ثمّة سياقات متعددة ساهمت في تشكيل “حزب الله” وبلورة مساره ورسم خطوط مصيره: 1-سياق الثورة والمقاومة والممانعة في العالم العربي ونموذجه الثورة الفلسطينية. 2- سياق الأهواء القومية والأممية التي استبدت بالمسلمين اللبنانيين رداً على ما رأوه ظلماً في تشكيل الكيان اللبناني. 3- سياق الفقه السياسي الشيعي العام (منذ زمن غيبة الإمام المهدي) واتجاهاته الإصلاحية وأعلامها الكبار كالنائيني والبروجردي والخوئي والحكيم وموسى الصدر ومحمد مهدي شمس الدين. 4- سياق النموذج الحزبي الشيعي (حزب الدعوة في العراق وامتداداته اللبنانية). 5- سياق النموذج الثوري الإيراني (نظرية الإمام الخميني في ولاية الفقيه ودورها في تشكيل الحزب).
ولا يمكن إعطاء صورة واضحة عن حقيقة “حزب الله” دون الأخذ بالاعتبار هذه السياقات مجتمعة متداخلة متكاملة، إذ دون ذلك تبقى النظرة مجتزأة والمعالجة غير مكتملة. ونحن سنحاول شرح هذه السياقات من دون تسلسل أو تمرحل وإنما في إطار رؤية أشمل تعرض للموقف الإسلامي والوطني في لبنان كما جسّده تراث الإمامين موسى الصدر ومحمد مهدي شمس الدين.
في المقاومة والممانعة ضد التجزئة والاحتلال
شهدت بلاد الشام أشكالاً من الممانعة والرفض والاعتراض الشعبي العربي على الهيمنة الاستعمارية والتجزئة والاحتلال والقهر والغدر وذلك منذ نهاية الحرب العالمية الأولى وانهيار الدولة العثمانية وانكشاف خيانات الحلفاء لمطالب العرب.. تلك كانت ممانعة تندرج في الإطار العربي والعالمي الأوسع المسمى بحركة التحرر الوطني وبحركات الاستقلال… وهي حالة أدت فيما أدت إليه إلى نشوء الدول والكيانات الوطنية “القطرية” وحملت إلى السلطة نخباً عسكرية بيروقراطية “تبرجزت” واستبدت تحت شعار فلسطين والمقاومة… من حسني الزعيم وأديب الشيشكلي في سوريا (1949-1950) إلى جمال عبد الناصر في مصر(1952)، إلى العسكر البعثي في سوريا والعراق (1963)، إلى عسكر الجزائر (1965) وصولا إلى انقلابات القذافي (ليبيا) والنميري (السودان)في العام 1969… ولا يمكن النظر إلى الرفض والممانعة الشعبية والحركات الاستقلالية والتحررية لتلك المرحلة بمنظار مقاومة لبنانية ضد احتلال إسرائيلي للأرض.. فلم يكن قد تبلور بعد “وعي لبناني” مقاوم مرتبط بالأرض والكيان والوطن والدولة.. ولا كان تبلور “وعي إسلامي” حول إشكاليات العلاقة بين الإسلام كدين وأمة، وبين الأوطان والدول والكيانات…وقد كان مسلمو لبنان (وشيعته تحديداً) في قلب الحركة القومية السورية والعروبية كما تشهد بذلك مؤتمرات وادي الحجير(1920) وصيدا(1933) والساحل(1936) وحركات العصابات المسلحة من أدهم خنجر وصادق حمزة إلى توفيق هولو حيدر وأبو علي المصري، وصولا إلى الحَرد ضد الدولة والكيان بعد الاستقلال. لا بد إذن من وضع الممانعة الشعبية الإسلامية اللبنانية لتلك المرحلة في إطار حركة التحرر الوطني العربية الاستقلالية في وجه الاستعمار وركائزه ومخلفاته وأبرزها الصهيونية (وعد بلفور) والرجعية (الأنظمة القائمة) والتجزئة (سايكس-بيكو)…وهي مرحلة قومية ثورية وأممية عالمثالثية سقطت مبدئياً في الخامس من حزيران مع سقوط المشروع الناصري والبعثي في الوحدة والحرية والاشتراكية (ولو أنهم لم يعترفوا بسقوطهم المخجل)… وما يستدعي التوقف هو الحالة القومية والأممية لمسلمي لبنان الرافضة للكيان “الانعزالي” والملتحقة بكل الثورات العربية والفلسطينية. فقد كتب الكثير عن ذلك ولا حاجة للعودة إليه إنما نشير إلى إن هذه الحالة كانت وما زالت كامنة في قلب وعقل المسلم ووجدانه وهي التي تفسر سرعة التحاقه بأية دعوة قومية (سورية وعربية، بعثية كانت أم ناصرية) أو ثورية تحررية (فلسطينية تحديداً) أو أممية شمولية (شيوعية كانت أم إسلامية)، طالما أن فكرة الدولة الوطنية والدساتير لم تترسخ بعد وطالما أن العصبيات المختلفة هي التي ما تزال تحكم عقلنا وسلوكنا.
