بسلاح «الناتو» أو بسلاح الثوار، أسقط الليبيون معمر القذافي. هم الأُوَل، من بين الشعوب العربية، الذين احتكموا إلى السلاح في ثورتهم. بعفوية تامة، بفوضى وبراءة سياسية أخلتا المكان للعصبيات الأضيق، دشنوا إنتصار ثورتهم بنهاية شنيعة لديكتاتورهم، ليست هي المثال الذي يُقتضى به. فكان من المنطقي بعد ذلك ان تضجّ ساحتهم ألما بعد ثورية بهذا الكمْ الهائل من النزاعات المسلحة ذات العصبيات الضيقة، من مدينية أو قبيلية أو مناطقية؛ مرفق كل ذلك طبعاً بالفوضى الميليشيوية العارمة، والغيرة على السلاح الخاص، ومقاومة كل أشكال الإندماج بالسلاح النظامي قيد التشكّل.
بماذا يردّ المجلس الوطني الإنتقالي الليبي، المفترض به انه السلطة السياسية المولجة تنظيم المرحلة الانتقالية، المعقّدة في كل الأحوال؟ يصدر القرارات والقوانين تلو الأخرى، ولا واحدة منها نفّذت أو احترمت. كانت آخرها قوانين «تجريمية»، أهمها اثنتان: قانون يجرّم «كل دعاية تمجّد القذافي أو نظامه أو أبنائه». واذا أدت الدعاية إلى «الإضرار بالبلاد»، فان الحكم لا يقل عن «المؤبد». ثم مرفق به قانون آخر يجرّم «أي شخص يفعل أي شيء يمسّ بثورة 17 فبراير»(وكلنا يعرف المعنى المطاطي للـ»إضرار» أو «المسّ«).
طبعا لا يمكن للمرء غير الملاحظة بأن عدداً لا بأس به الليبيين الثوار، مدنيين كانوا أم عسكريين، انتقلوا بعد الثورة من وضعية الى أخرى: من وضعية الضحية الى وضعية الجلاد. من طلاب حرية الى أصحاب مشاريع قمعية، ميليشياوية، أو مدنية، مشاريع صغيرة وكبيرة، بائنة ومستترة، دموية و»نظيفة»…. تبدو محصّلة هذه الوضعية مثل إتجاه عام، هو تماماً عكس ما عاشته ليبيا أثناء ثورتها ضد القذافي. فطعم الحرية الندي يبدو انه في سبيله الى التبدّد، مع توجه عام نحو نقيض الحرية، نحو نوع من القمع الذاتي والموضوعي.
حتى الآن، لم يُعرف أعداد القتلى الذين سقطوا من جراء عمليات «الناتو» الجوية التي آزرها الثوار على الارض (آخر إحصاء قامت به المنظمة العالمة لحقوق الانسان كانت نتيجته «72 قتيلا مدنياً»). ولكن مهما بلغ هذا العدد، فانه لا يمكن مقارنة حجم الإجرام الذي تعرض له الشعب الليبي اثناء ثورته، بذاك الذي ما يزال يتكبّده الشعب السوري منذ سنة ونيف على يد جيش الأسد.
لماذا ليبيا ولماذا سوريا الآن؟ لأن ما يجمعهما هو العنف الذي رافق ثورة شعبيهما، والذي أنتج عنفا مضادا هو البيئة الأكثر صلاحا لتحول الضحية الى جلاد، طالب الحرية الى ممارس للاستبداد. طبعا يمكن التعويل هنا على الثقافة المدنية السورية الأعرق بين السوريين، وكذلك على الدور الحثيث الذي يقوم به مثقفو سوريا لحماية الثورة من وحوشها التي خلقها النظام. يمكن الكثير… ولكن ايضا يجب التوقع بأن الخيط الرفيع الذي يفصل بين الحرية والاضطهاد، هو بنفس رقة الخيط الذي يفصل الحياة عن الموت: دقيق، سريع ومتقلّب.
من الضحية الى الجلاد، المعزوفة قديمة، لم تعفِ ثواراً ولا منقلبين ولا دعاة حروب. عندما يكون السلاح حكما، لا بد من ان يتحول خصماً، حتى لو كانت قضيته عادلة.
