السيد موسى الصدر في إطار الفقه السياسي الشيعي المعاصر
لم يكن صدفة أن يحمل السيد موسى الصدر منذ عاد إلى لبنان تراث السيد عبد الحسين شرف الدين (أي التراث الوطني اللبناني المستند إلى عروبة حضارية لا لبس فيها ولا غبار عليها)، وان يتمايز عن أقرانه ورفاقه الذين أسسوا “””حزب الدعوة””” في النجف الأشرف (ما بين عامي 1957 و1959 وهو تاريخ عودة الصدر إلى لبنان).. وهنا تاريخ مجهول لم يفتح أحد صفحاته بعد إلا أنه يستحق الاهتمام والدراسة كونه يلقي لنا ضوءاً كاشفاً على أمور ومواقف ما تزال تتردد أصداؤها إلى اليوم…
فمن المعروف أن الإمام الصدر لبناني الأصل والجذور، والى قرية شحور وآل شرف الدين ينتسب أجداده ومنهم السيد صالح شرف الدين الذي انتقل إلى قرية “معركة” حيث نشأت عائلة الصدر وعاشت مراحل اضطهاد احمد باشا الجزار للعلماء والأهالي في جبل عامل… مما أدى إلى نزوح العائلة إلى “النجف” حيث برز السيد إسماعيل (جد الإمام) ثم السيد صدر الدين الصدر ( والد السيد موسى) الذي قاد حركة دينية إصلاحية تقدمية وارتبط اسمه بالنهضة الأدبية والثقافية للنجف والعراق ومن ثم إيران، التي هاجر إليها وتزوج فيها من السيدة صفيّة كريمة المرجع الديني السيد حسين ال”قم”ي.. وهنا تجدر الإشارة إلى ارتباط السيد صدر الدين بأبرز مراجع التجديد والإصلاح في عصره من السيد ال”قم”ي (والد زوجته) إلى المرجع الكبير المجدد الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي الذي عاونه الصدر في إدارة الحوزة الدينية في “قم” وصار لاحقاً أحد أركانها وساهم معه في إنشاء مؤسسات علمية ودينية واجتماعية وصحية.. وهذان المرجعان تتلمذا معا على الميرزا محمد حسن المعروف بـ”المجدد الشيرازي”، وعلى الشيخ محمد تقي الشيرازي والشيخ محمد كاظم الخراساني وشيخ الشريعة الأصفهاني.. وهؤلاء لمن لا يعلم كانوا أركان التيار التجديدي الإصلاحي في الحوزات الشيعية وقادة “الإصلاحية الدستورية” في التاريخ الشيعي… كما أن السيد ال”قم”ي لم يكن فقط صديق ورفيق درب المجدد الشيرازي بل هو رفيق وزميل المجدد النائيني (صاحب كتاب تنزيه الأمة وتنبيه الملة وأحد أكبر الدعاة إلى الحكم الشوروي الدستوري).. والى هذا التراث ينتسب السيد موسى… فهو درس إذن في الحوزة العلمية بـ””قم”” على أيدي أعلام التجديد والإصلاح الكبار.. كما انه كان أول معمم يدخل جامعة طهران الحديثة وكلية الحقوق فيها.. وهذه نقطة ثانية مهمة لفهم العقل المنفتح والثقافة الواسعة التي ميزت الإمام الصدر عن أقرانه… وهو تخرّج من جامعة طهران الحديثة العلمانية وعاد إلى “قم” أستاذاً محاضراً في الفقه والمنطق ومؤسساً لأهم وأكبر مجلة إسلامية شيعية تنويرية إصلاحية (“مكتب إسلام”) مع الشهيد بهشتي والشيخ ناصر مكارم وبدعم وتوجيه من آية الله شريعتمداري.. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن رئاسة الحوزة الدينية في “قم” كانت معقودة للمجدد الكبير السيد البروجردي الذي لم يكن الإمام الخميني من أنصاره ومؤيديه، بعكس الإمام محسن الحكيم والإمامين الصدر وشمس الدين الذين كانوا من أنصار البروجردي.
وفي ذلك يكتب الشيخ هاشمي رفسنجاني صراحة أنه “حدثت بعض المشكلات بين السيد الخميني وآية الله البروجردي… قامت منافسة بين نشرتنا “مكتب تشيع” وبين نشرة “مكتب إسلام” التي كان يديرها متقدمون علينا حوزوياً ومن أنصار شريعتمداري… لو أن الإمام الخميني في عصر السيد البروجردي تدخل في الصراعات السياسية لما نجح، لعدم الانسجام بينهما… في عصر البروجردي كانت الأكثرية المطلقة من الطلبة تابعة له… وكان هو المرجع المطلق في باكستان وأفغانستان والعراق والخليج.. وأسس “دار التقريب بين المذاهب” و”مركز هامبورغ الاسلامي”…الخ…”(كتاب رفسنجاني: حياتي.دار الساقي،بيروت،2005،ص32-33-36-38-39).