المقاومة الفلسطينية وأثرها في لبنان
كانت نكسة حزيران 1967 نقطة تحول تاريخية في الوضع العربي واللبناني… ولعلها فاقت في خطورة تداعياتها نكبة 1948. وبدءاً من صيف 1967 (الانطلاقة الثانية لحركة فتح في آب67 بعد الانطلاقة الأولى في 1-1-1965) تطورت في جنوب لبنان حالة من المقاومة والصمود والتحدي ارتكزت إلى عناصر متعددة:
أ- الاعتداءات الإسرائيلية التي تصاعدت مع تصاعد حالات التسلل الفدائي إلى الأرض المحتلة عبر جنوب لبنان.
ب- صمود الأهالي الأسطوري وصبرهم وتحملهم لكل أشكال العدوان، وتلاحمهم الذي قل نظيره في احتضان الفدائيين الأوائل رغم الكلفة العالية التي دفعوها في الأرواح والممتلكات…
ج- الدعم المصري والسوري (وحتى العربي المحافظ أو الرجعي كما كانوا يسمونه) لانتشار وتمدد الثورة الفلسطينية في جنوب لبنان وذلك لأهداف وغايات متفرقة ليس أقلها التعويض عن نكسة حزيران معنويا (خصوصا بعد مؤتمر الخرطوم ولاءاته الثلاث وبعد المصالحة المصرية-السعودية التي أنهت حرب اليمن)، وإشغال العدو بالترابط مع حرب الاستنزاف على الجبهة المصرية (1968-1969)، والصراعات الداخلية على السلطة في سوريا (ولادة منظمة الصاعقة كإحدى أدوات هذا الصراع الداخلي الذي تصاعد بعد عام 1969 وصولا إلى انقلاب الفريق حافظ الأسد في 16 تشرين الثاني 1970)
د- المغامرة والمقامرة في معارك أيلول الأردن 1970 والتي أدت إلى طرد المقاومة الفلسطينية نهائيا من الأردن واتجاه قواتها صوب جنوب لبنان.. ويمكن قراءة أحداث أيلول كمثال ساطع على استخدام المقاومة في أوراق الصراع السوري الداخلي كما السوري-المصري والسوري-الأردني ناهيك عن الدور العراقي يوم ذاك.
ه- أزمة اليسار العربي واللبناني بعد نكسة حزيران، وانطلاق اليسار الجديد على قاعدة الارتباط بمشروع الثورة الفلسطينية “رأس الحربة للثورة العربية الشاملة” (على حد تعبير احد كراسات حركة فتح)، وبأن “فلسطين هي طريق الوحدة”، وليس كما كان القوميون العرب يقولون: الوحدة طريق التحرير (شعار وحدة تحرر ثأر عند حركة القوميين العرب، وشعار وحدة حرية اشتراكية عند أحزاب البعث)، هذا ناهيك عن شعار فتح الرئيسي في “التوريط”(أي توريط الأنظمة العربية في مواجهة عسكرية مع إسرائيل تفتح باب المقاومة والتحرير)..وقد شهدت أعوام 1967-1970 اضطرابات عاصفة في الأحزاب الكبرى (الشيوعي-القوميون العرب – البعث – وحتى القومي السوري في السجون) طرح فيها شعار الكفاح المسلح وحرب التحرير الشعبية، كبديل عن كل البرامج السياسية السابقة..
و- أزمة النظام اللبناني التي تفاقمت بعد حرب حزيران وانهيار التجربة الشهابية الإصلاحية: من أزمة بنك انترا إلى تصاعد وتفاقم الفقر والتهميش الاجتماعي إلى صعود الحلف الثلاثي الماروني(1968). عبّر ذلك كله عن أزمة التوازن بين الطوائف بعد انكشاف الوضع العربي الذي كان حامياً لأهل السنة، وبروز أنياب التطرف المسيحي على قاعدة الاستفادة من نتائج حزيران، الأمر الذي ساعد على تبلور رؤية شيعية مستقلة بين السنة والموارنة، والى بداية احتلال الشيعة لموقع ولوزن راجح في المعادلة الداخلية.