الآن الثورة السورية ما زالت جارية، وقد يكون مكتوباً لها سنوات من الدم والدموع. والمناخ الدائر حولها، المناخ الحاضن لرجفة التحول من الحرية الى الاضطهاد، هو مناخ قوي، تعزّزه الآلة الاعلامية الذكية لجيش الأسد. ما يثير المسألة على نحو مقلق. اليكم القصة: منذ أيام شاع على «الفايس بوك» والشبكة الالكترونية «خبر» مفاده ان شاعراً سورياً مرموقاً من العيار العالمي، ناهضَ الثورة السورية منذ مهدها وما زال، تعرّض الى التهديد بالقتل من قبل «موقع معارض». وتصديقا على «الخبر» أذيع أيضا «البيان» الذي أنزله «الموقع المعارض على النتْ». وفي البيان عبارات مذهبية واضحة، وهجاء وتشهير والى ما هنالك…
لكن في البيان أيضاً لا وجود لتهديد بالقتل. ثم أن «الخبر» الذي تناقلته أعداد وفيرة من المواقع الالكترونية لم يرشدنا، ولو بكلمة واحدة، الى الموقع الذي أصدر التهديد. بل أحد المواقع تبرّع بمعلومة إضافية «ساخنة» («طبقا لمعلومات جيدة وقوية التوثيق»)… وقوامها ان أعضاء محدّدين، بأسمائهم الكاملة، من «رابطة الكتاب السوريين» التي تأسست حديثا من مثقفين معارضين للنظام، هم الذين يقومون باختيار المثقفين السوريين الموالين للنظام، ووضعهم على «قائمة المطلوبين للقتل». تذهب الى موقع الرابطة لعلك تجد شيئا، واذا به خال تماما من ذكر شيء عن الموضوع.
«الخبر» ملفّق اذن، ويجب ان نعتاد عليه. ولكن ما الذي أعطاه قوة التصديق هذه؟ أولا، الآلة الاعلامية غير الرسمية، غير السورية، التي تخدم النظام السوري؛ وهي الجوهرة الثمينة التي يتكىء عليها تعويضا عن إنعدام مصداقيته الاعلامية. وفي لبنان يوجد الكثير من هذا، وجوها ووجهاء وبيانات تضامن… الثاني ان المعرفة الفائضة التي عند اللبنانيين عن مناخات الارتجاف الانقلابية التي يتحول فيها الضحايا الى جلادين؛ وقدرتهم الهائلة على تمثّل ذلك. فهم الآن محكومون بمن كان بالأمس القريب ضحية. الشاعر نفسه، المعني بالتهديد، لم ينفِ «الخبر»، ولا أكده. صمتَ عنه. بدا وكأنه، في خضم مهرجان غرناطة العالمي للشعر الذي كرّس نجوميته أكثر فأكثر في ساحة المشهد الثقافي العالمي… بدا، بصمته هذا، كمن يحمل صليبه وسط التصفيق. وربما أيضا، لأن المعارضة لم تنفِ ولم تردّ. كل شيء حصل بين الزوايا، تسرّب كالمياه، واستقر في العقل. وآيته ان الثورة السورية، لمن يعاديها، هي بئر من الثأر، أين منها ثارات النظام؟ فهذا الأخير يحرّض على الثورة في المكان الذي يوجعها، أي العسْكرة، الضرورية والحتمية ولكن الخطرة عليها في آن. فالنظام خبيث ومتمرّس. يمكنه أن يسقط نفسه، بكل شروره، على الثورة، ويبصمها بملامحه. انه يلعب على القتل الجسدي والقتل الروحي. والثورة من جهتها تحتاج الى التحصّن ضد منطق الثأر، المسؤول عن رجفة التحول من ضحية الى جلاد.
القصة الوهمية الدائرة حول تهديد الشاعر المرموق ليست هي الأولى ولا الأخيرة. قد تتكرر هي نفسها. وقد يبتدع أعوان النظام حبكات أخرى. فحيَله لا تنضب. والأسرة الدولية الآن ليست مشغولة بثورة الشعب السوري إلا من باب استحقاقاتها الداخلية، التي يبدو انها ليست قريبة. لذلك فالوقت متوفر لدى النظام لإختراع صنوف جديدة من أجل قتل روح الثورة. وهي، أي الثورة، تحتاج الى من يقف لهذه المحاولات بالمرصاد، بالمعنى الحرفي للكلمة: رصد ما ينال من روحها، تشريحه، فرزه، سرده، التدقيق بمصادره الخ. وهذا تمرين على الدفاع عن الذات ضد الهجمات الكفيلة بتحويلها من ثورة ابتغت الحرية إلى ثورة أفضت الى نقيضها.
dalal.elbizri@gmail.com
كاتبة لبنانية – بيروت
نوافذ “المستقبل”
هل تضيّق ثوراتنا المسافة القائمة بين الحرّية والاضطهاد؟ الكارثة ليس فقط سوريا ومعارضيها، بل بنية التفكير العربي. فمثلا كاتبة المقال دلال البزري كتبت مقالها ونشرته على نمط الانظمة العربية التي لا تعبأ بجمهورها وعلى النمط الديني الذي يتحدث الى الناس بحقائق علويه هلامية على المستقبلين قبولها.. مقال البزري لا ينشر في اي صحيفة اوروبية تحترم نفسها وقارئها.. فمقالها جوهره حدث مع شاعر مرموق وعالمي تم تهديده ببيان وهمي وهو لم يبدي اي استجابه . لماذا لا تذكرين اسم الشاعر؟ تخافين ان يستعديكِ؟ او ان جمهوره ان يؤذيكِ؟ انت اذن حالك حال الشعوب العربية المستكينه.. لا تحدثينا عن الحرية قبل ان… قراءة المزيد ..