وقد انتقل السيد موسى الصدر إلى النجف بعد وفاة والده (1953) حيث لمع نجمه خلال فترة وجوده هناك (حتى العام 1959) أي في فترة توهج وسطوع نجم مرجعية السيد محسن الحكيم الذي احتضن الإمام الصدر كما احتضن علماً آخر من جيله هو الإمام شمس الدين… وكانت أول زيارة للسيد الصدر إلى لبنان العام 1955 (حيث تزوج من ابنة السيد عزيز الله خليلي).. وقد تميّزت مرحلة النجف التي شهدت زيارات متكررة إلى لبنان والى “قم”، بدراسته على كبار المراجع: أبو القاسم الخوئي، محسن الحكيم، محمد رضا آل ياسين.. وبإتمامه لمرحلة الدراسات العليا (بحث الخارج) واشتراكه في تأسيس “جمعية منتدى النشر”… وهنا زامل ورافق الإمام الصدر كبار النجف يوم ذاك: الشهيد محمد باقر الصدر(ابن عمه)، والسادة الشهداء مهدي ومحمد باقر الحكيم (ابني السيد محسن)، والشيخ الموسوي الاردبيلي والسيد موسى الشبيري الزنجاني والسيد مرتضى العسكري (أحد ابرز قادة “””حزب الدعوة”””) والشيخ محمد مهدي شمس الدين والسيد محمد حسين فضل الله وغيرهم.
إن انتماء الصدر إلى التيار الإصلاحي المجدد في إيران والعراق، ورفقته وزمالته لرموز الحركة الإسلامية الإيرانية المدنية (“حركة تحرير إيران” وقيادتها: آية الله طالقاني، د. مهدي بازركان، د. مصطفى شمران، د. علي شريعتي، د. إبراهيم يزدي… وهي حركة إصلاحية كبرى كانت استمرارا وتطويرا لحركة الرئيس مصدق وتيارها المسمى “الجبهة الوطنية”) وصلته أيضاً بالمرجع الكبير المعتدل والليبرالي آية الله كاظم شريعتمداري، كل ذلك جعله يفترق ومنذ البداية عن أترابه الذين شاركوا لاحقا في تأسيس “”حزب الدعوة””… ففي ذلك المفصل التاريخي الذي شكلته سنوات 1954-1959 كانت البلاد العربية تغلي بالتطورات المتلاحقة التي حملت اسم فلسطين وعنوان التحرر والوحدة.. وكانت انقلابات سوريا (1949) ومصر(1952) ومعركة الأحلاف، وخصوصا حلف بغداد (1953-1955) وانطلاق الثورة الجزائرية (1954) ثم العدوان الثلاثي على مصر (1956) فالوحدة المصرية السورية (1958) وثورة 14 تموز في العراق ونزول القوات الأجنبية في لبنان والأردن (1958)، قد جعلت لبنان وغيره موقعا لصراع دولي من جهة أولى (روسي-أميركي أو شرقي-غربي) ولصراع عربي من ناحية أخرى (سعودي- ناصري- هاشمي)… فالتيار القومي العربي (الناصري والبعثي) كان يواجه التيار السعودي من جهة والتيار الهاشمي (وحليفه الأساس كان الحزب القومي السوري لمن ينسى أو يتناسى) من جهة أخرى، كما كان يواجه التيارات الشيوعية والإسلامية المختلفة، ناهيك عن الهجوم الدولي الشديد والمركز على المنطقة..