وبموازاة ذلك كله تطور شعار دعم العمل الفدائي وحرية تحركه من لبنان، والارتباط بالثورة الفلسطينية خصوصا في الشارع السني في المدن الكبرى، وذلك كرافعة للمطالب الإسلامية-اليسارية المزمنة بالعدالة والمساواة والتي اختصرها مطلب المشاركة أو تصحيح الخلل في الحكم في لبنان.. وهكذا حل الفدائي “أبو كوفية” (ورمزه أبو عمار) محل الفتى الأسمر عبد الناصر..وحل شعار عبد الناصر “إن الثورة الفلسطينية وجدت لتبقى وستبقى”، محل صرخته التاريخية: “ارفع رأسك يا أخي العربي فقد ولى عهد الاستعمار”..وأبرز مظاهر هذا التحول شهدته القوى الناصرية التي تحولت إلى عشرات من تنظيمات الأحياء والشوارع في بيروت (إبراهيم قليلات والمرابطون) وطرابلس(علي عكاوي وحركة الغضب، فاروق المقدم وحركة 24 تشرين) وصيدا (معروف سعد والتنظيم الشعبي الناصري).. وولادة الحركة اللبنانية المساندة لفتح بقيادة من عائلات بيروتية مهمة (حوري، شاتيلا، عيتاني، بلعة، فاخوري، الآغا..الخ..)، ولجان أنصار الثورة الفلسطينية في مدارس المقاصد والمدارس الرسمية وحتى في الجامعات الكبرى كالأميركية والعربية.. وجاء العدوان الإسرائيلي على مطار بيروت (28 كانون الأول 1968) وتدمير الأسطول الجوي المدني للبنان، ليطلق حركة طالبية وشبابية شملت لبنان بأسره وتمحورت حول ضرورة التسلح والاستعداد والمقاومة وتحصين الجنوب.وهذا الأمر كان له مقابله مع تطور الشعور الشيعي بالحاجة إلى كيان مستقل يعبر عن الشيعة ويكون له دور في البلاد (بدايات المجلس الشيعي كانت على غير هوى القيادات السنية ولقيت دعماً مارونياً واضحاً).
المقاومة اللبنانية كرديف ونصير
في هذه الأجواء تشكلت أولى المجموعات اللبنانية المقاومة، كرديف ونصير للمقاومة الفلسطينية، أو كحرس شعبي في القرى الجنوبية.. وقد أخذت مواقع لها في الجنوب تحت رعاية حركة “فتح” وخصوصا في راشيا والعرقوب وما صار يعرف باسم “فتح لاند”، ثم في منطقة بنت جبيل.. وقد ارتكز هذا التطور على جملة عوامل أبرزها تلك الحالة الجماهيرية التي أطلقتها معركة الكرامة (21 اّذار 1968)، ثم جنازة خليل عز الدين الجمل (27 نيسان 1968) أول شهيد لبناني في صفوف حركة فتح.. وقد تلا ذلك تدفق آلاف الشباب اللبناني إلى قواعد ومعسكرات الثورة في لبنان والأردن وسوريا…وحتى في العراق… حيث جابت المظاهرات المليونية شوارع بغداد والنجف الأشرف وحيث أصدر المرجع الشيعي الكبير السيد محسن الحكيم فتوى بجواز دفع “الخمس” لمقاتلي حركة فتح.. وقد ساهمت هذه الفتوى إلى جانب مواقف مراجع الشيعة في العراق وإيران، في تعميق التعاطف الشيعي اللبناني في الجنوب مع ثوار فلسطين، وفي مده بأسباب القوة والاستمرارية.. وكان قمة ذلك في العشاء الرمضاني الذي أقامه الإمام السيد موسى الصدر على شرف حركة “فتح” ولجمع التبرعات لها في 17 كانون الأول –ديسمبر 1968.
