هناك إدعاء شائع في مصر باستقلالية ونزاهة القضاء وهو إدعاء تكذبه أو على الأقل تشكك في مصداقيته الأحكام الصادرة في معظم القضايا السياسية في مصر واليكم بعض الأمثلة:
• قيام جهاز النائب العام ـ وهو أحد أهم مكونات المنظومة القضائية في مصر ـ بحفظ التحقيق في قضية التحرش الجنسي الشهيرة التي قامت بها عناصر من جهاز الشرطة السرية منذ أعوام قليلة بصحفيات ومعارضات مصريات على سلم نقابة الصحفيين في القاهرة هذا بالرغم من نشر صور تفضح هذا الفعل البشع وتظهر فاعليه بشكل واضح وهو حادث لم يشهد العالم المتحضر له مثيلاً .
• عدم صدور حكم حتى الآن في قضية مقتل وإصابة آلاف المصريين في حادث غرق العبارة المصرية منذ حوالي عامين والسبب أن صاحب العبارة كان من الأصدقاء المقربين لرئيس ديوان رئيس الجمهورية الذي سهل عملية هروبه إلى خارج مصر بعد الحادث مباشرة .
• ما يتعرض له أيمن نور من أحكام قضائية جائرة وآخرها رفض وتسويف كل الالتماسات التي تقدم بها للعلاج خارج السجن لمجرد قيامه في يوم اسود بالترشح ضد الرئيس مبارك في انتخابات الرئاسة الأخيرة .
• قيام وزير العدل الحالي بمحاربة وإهانة القضاة بشكل لافت ووضعه كافة العراقيل أمام بعض الشرفاء منهم لمنح القضاء استقلالاً حقيقياً عن السلطة التنفيذية التي يحكم الرئيس قبضته عليها.
• وأخيراً صدور حكم منذ أسابيع قليلة بحبس أربعة رؤساء تحرير صحف معارضة لمدة عام مع تغريمهم مبالغ كبيرة بدعوى أهانتهم لرموز الحزب الوطني الحاكم.
إن من يطالع القاضي الشاب الذي أصدر هذا الحكم الأخير وهو يلقى بخطبته العصماء مبرراً هذا الحكم المعيب يدرك على الفور مدى تغلغل السلطة التنفيذية في أعمال السلطة القضائية التي لازال البعض يشيد بسوء نية بنزاهتها واستقلالها المطلق.
إن حيثيات الحكم الصادر باختصار شديد تقول أن المحاميين اللذين حركا الدعوى قد أصابهما ضرر بالغ من جراء قيام رؤساء التحرير الأربع بالكتابة في صحفهم بشكل سلبي عن الحزب الحاكم الذي ينتمي إليه المحاميان وان هذا الضرر من شأنه تحقير المحاميين أمام الرأي العام المصري وإجهاض الروح الوطنية لديهما ولكل أعضاء الحزب الوطني .
إن حيثيات حكم من هذا النوع تدحض بالكامل مقولة نزاهة واستقلال القضاء وتظهر بجلاء أن هذا القاضي قد تعرض لعملية اختراق واضحة من قبل الحزب الحاكم وانه كان ضحية عملية إخراج رديئة لمهزلة قانونية انيطت به وسميت بالمحاكمة، بيد أنها كانت مجرد رسالة قوية لكل الصحفيين الشرفاء بأنه لم يعد هناك حصانة لأحد إذا ما هاجم أي من رموز النظام الحاكم حتى ولو كان الحصن المنشود هو القضاء، فبصدور هذا الحكم تم إعلان سقوط آخر حصون المقاومة ضد حزب آل مبارك المسمى اعتباطاً بالحزب الوطني .
والأسوأ من هذا أنه حتى لو فشل نظام مبارك في تحقيق مراميه عن طريق القضاء المدني فهناك القضاء العسكري وهو قضاء للأحكام السريعة ويتبع الرئيس مبارك ذاته باعتباره الحاكم العسكري للبلاد وهو قضاء من درجة واحدة أي أن أحكامه غير قابلة للاستئناف وعادة ما تحال له القضية والحكم الخاص بها حتى لا يرهق القضاة العسكريون أنفسهم، وكان الله في عون قيادات الإخوان المسلمين الذين تم إحالتهم إلى هذا القضاء.