وقد عمل شاه إيران في تلك الأيام على ربط الشيعة به ومن ثم بالأحلاف الغربية، يعاونه مسعى هاشمي (أردني-عراقي) وسياسة لبنانية رسمية (الرئيس كميل شمعون). وهنا بالذات تطورت مشاركة بعض أعيان الشيعة في القومي السوري (بعض كبار عائلات النبطية وصور) وتحالفها مع العائلات الأخرى الشمعونية الهوى… إذن، انقسم شيعة لبنان بين هذين التيارين العربيين الكبيرين وممثليهم المحليين (ثورة 1958 تقدم لنا إشارات واضحة حول الانقسام الشيعي رغم النفوذ الجماهيري للناصرية في الشارع)…وفي خضم هذه التيارات والتحركات شهد العراق نهضة ثقافية وسياسية هائلة كان النجف مركزها والمراجع الكبار محورها… فمع السيد الخوئي والسيد محسن الحكيم وولديه مهدي ومحمد باقر، ومع الشيخين الأخوين محمد رضا ومرتضى آل ياسين (أخوال السيد موسى)، والسيد محمد صادق الصدر (ابن عم السيد موسى وجد السيد مقتدى)، تشكلت حلقات الدراسة والتفكير ووضعت برامج الحركة والعمل بدءا بـ”جمعية منتدى النشر” و”جماعة العلماء” (ومجلتها “الأضواء”) ومرورا بـ”منظمة الشباب المسلم” و”منظمة المسلمين العقائديين” (وقائدهما عز الدين الجزائري) و”الحزب الجعفري” (عبد الصاحب دخيل وحسن شبر ومحمد صادق القاموسي وقد صاروا لاحقاً من المؤسسين لـ”””حزب الدعوة”””)، ووصولا إلى “”حزب الدعوة””… وكانت الأجواء العربية الملتهبة حافزا للطلبة والعلماء في النجف وكربلاء وبغداد وسامراء إلى البحث عن اطر مناسبة للتحرك الإسلامي الجاد يلبي احتياجات الشيعة العراقيين من جهة (وهم كانوا حرموا أية مشاركة في الحكم رغم ثوراتهم التاريخية ضد الاحتلال البريطاني)، ويواجه الاتجاهات الحديثة التي كانت تغزو بسرعة عقول وقلوب الشباب في مواجهة الملكية والاستعمار (المقصود الاتجاهات الليبرالية والقومية واليسارية والشيوعية منها تحديدا)…
وهنا يجدر تسجيل حادثة مهمة كان لها الأثر الكبير في التحركات اللاحقة وهي مظاهرة النجف الكبرى دعما لمصر في مواجهة العدوان الثلاثي.. فقد شهد العراق مظاهرات صاخبة ودامية كان أعنفها وأكثرها تأثيرا مظاهرة النجف الأشرف التي قمعتها السلطة بوحشية رهيبة وتلاها إعلان الأحكام العرفية في البلاد… ورغم ذلك استمرت التظاهرات في النجف وأبرزها تلك التي خرجت يوم 23-11-1956 وشارك فيها علماء الدين وأسفرت عن مجزرة دموية ارتكبتها السلطة وراح ضحيتها عدد كبير من الأهالي (ذكرت مجلة “العرفان” اللبنانية إن عدد القتلى بلغ 450)… وقد تلا ذلك بيان عنيف للمرجع الشيعي السيد الحكيم وإعلان الإضراب العام الشامل في النجف وهو إضراب تجاوب معه العراق كله وانضمت إليه مصر ولبنان وسوريا…
والى تأثير هذه الحركة الجماهيرية في النجف، وتأثير حركة مصدق في إيران والتي أسقطتها المخابرات الأميركية، جاءت تجارب لبنان (ثورة 1958) والجزائر (انطلاق ثورة التحرير الوطني) وفلسطين (حركة فتح) لتضيف وعيا كبيرا إلى تحرك شباب الحوزات والطلبة والعلماء في النجف. كما بدا بوضوح تأثر النجفيين بالتجربة الإيرانية الشديدة الوطنية إلى حدود التعصب (وكلنا نعرف ذلك) كما بالتجربة الجزائرية والتجربة الفلسطينية الوليدة، وهما تجربتان وطنيتان صافيتان لا بل أنهما تشكلتا من رحم الاعتماد على الذات الوطنية وليس على المد العربي (تجربة الجزائر المتميزة بمزيج إسلامي – جزائري شديد الخصوصية و تجربة حركة فتح التي خرجت قياداتها من رحم الإخوان المسلمين وعلى أساس الوطنية الفلسطينية).. وقد عرف عن الإمام الصدر في تلك المرحلة تأثره الكبير بـ”فرانز فانون” و”علي شريعتي” وبثوار الجزائر و”فتح” بقدر تأثره بالدراسة الحوزوية (وأساتذته فيها) وبالتجربة الإيرانية الوطنية-الإسلامية…