وجاء التحول اليساري في حركة القوميين العرب ليفتح صفحة جديدة في تاريخ اليسار العربي قاطبة… إذ هو أفرز منظمات “الجبهة الشعبية” و”الجبهة الديمقراطية” ورديفيهما “حزب العمل العربي الاشتراكي” و”منظمة الاشتراكيين اللبنانيين- لبنان الاشتراكي” (منظمة العمل الشيوعي لاحقا).. الأمر الذي ساعد على ارتباط قوى لبنانية واسعة ومن كل المناطق والطوائف بمشروع الثورة الفلسطينية من جهة، وبشعار المقاومة وحرب الشعب من جهة أخرى… وأدت نكسة أيلول الأسود في الأردن إلى انتقال ثقل هذه المنظمات ومن يدور في فلكها من تيارات غيفارية وتروتسكية وماوية وفوضوية إلى لبنان، والى تشكيل تجارب وبؤر ثورية “اختبارية” عديدة، كان نصيب جنوب لبنان منها هو الأكبر والأفدح ثمناً…. وقد شكلّت انطلاقة اليسار الجديد المرتبط بمشروع الثورة الفلسطينية وشعاراتها وحركاتها المسلحة تحديا للقوى اليسارية والقومية التقليدية.. فبعد انشقاقات يسار البعث وحزب العمال العربي الثوري (تيار ياسين الحافظ)، ثم أزمة تيار صلاح جديد – يوسف زعيّن في حزب البعث الحاكم في سوريا، فالتحول في حركة القوميين العرب، اندلعت الأزمة في الأحزاب الشيوعية العربية الموالية لموسكو وعلى رأسها الحزب الشيوعي اللبناني.. وتخللها اتهامات لأمينه العام اللاحق جورج حاوي بأنه عميل إمبريالي وفصل وتجميد لقيادات وكوادر مؤيدة له.. واستمرت الأزمة حتى انعقاد المؤتمر العام الثاني 1968 (الذي استعاد فيه تحالف جورج حاوي –كريم مروة – جورج بطل المبادرة، وذلك على خلفية تصاعد دور الثورة الفلسطينية في أوضاع هذه الأحزاب وتصاعد مزايدات اليسار الجديد الفلسطيني).. أدى ذلك إلى قرار الأحزاب الشيوعية العربية تشكيل قوات الأنصار، وهي تجربة تم إجهاضها سريعا من قبل الطرف الأردني والفلسطيني في الأحزاب الموسكوبية، لتبقى تجربة الحرس الشعبي التي أطلقها تيار الشهيد حاوي في الحزب اللبناني.. وهي أجهضت في مرحلة تالية ولكن لأسباب أخرى بعد استشهاد المناضل علي أيوب (الشهيد اللبناني الوحيد لهذه التجربة).. الأمر الذي دفع بكوادر عديدة في الحزب الشيوعي وعلى يساره، ومن يسار البعث وحزب العمال العربي الثوري (ياسين الحافظ وناجي علوش تحديدا) والحزب التقدمي الاشتراكي، وبدعم من “يسار” حركة فتح، إلى تشكيل “الجبهة التقدمية اللبنانية لمكافحة الصهيونية”، والتي دعت إلى إطلاق مقاومة لبنانية حملت اسم “طانيوس شاهين” وتموضعت في قواعد حركة فتح في الجنوب… وبانفراط عقد هذه التجربة نشأت من أحشائها الحركة الاشتراكية الثورية (المرحوم مرشد شبو والشهيدين علي شعيب وإبراهيم حطيط) التي ارتبطت بحركة فتح، كما عاد البعض إلى أحزابه الأم أو أسسوا حركات جديدة، فيما انضم “الناجون” من تلك التجربة إلى حركة فتح…
وجاء خروج قيادات وكوادر الحزب القومي السوري من السجن (1969)بعد محاولتهم الانقلابية الفاشلة آخر عام 1961، ثم مؤتمر ملكارت التاريخي(1969)الذي كرّس التحول الثوري اليساري في الحزب (وطريق دخوله إلى جبهة الأحزاب التقدمية بقيادة كمال جنبلاط ودعم عرفات)، ما أضاف قوة نظامية متمرسة إلى القوى المرتبطة بالثورة الفلسطينية وبالكفاح المسلح… ولم يقتصر الأمر على تلك المجموعات المسيحية من القومي السوري التي عملت مع أيلول الأسود (وعلى رأسها الشهيد فؤاد الشمالي)، وإنما يبدو أن الارتباط بالثورة الفلسطينية وبحركة فتح بدأ داخل السجن وهو استمر خصوصا مع تيار إنعام رعد وعبد الله سعادة… وهو ارتباط دفع هذا التيار ثمنه غاليا فيما بعد، خصوصا مع اغتيال محمد سليم وتوفيق الصفدي وايلي الجقل وعدد من كوادر وعناصر الحزب في الحرب الحزبية الداخلية التي جرت في الأعوام 1986-1988… ناهيك عن الاغتيال المشبوه للقوميين البارزين كمال خير بك وبشير عبيد في بيروت مطلع الحرب الأهلية، وهما كانا صلة وصل مع أيلول الأسود في أوروبا ولبنان.
