما شعار الخيار او الصوت الشيعي الثالث، فقد تعرض بعض من حاول الهمس به لتهمة التخوين والانشقاق وتنفيذ مخططات تخدم الاهداف الاميركية والصهيونية، اما من رفع هذا الشعار من الاصلاحيين داخل حركة امل ممن يرتبطون بعلاقة صداقة مع حزب الله فقد جرى قمعهم او احباط مساعيهم بذريعة حاجة المرحلة وما تفرضه من ضرورات اقليمية الى جانب الحفاظ على وحدة الصف الداخلي.
وبعد الخطاب الاخير، ومصادرة ما تبقى سياسيا من حركة امل ورئيسها، وهو ما تأكد في مضمون البيان الاخير الصادر عن المجلس المركزي لحركة امل، فلم نعد بحاجة لرفع شعار الخيار الثالث الشيعي، لاننا لم نعد نواجه ثنائية مسيطرة، بل نحن ومن اجل استمرار دور فاعل للعائلة الشيعية بين العوائل اللبنانية، مدعوون لرفع الصوت عاليا وان نبدأ العمل على بلورة رؤية شيعية “ثانية” وليس ثالثة، تقدم خطابا وطنيا مدروسا متمايزا لا يستثير الاخرين ولا يتخلى عن ثوابت الطائفة في اطار العيش المشترك ويحافظ على المكتسبات الوطنية التي تحققتها المقاومة والدولة اللبنانية على حد سواء.
ان ما خرج به خطاب نصرالله من واقع جديد على الساحة الشيعية، يدعو الجميع الى بذل الجهد للعمل على بلورة “خيار ثان” شيعي بعد ان تم الغاء الثنائية لصالح التفرد بالتمثيل الملون شكلا.