في مثل هذه الأجواء ولدت فكرة تشكيل حزب إسلامي شيعي في العراق أسوة بالإخوان المسلمين وحزب التحرير وحركة فتح وجبهة التحرير الجزائرية وحركة تحرير إيران ومنظمة فدائيان إسلام الإيرانية (وقائدها نواب صفوي المتأثر بحسن البنا)… وقد رأى الداعون إلى هذا العمل ضرورة النهوض بأعباء المرحلة وفي مقدمتها طرح الإسلام كعلاج للازمات الاجتماعية السياسية في مقابل التيارات الفكرية الأخرى التي كانت تستقطب شباب العراق، ومواجهة هذه التيارات بنفس الأسلوب الحركي التنظيمي الهادف إلى إيجاد وسائل للوصول إلى قطاعات في المجتمع كان يصعب الوصول إليها من خلال العلماء والطلبة الحوزويين في ذلك الوقت (مثل قطاعات الموظفين الحكوميين والطلبة الجامعيين في المدن الكبرى وأصحاب المهن الحرة وظباط وجنود الجيش)…
وفي تلك المرحلة بالضبط بدأ المشروع الإصلاحي اللبناني للإمام الصدر بالتبلور… فهو عايش معايشة وثيقة الحلقة الضيقة المؤسسة والقائدة لما أصبح فيما بعد “””حزب الدعوة”””… إذ في منزل السيد محسن الحكيم أو ولديه مهدي ومحمد باقر، أو في منزل السيد الخوئي نفسه، أو الشيخ مرتضى أو الشيخ محمد رضا آل ياسين، كانت تعقد الاجتماعات التأسيسية وبحضور أبناء السيد محسن ووكلائه الأساسيين (محمد مهدي شمس الدين وموسى الصدر ومحمد باقر الصدر إلى جانب السيد مرتضى العسكري ومحمد صادق الصدر ومحمد حسين فضل الله والشيخ عبد الهادي الفضلي والسيد محمد بحر العلوم والشيخ عارف البصري والسيد طالب الرفاعي والسيد محمد هادي السبيتي وغيرهم). غير أن السيد موسى الصدر لم يكن مرتاحا للعمل وفق النمط الحزبي الإسلامي الحركي للإخوان المسلمين أو حزب التحرير… خاصة وان بعض كبار مؤسسي “حزب الدعوة” كانوا ينتمون في البداية إلى هذين الحزبين (عارف البصري ومحمد هادي السبيتي- وهو لبناني اغتيل لاحقا في الأردن- وطالب الرفاعي).. كما أن التوجهات الفكرية والتنظيمية الأساسية للحزب الجديد جرت صياغتها استنادا إلى كتابات الباكستاني أبو الأعلى المودودي والمصري سيد قطب والفلسطيني تقي الدين النبهاني.. وكان السيد الشهيد محمد باقر الصدر متأثرا بكتاباتهم إلى حد كبير.. وهذه حقيقة أكدها لي مرارا الإمام شمس الدين كما أشار إلى دور المجلات المصرية التي كانت تصل إلى النجف في تلك الأيام… كما أن الإمام الكبير آية الله حسين منتظري أكد في أحاديث كثيرة تأثير سيد قطب عليهم في “قم” والنجف ومحاولتهم التوفيق بينه وبين عبد الناصر.. وقال منتظري انه يوم إعدام سيد قطب (آب 1966) بكى بحرقة وهو في السجن في طهران… وقد روى أكثر من مرجع إيراني وعراقي تأثرهم بالثورة الجزائرية وبتجربة جبهة التحرير الوطني (وقد ظلت العلاقة المميزة بين “حركة أمل” والجزائر إلى يومنا، هذا تأسيسا على ما بدأه الإمام الصدر، ولعل الإمام لم يكن ليسافر إلى ليبيا لولا الطلب الخاص من الرئيس بومدين)….