وهكذا شهدت سنوات 1970-1975 تمددا وانتشارا فلسطينيا في جنوب لبنان، تردفه عناصر لبنانية يسارية أو فتحاوية وجدت في الثورة الفلسطينية ولأسباب مختلفة، الحلم والأمل في التغيير… إلى جانب الأسباب اللبنانية الإسلامية المتعلقة بانهيار التوازن الذي قام عليه الكيان الوطني… فكان التموضع الفلسطيني في جنوب لبنان بعد أيلول الأسود ووفاة عبد الناصر (أيلول 1970) وانقلاب الرئيس الأسد (تشرين الثاني 1970) وكان شعار حرية العمل الفدائي ودعم الثورة الفلسطينية واعتبار الجنوب بوابة التحرير (وآية كل ذلك اتفاق القاهرة الشهير في 2 تشرين الثاني 1969)… ولذا فانه لم يكن غريبا أن تروج في تلك الفترة مقولة المطالب الإسلامية-الوطنية (محسن ابراهيم ومنير شفيق)، والطبقة-الطائفة (جورج حاوي)، أو المارونية السياسية (منح الصلح ثم جريدة “السفير”)… وكان كل ذلك التمدد والانتشار محمولا على استراتيجية مصرية في دعم حركة فتح والمنظمات السنية الناصرية ومعظمها كان مرتبطا بالمكتب الثاني اللبناني (الاستخبارات العسكرية)، وفي مشاغلة وارباك العدو وإضعافه عبر لبنان، وعلى استراتيجية سورية (تمثلها منظمات الصاعقة والجبهة الشعبية-القيادة العامة والجبهة الثورية وغيرها من الشلل الصغيرة التي فرّخت مثل الفطر على ضفاف التجربة الفلسطينية في لبنان) في زعزعة الاستقرار اللبناني وبناء وضع جديد سمح تاليا في إشعال وإذكاء واستمرار الحرب الأهلية… ومحمولاً أيضا على أزمة داخلية تتعلق بالمطالب الإسلامية في المشاركة… فكان دعم الفدائيين هو رافعة تصحيح الخلل… إلا أنه سمح بدخول عناصر لم تستطع القيادة السنية التقليدية (صائب سلام ورشيد كرامي وتقي الدين الصلح) ولا القيادة الجنبلاطية ضبطها. فكان أن دفعت أيضا ثمنها غاليا فيما بعد.. وبعد عام 1973، صار هذا التمدد أيضا محمولا على هجوم سوفياتي كاسح في الشرق الأوسط (وقد حمل هذا التوجه الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين والحزب الشيوعي ومنظمة العمل الشيوعي وروابطهم مع عدن الموسكوبية بعد اغتيال سالم ربيع علي، وأوساط قيادية مرموقة في الحزب الاشتراكي ومعهم يسار فتح بقيادة أبو صالح وأبو موسى وأبو خالد العملة وما صار لاحقا “فتح الانتفاضة”)، الأمر الذي جعله يصطدم وبقوة بمصالح واعتبارات أهل الجنوب والمقاومة، وهذا ما جسدته “حركة المحرومين” بالضبط في تلك المرحلة… ومخطىء وواهم من لا يعيد قراءة تلك التجربة ومن لا يعترف بالدور السوفياتي وبالأدوار العربية المختلفة (السورية أولاً، والعراقية والليبية ثانياً، والجزائرية ثالثاً، وصولاً إلى العدنية الموسكوبية ورئيسها عبد الفتاح إسماعيل) في إبقاء الصراع مفتوحا على جبهة الجنوب، وفي تأثير ذلك على مجريات الوضع، وعلى عدم إمكانية الكلام عن مقاومة وطنية لبنانية لتلك المرحلة…
المقاومة بين حركات التحرر الوطني العربية والحرب الأهلية اللبنانية
كانت مقاومة السنوات السابقة على 1982، إذأ، جزءاً لا يتجزأ من ما كان يسمى “حركة التحرر الوطني العربية”، ومن اليسار الدولي والإقليمي، ومن استراتيجيات مصرية وسورية وسوفياتية وفلسطينية (ولاحقا ليبية وعراقية وغيرها) وجدت في بقاء جبهة الجنوب مفتوحة، وفي استمرار الحرب الأهلية اللبنانية، خير جسر للعبور إلى ما تريد أو لإيصال الرسائل أو لخدمة مصالحها الخ…( نعم حرب الآخرين على أرضنا لمن لا يزال يرفض هذه الفرضية الحقيقية بقدر حقيقة أنها كانت أيضاً حربنا الأهلية نحن)…. وتجسد هذا كله في ما عرف باسم “القوات المشتركة اللبنانية-الفلسطينية” التي انتشرت في جنوب لبنان تحت إمرة قيادة الثورة الفلسطينية والتي رأت في وجودها في الجنوب استمرارا لحربها الأهلية الداخلية ضد “الانعزاليين عملاء العدو”، أو “يهود الداخل”… فلم يكن هناك إذأ هوية لبنانية وطنية جامعة ومستقلة لتلك المقاومة، بل يمكن القول حتى أنها كانت جزءا من الانقسام الداخلي كما أنها كانت تغذيه من جهة أخرى.
