يُقتل، يومياً، فلسطيني أو أكثر بدعوى محاولة طعن. وقد تكون بعض تلك الدعاوى صحيحة، ولكنها لا تبرر، ولا تفسّر، هذا القدر من خفّة الأصبع على الزناد، الذي يسم سلوك الجنود الإسرائيليين. ولمَنْ شاء الاستفاضة فعلى الإنترنت مقاطع فيديو كثيرة تبيّن أن القتل لم يكن الخيار الأخير بل الأوّل.
يمكن، طبعاً، وبوجه حق، كيل الإدانات والاتهامات والشتائم للإسرائيليين. ولكن هذا ما يصدق عليه قول الأعرابي القديم: أشبعتهم شتماً وفازوا بالإبل. فهذه الوجبة اليومية من الدم مجّانية، وسيئة التوقيت، في جغرافية واقعية ورمزية للقيد والحرية، أخرجها فيضان الدم في الشرق الأوسط من متن الضمير الإنساني إلى الهامش.
وإذا جاز المجاز، وقلنا إن مصر هبة النيل، فإن إسرائيل الجديدة هي هبة البغدادي وبشّار الأسد. كلاهما وجه لعملة واحدة، ورائد في خارطة طريق جديدة للجحيم. وفي كليهما ما يؤكد أن الثقة بقدرة القيم على حماية الناس، أو تمكينهم من العيش والتعايش، مجرد وهم أفاق منه العالم على مشهد السبي، والجزية، والانتحاريين، والغزوات، في خلافة البغدادي، والبراميل المتفجرة، وصواريخ سكود، وملايين اللاجئين، ومئات الآلاف من القتلى، في دولة بشّار.
فلنبتعد قليلاً لنقترب أكثر: القيم ليست تراكمية، ولا أبدية، بالضرورة. في القرن الثامن عشر لم تكن للقومية مركزية كتلك التي أصبحت لها في قرن لاحق كانت سمته الرئيسة حروب القوميات. ومنذ الثورة الفرنسية، وحتى ما قبل نهاية القرن العشرين بعقود قليلة، فقدت الأيديولوجيا الدينية، في أربعة أركان الأرض، بوتائر متفاوتة، من مكان إلى آخر، مركزيتها في الحياة العامة، ولكنها تعود الآن، في مطلع قرن وألفية جديدين، بعنف غير مسبوق. بعد الحرب العالمية الثانية أصبحت الديمقراطية، وحقوق الإنسان، في صميم الديانة المدنية. ولكننا نعرف، الآن، أنها وثيقة الصلة بعالم وصراع الحرب الباردة. والأهم، أنها غير مضمونة في عالم ما بعد البغدادي وبشّار.
فلنعد إلى إسرائيل. ففي البحث عن مُسوّغات حضارية، وسياسية، واستراتيجية، لدولة يهودية في فلسطين، عثر هرتسل على مجاز حائط الصد، الذي يمكن أن تمثله دولة كهذه تقوم مقام الحامية المتقدمة لأوروبا، العجوز، في وجه البربرية الآسيوية. ولنلاحظ أن بربرية القرن التاسع عشر الآسيوية تبدو نوعاً من لعب الأطفال، إذا ما قورنت، بعد قرنين، ببربرية البغدادي وبشّار. وهذا ليس موضوعنا.
المهم، أن فرضية الحامية الأوروبية المُتقدّمة لم تفارق خيال الإسرائيليين، وتصرفوا، حتى وقت قريب، بما يؤكد جدارتهم بدور كهذا. وتجلى أعلى تصعيد لها في إحياء أسطورة الجلاّد المُقدّس، الذي يطلق النار ويبكي. وعبّرت عنه غولدا مائير في عبارة موحية: “نحن لا نكره الفلسطينيين لأنهم يقتلون أولادنا، بل لأنهم يرغمون أولادنا على قتلهم”.
تنتمي عبارة كهذه إلى أصفى ما في عصر التنوير، والنزعة الإنسانوية الكولونيالية، من مرافعات تاريخية، وتضفي عليها مصائر اليهود الأليمة في الحرب العالمية الثانية، دلالة تراجيدية تماماً. وهي، في كل الأحوال، مُثقلة بقيم معاصرة لا يجد كثيرون، غير الضحايا، صعوبة في التماهي، أو التعاطف معها.
ولكن إسرائيل الجديدة، وخفيفة اليد على الزناد، لم تعد معنية، منذ عقود قليلة، لا بدور الحامية المُتقدّمة، ولا عصر التنوير، والنزعة الإنسانوية الأوروبية، وتجلياتها الثقافية والسياسية في الغرب. صحيح أنها تريد وتستفيد من التموضع، في معسكر الغرب، لمجابهة تهديد الجهاديين الإسلاميين لسلام وسلامة العالم. وصحيح أنها تحاول موضعة عمليات الطعن الفردية اليائسة كجزء عضوي في تهديد الجهاديين الإسلاميين لسلام وسلامة العالم. وصحيح أنها تحاول الاستعانة بنموذج بشّار للتدليل على عطب وبوار السياسة والساسة في عالم العرب حكّاماً ومحكومين.
ولكن الأصح من هذا كله أن إسرائيل تغيّرت، وأن لسان حالها، الآن وهنا، للأوروبيين، والعالم عموماً، إذا أردتم الحفاظ على السلام والسلامة فما من طريق سوى الأسرلة. لم تعد إسرائيل معنية بأن تتأورب، بل على العالم أن يتأسرل. هذا يعيد إلى الأذهان عالم ألدوس هوكسلي “الجديد الشجاع”، حيث يقيم في أدنى السلّم الإنساني، والاجتماعي، بشر بلا هوية، أو حقوق، في محميات تسوّرها أسلاك شائكة، وتحرسها أبراج المراقبة، ويمكن قصفها بالطائرات إذا استدعى الأمر. ولعل أسوأ ما في هذا النموذج أنه يبدو أكثر رأفة بضحاياه من خلافة البغدادي، ودولة بشّار.
ولنضع المفارقة الأليمة جانباً. إسرائيل التي نعرفها تغيّرت. وإذا كان ثمة ما يبرر للبغدادي تأويل نصوص دينية بما يمكنه من سبي نساء الآخرين واغتصابهن. وإذا كان ثمة ما يبرر لبشّار الأسد قصف مواطنيه بالبراميل المتفجرة لتطهيرهم من غواية الإرهاب، فإن في إسرائيل المتمركزة على ذاتها القومية والدينية، وبالقرب من مركز صنع القرار، من يملك نصوصاً دينية لا تقل عن نصوص البغدادي قابلية للتأويل، وفيها، أيضاً، مَنْ يفكّر: إذا جاز لأحد أن يفعل هذا بشعبه، لمَ لا يجوز لآخر أن يفعل هذا بعدوه. في العالم، أيضاً، من يفكر بالطريقة نفسها.
عندما انقض الغازي كورتيس على إمبراطورية الآزتيك العريقة، اضطرب السكّان الأصليون، ولجأوا إلى كبير العرّافين لتفسير ما تراه أعينهم، ولا تستوعبه عقولهم، قال بعد صمت بليغ للتدليل على فشله في الفهم: لقد انقطع الاتصال بين السماء والأرض. وإذا جاز هذا في زمن مضى، فلا يحق لأحد في الوقت الحاضر تبرير الفشل في فهم ما يجري بانقطاع الاتصال بين السماء والأرض، والأسوأ من هذا كله محاولة التوّسط بين السماء والأرض.
khaderhas1@hotmail.com