كانت مرحلة “قم” والنجف، إذاً، عاصفة ومليئة بالتحولات الفكرية التي كانت تعيشها النخب الدينية الشيعية.. (وهنا نفتح قوسين لعرض بسيط للحراك الإيراني الذي كان السيد الصدر مرتبطاً به منذ مرحلة الرئيس مصدق.. فالمعروف أن القيادات الدينية الشيعية وقفت مع مصدق ضد الشاه الذي انتصر بدعم أميركي كبير وعاد إلى الحكم في 19 آب 1953. أدى انهيار حركة مصدق الوطنية إلى نشوب صراعات بين قوى الجبهة الوطنية وقوى علماء الدين وعلى رأسهم آية الله كاشاني وحركة فدائيي إسلام (نواب صفوي).. دعم آية الله كاشاني وصدر الدين الصدر والخوانساري حركة “نواب صفوي” إنما بتحفظ بسبب تطرفهم، في حين كان المرجع البروجردي يعلن عن عدم رضاه عن تصرفاتهم. وبعد وفاة كبار المراجع في “قم” (البروجردي والخوانساري والصدر)، برز العلماء شريعتمداري والحكيم والكلبايكاني ومرعشي نجفي والخوئي.. إلا أن السيد محسن الحكيم أخذ محل البروجردي كمرجع أوحد في عصره.. والجدير ذكره هنا أن الإمام الخميني تجنب الإعلان عن إقامة مجالس عزاء للبروجردي (على مقتضى ما جرت به العادات) “خوفاً من ظهور شائبة من الشوائب ولم يكن راغباً حتى في كتابة رسالة”(رفسنجاني-ص49). إن هذا الأمر يكشف لنا تماماً عن حقيقة الصراعات في “قم” وأطرافها ومواقعهم وأدوارهم. ومن رحم هذه الصراعات ولدت “حركة نهضت آزادي” (حركة تحرير إيران-1960) وقائدها مهدي بازركان وآية الله طالقاني والدكتور علي شريعتي، “وهم كانوا يعطون أهمية كبيرة للانفتاح الفكري ولإرضاء المثقفين المتنورين.. والعلماء وتجار البازار المتدينين..(رفسنجاني، ص60). وأسس آية الله شريعتمداري “دار التبليغ” وهدفه “إيجاد مراكز تعليم أكثر تنظيماً متعددة البرامج داخل الحوزات التقليدية… وكان قانعاً بإلقاء الدروس والأبحاث والتبليغ والمهام الدينية..”(رفسنجاني، ص106-107)). وكان السيد الحكيم يؤسس في العراق المكتبات العامة ويقوم بتحديث التدريس الحوزوي والاحتفالات بمناسبة عاشوراء يساعده السيد محمد باقر الصدر والشيخ محمد مهدي شمس الدين وغيرهما.
حين قرر السيد موسى الرجوع إلى لبنان كانت قد نضجت في رأسه واختمرت فكرة العمل الذي كان ينوي القيام به… وقد أخبرنا الإمام شمس الدين أن الفكرة نضجت بالتشاور مع السيد محسن الحكيم الذي أعطى الإمام الصدر وكالة عامة وتفويضا كاملا.. ولم تمض اشهر على عودة الصدر إلى لبنان (1959) حتى اندلعت الانشقاقات والصراعات داخل”حزب الدعوة” الأمر الذي أدى إلى طلب السيد محسن الحكيم من أبنائه والمخلصين له الانسحاب من الحزب.. فانسحب السيد مهدي ثم السيد محمد باقر (اثر عودته من بنت جبيل في لبنان ولقاءاته مع السيد الصدر، والسيد محمد باقر الحكيم هو، للمناسبة، ابن شقيقة السياسي اللامع علي بزي وكان يحضر مجالسه في لبنان، وبالتالي فهو ابن خالة السيد فضل الله) ثم الشيخ محمد مهدي شمس الدين وتبعهم آخرون.. إلى أن أعلن السيد الشهيد محمد باقر الصدر فتواه التاريخية بعدم جواز انتساب علماء الدين وطلبة العلوم الدينية إلى أي حزب كان إذ هم يعملون للإسلام أي لكل الناس… وما زالت هذه الوقائع في أساس السجالات والخلافات داخل “حزب الدعوة” والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق وما بينهما إلى يومنا هذا.. المهم هنا تسجيل الفرادة والتميّز للإمام الصدر ومنذ مرحلة مبكرة، ووعيه لظروف وأوضاع الشيعة ولحاجات التنظيم والاستنهاض التي رأى أنها لا بد أن تختلف عن نمط التنظيم الحزبي الغربي الذي يحمل أسماء إسلامية.هكذا إذن تبلور تيار “حزب الدعوة” الذي بدأ يعمل في لبنان من خلال السيد محمد حسين فضل الله (والمشايخ صبحي الطفيلي وعلي كوراني وحسين كوراني وغيرهم) وواجهته الطلابية المسماة “الاتحاد اللبناني للطلبة المسلمين”(أبو سعيد الخنسا ومحمود قماطي ومحمد رعد ونعيم قاسم وغيرهم)، وفي مقابله تيار العمل الاصلاحي الذي مثله موسى الصدر وشمس الدين.
يتبع
* أستاذ علم الاجتماع السياسي والإسلاميات – بيروت- لبنان
[هل الحزب والمقاومة بديل الوطن والأمة والدين؟ (1)-
>http://www.metransparent.com/spip.php?page=article&id_article=6216&lang=ar]