وما حدث بعد ذلك يرتبط بالحرب الأهلية وعوامل استمرارها أكثر من ارتباطه بمشروع وطني لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب…
فقد دفعت الحرب الأهلية وتطوراتها (وخاصة عمليات التطهير الديني-العنصري في “النبعة” و”تل الزعتر” و”المسلخ” وضواحي بيروت الشرقية والشمالية (من “حارة الغوارنة” إلى بياقوت والزلقا والجديدة والسبتية الخ…) بآلاف العائلات الشيعية للعودة إلى قراها في الجنوب والبقاع (والى منطقة الضاحية الجنوبية السريعة التوسع والامتداد) حاملة معها أولادها الحزبيين الغاضبين الذين أضافوا إلى القوات المشتركة أعداداً هائلة من المقاتلين، الأمر الذي سمح بتوسع وامتداد واستمرار السيطرة الفلسطينية على الجنوب حتى العام 1982 (الاجتياح الكبير).. ترافق ذلك مع حرب الثكنات ونشوء “جيش لبنان العربي” بقيادة أحمد الخطيب (كانون الثاني 1976) الذي سرّع في سقوط ثكنات الجنوب وفي التحاق الضباط والجنود بقراهم وعائلاتهم، وبنشوء جيوش رديفة في الجنوب منها جيش أنطوان بركات وجيش سعد حداد وصولاً إلى جيش أنطوان لحد…ومعظمها حمل لواء “المقاومة” اللبنانية ضد الفلسطينيين، كما انه كان يحظى بغطاء الشرعية الممثلة بقيادة الجيش وبالدولة اللبنانية (استمرت هذه القوات في قبض رواتبها من الدولة حتى وقت متأخر جدا).
هذا الجو العام عزز الانقسام اللبناني الذي كان في الأصل موجوداً منذ نشأة الكيان اللبناني والذي تمحور حول هوية لبنان ودوره وموقعه بين العرب.
الإمام السيد موسى الصدر في التراث الشيعي اللبناني
لم يبدأ الإمام الصدر من فراغ.. فهو حلّ بمدينة صور بناء على دعوة سابقة من المرجع “السيد عبد الحسين شرف الدين”.. وهو استند إلى تراث شيعي لبناني أصيل يحلو للبعض نسيانه اليوم أو تجاهله حين يستحضرون “وادي الحجير” أو “أدهم خنجر” و”صادق حمزة”، وينسون أن ما صنع شيعة لبنان ليس محطات معينة خارج أي تاريخ أو سياق بل تاريخ طويل يبدأ مع أبي ذر الغفاري ولا ينتهي مع الإمامين الصدر وشمس الدين.. لقد كان الشيعة، كما كثير من اللبنانيين، في طليعة المعترضين على التشكيل الانتدابي للبنان الحديث.. غير أن هذا الاعتراض كان من شاكلة الاعتراضات اللبنانية الأخرى: أي انه كان اعتراض وممانعة ما قبل تشكّل الدولة الوطنية الحديثة، نشط في مرحلة انعدام التوازن بعد انهيار الدولة العثمانية واحتلال البلاد العربية.. وهذا الاعتراض حملته قوى ومصالح وأيديولوجيات ورؤى وأفكار لا يمكن بحال من الأحوال نسبتها إلى الأزلية والسرمدية ، أو إلى التشيع والإسلام . لعل أهمها كان الاعتراض الاورثوذكسي ممثلا بالحزب القومي السوري وزعيمه انطون سعادة وهلاله الخصيب ونجمته قبرص… ولكنه كان أيضا اعتراض البورجوازية المدينية السورية وآيته المؤتمرات السورية التي شاركت فيها البورجوازية السنية اللبنانية… كانت عروبة الشيعة وسوريتهم هي العروبة والسورية الطبيعية لتيارات وقوى مطلع القرن العشرين حيث الخرائط ترسمها الدول المستعمرة وحيث القوى الأهلية المحلية تقاوم فرض الأمر الواقع.. ولا يجوز تقديم التاريخ باعتباره فقط تاريخ هذا الاعتراض المشروع في يومه، وإنما باعتباره تاريخ تطورات اجتماعية اقتصادية سياسية ثقافية صنعت صورة لبنان الحالي، كما صورة المنطقة..