لقد كان واضحاً وضوح الشمس أن القاضي الشاب متحامل ومشحون وموجه ولا يتمتع بأي قدر من الحصافة أو الكياسة دعك من الحيدة والنزاهة، فالقاضي المسكين لم يحاول أن يتحرى عن الباعث الحقيقي الذي حدا بهذين المحاميين لتحريك دعوتهما ضد الصحفيين وهل كان باعثاً أصيلاً أم باعثاً تحريضياً من سلطة ما؟ وهل حدث بالفعل ضرر ما للمحامين من جراء هذه المقالات؟ بمعنى هل تعرضا بالفعل لحملة احتقار من الرأي العام المصري؟ وهل تم إجهاض الروح الوطنية لهما ولأعضاء الحزب الوطني بالفعل؟ إن القاضي لم يوضح في حيثيات حكمه عما إذا كانت هذه الأضرار قد وقعت بالفعل أم أنها كانت ستقع لولا حكمه السديد، والأهم من هذا كله أين هو هذا الحزب الوطني وهل يصح أن يقال عن حزب لا يضم سوى ثلاثة أشخاص هم الرئيس وزوجته ونجله حزباً؟ فالكل يعلم أن الحزب الوطني لا يضم أي فعاليات سوى هؤلاء الثلاثة، فحتى من يقال عنهم بالديناصورات الكبيرة في الحزب مثل صفوت الشريف وفتحي سرور رئيساً مجلسي الشعب والشورى لا حول لهما ولا قوة إلى جوار الملكة والوريث؟ أما باقي أعضاء الحزب فإنهم مجموعة من الانتهازيين والنفعيين.
وحقيقة فإنني غير مندهش لمثل هذه الأحكام حيث أنني أتساءل دائماً هل يمكن أن يوجد قضاء مستقل ونزيه في ظل وجود نظام حكم مستبد وفاسد؟ والإجابة دون أدنى تردد أن هذه التوليفة مستحيلة لأنه لو وجدت هذه النزاهة والاستقلالية لما كان هناك فساد أو استبداد، وانه لمن السذاجة أن تتخيل أن يتمتع القضاة بمناعة خاصة في بيئة كل ما فيها ينضح بالفساد والعفن.
ودعوني أختم مقالي بواقعة عايشتها بنفسي توضح كيف تحولت مصر إلى مجتمع تتحكم فيه قوى الأمن والشرطة على حساب القانون والنظام وحتى الذوق العام والأخلاق فمنذ أسابيع قليلة ذهبت في زيارة قصيرة إلى القاهرة على طائرة مصر للطيران القادمة من لندن ، وبمجرد دخولنا صالة الجوازات سمعت أشخاصاً ينادون على اسم شقيق اللواء فلان وليس في الأمر ما يستحق الانتباه فهذا شيء معتاد في مطار القاهرة ولكن عند سير استلام الحقائب وجدت شقيق اللواء هذا محاطاً بثلاثة حمالين مرة واحدة وكل منهم يمسك بعربة حمل حقائب من النوع الكبير جداً “مقطورة” وما هي إلا لحظات حتى ظهر اللواء نفسه رأيته يسال أحد الحمالين عما إذا كانت هذه العربات تكفى لحمل 18 حقيبة كبيرة وبعض الأجهزة فأجابه بنعم . دفعني الفضول إلى الانتظار قليلاً حتى أرى كيف سيتعامل رجال الجمرك مع هذه الحمولة الكبيرة ومع شقيق اللواء، والحقيقة أن الحمولة مرت أمامي في لمح البصر ووسط ترحيب رجال الجمارك وبدون أي أسئلة بالرغم من وجوب خضوعها للتفتيش وللرسوم الجمركية.
تعمدت أن أمر من أمام نفس الموظف الجمركي وما أن تسلم جواز سفري حتى بدأ يسأل الأسئلة المعتادة عما إذا كنت أحمل عملات أجنبية أو سلع تستوجب سداد جمارك … الخ بالرغم من علمه من أنني غير مقيم في مصر ولا أحمل شيء من هذا القبيل والحقيقة أنني لم استطع أن أمنع نفسي من سؤاله بحدة عن أسباب عدم توجيهه لأي سؤال لشقيق اللواء، لم يكن الرجل يتوقع أنني كنت أتابع ما يجرى فشعر ببعض الحرج ولكنه كان لبقاً إذ قال لي أهلاً بك يا سيدي في مصر نحن أيضاً لم نفتح لك حقيبتك ولن نسألك … تفضل .
وهكذا فكما حول عبد الناصر مصر إلى دولة عسكرية تمتع فيها الجيش بكل خيراتها فقد حولها مبارك إلى دولة بوليسية تتمتع فيها الشرطة بذهب العز وهى تمسك بسيفه في نفس الوقت .
لقد سد نظام مبارك جميع المنافذ أمام قوى المعارضة المصرية لإحداث أي إصلاح حقيقي وملموس بالطرق السليمة وكان آخر هذه المنافذ هو القضاء الذي خفت صوته وسلم أمره لقوى الأمن، وأصبح الجميع يراهن على شعب مسكين لا يفعل شيئاً سوى انتظار المعجزة وكل عام وأنتم بخير .
مستشار اقتصادي مصري
Mahmoudyoussef@hotmail.com