فلا بد من البحث الجاد عن أشكال انخراط النخب الشيعية والإسلامية في الممارسة السياسية وفي الحياة الوطنية، وعن التعبيرات السياسية المختلفة التي لوّنت الطيف الشيعي والواقع الإسلامي اللبناني، خلال المرحلة الانتدابية 1920-1943… بحيث أن الجاهل وحده هو من لا يرى الاختلاف بين رؤية السيد شرف الدين ورؤية السيد محسن الأمين لموقع ودور الشيعة في لبنان والمحيط السوري والعربي.. ولا بد أيضا من قراءة الأصول السوسيولوجية للتيارات والأحزاب السياسية في جبل عامل.. إذ أنه من الجهل أيضا أن لا نرى أين نجح القومي السوري مثلا ومتى ولماذا؟ أو متى انتشر الحزب الشيوعي وأين ولماذا؟ أو الدور الفلسطيني المهم منذ ثورة 1936.. كما انه من الجهل عدم رؤية وتقويم العواطف والمشاعر العربية لجبل عامل والاستعداد للدفاع عن كل القضايا العربية والتي حمل شيعة لبنان لواءها خصوصا في ثورة فلسطين الكبرى 1936.. كانت عروبة الشيعة هي المساق الطبيعي لتاريخهم وجذورهم وثقافتهم ولغتهم ولهجاتهم وعشائرهم وبيوتاتهم… وهي لم تكن لتتعارض مع لبنانيتهم اللاحقة والتي كان الإمام شرف الدين ابرز من عبّر عنها ( بعض الباحثين الأجانب وتابعيهم من اللبنانيين ينعتون موقف السيد شرف الدين بالعمالة للانتداب وقد شهدنا عينّة من هذا الهراء بمناسبة نقاش كتاب عن السيد محسن الأمين وردت فيه التصنيفات السخيفة حول عمالة السيد عبد الحسين للفرنسيين..).. والإبداع الشيعي المبكر تمثل في إيجاد تلك اللحمة ما بين وطنية لبنانية قائمة على واقع مستجد ومتصالح عليه (دولة لبنان الكبير) دون الإغراق في تاريخ غابر إلى حد الأسطرة من جهة (الفينيقية وحضارة الستة آلاف سنة) ولا في أدلوجة الاصطناع للكيان اللبناني من جهة أخرى (وهذه ما زالت في وعي وسلوك أكثر من حزب وتيار عقائدي متناسين أن كل الكيانات العربية هي بهذا المعنى مصطنعة)، وما بين عروبة حضارية، طبيعية، لا تحتاج إلى أدلوجات قومجية فاشستية ولا إلى مرتكزات سلطوية أو مخابراتية… وأذكر أن الإمامين الصدر وشمس الدين كانا يطرحان دائما هذه المعادلة ويقولان: إن التاريخ السياسي للبنان هو حاضرنا القائم والمتوافق عليه.. فلنتفق على أن تاريخ لبنان الكيان السياسي يبدأ عام 1920.. وإذا لم توافقوا فاجعلوه عام 1943… وهذا هو تاريخ الكيان السياسي الحاضر الذي ارتضيناه وطنا نهائيا دون أن يعني ذلك أننا تخلينا عن روابطنا العربية أو عن شيعيتنا أو عن إسلامنا..
ولم يكن الشيعة وحدهم على هذا الوعي المتفاهم عليه.. فالبيان – الرسالة الذي ألقاه السيد كاظم الصلح ( ووافقه عليه السيد عادل عسيران) بعد “مؤتمر الساحل” 1936 (نشر بعنوان “مشكلة الاتصال والانفصال في لبنان”) يحمل هذا الهم المبكر في اجتراح معنى إسلامي للوطنية اللبنانية ومعنى لبناني للعروبة… ومن المفيد الإشارة هنا إلى أن هذا التطور في الفكر السياسي الإسلامي اللبناني نتج عن تطور مبكر في سوريا كانت ابرز علاماته الكتلة الوطنية السورية ومفاوضتها المنفردة ( كسورية) مع الانتداب الفرنسي وطلبها من جناحها اللبناني (بقيادة رياض الصلح) التفاوض المستقل وترتيب البيت اللبناني…
وعام 1936 هو للمناسبة عام تبلور تلك الوطنيات المحلية بعد تطور وتبلور مشاريع وقوى وحركات ومصالح “وطنية”(سمهّا “بورجوازية” إن شئت) لم تعد تجد في الاستقلال الوطني خيانة قومية. وهي عقدت في ذلك العام المعاهدات الشهيرة مع الأجنبي، من مصر إلى العراق، ومن سوريا ولبنان إلى المغرب والجزائر وتونس، وذلك بسبب صعود الفاشية والنازية وحاجة الديموقراطيات الأوروبية إلى تأمين جناحها المشرقي والمغربي في أية حرب مقبلة. وهي تلاقت مع السياسة الستالينية القاضية يومذاك بإنشاء جبهات وطنية مع البورجوازيات المحلية… ويستحق هذا الأمر دراسة مفصلة ليس هنا مجالها، إنما يعنينا هنا اندراج شيعة لبنان المبكر في البحث عن جوامع مشتركة على مستوى الوطن مع بقية الطوائف اللبنانية، وفي التأصيل الديني لهذه الوطنية.. وهنا يبرز الميثاق الوطني ومعركة الاستقلال كعلامات على هذا النضج وتلك الرؤية التي لم تكن لتختلف عن رؤية رياض الصلح أو صائب سلام.. وهي رؤية حملها صبري حمادة و عادل عسيران و آل الأسعد والزين والخليل وحيدر وغيرهم من العائلات الشيعية التي تصالحت مع اللبنانية ومع الدولة الجديدة.. صحيح أنها رؤية بورجوازية وطنية (بحسب ستالين وماوتسي تونغ) إلا أن المرحلة كانت (ولعلها ما تزال) مرحلة بورجوازية وطنية ديموقراطية (أم أننا نسينا ألف باء الماركسية).. ولعل هذه المصالحة التاريخية مع الكيان-الوطن والتي أعطت العائلات التقليدية سلطة الحكم في لبنان الاستقلال هي التي تفسر “ثورة” انطون سعادة 1949 وانضمام بعض زعماء العائلات المحتجين على تهميشهم في النظام الجديد (لاحظ خصوصا آل دندش وبعض الوجوه العشائرية في بعلبك-الهرمل والتي ما تزال قومية إلى يومنا هذا، ولاحظ بعض الأسماء السنية في بيروت والشيعية في صور والنبطية والتي انتسبت إلى القومي السوري على هذا الأساس).. كما لا بد من دراسة التطور الديموغرافي والاجتماعي والتربوي الذي شهده الشيعة في مرحلة الاستقلال (1943-1958) والتي سمحت بانتشار الحزب الشيوعي وحركة القوميين العرب وحزب البعث في أوساط المتعلمين الشيعة في الخمسينات وذلك بتأثير من صعود الاتحاد السوفياتي (بعد الانتصار الكبير في الحرب العالمية الثانية، وبداية الصراع مع الغرب “الإمبريالي”) والناصرية في آن معا.. وصولا إلى المرحلة الشهابية… ومن المفيد التذكير هنا بان اللبنانية والسورية والعروبة كانت تنجدل في تناغم وتكامل ميّزا شخصية جيل من الكبار العظماء… فمن ينسى عروبة كميل شمعون (“فتى العروبة الأغر” في مطلع الخمسينات، وهي عروبة العراق والثورة العربية الكبرى ونوري السعيد وكل ذلك الجيل الذي مضى مع صعود الضباط الصغار في مصر وسوريا والعراق ثم في غيرها من البلدان العربية) أو سورية الرعيل الأول من المثقفين الذين طردهم سعاده من حزبه لشبهة “اللبنانية” (وأبرزهم غسان تويني وأسد الأشقر وفايز صايغ وفخري المعلوف ومأمون أياس ونعمه ثابت= وكلهم تأثروا بشارل مالك وبعروبة شمعون اللبنانية).. أو اتفاق الكتائب والنجادة على المطالبة بالاستقلال…. وما نستطيع قوله في هذه العجالة انه لم يفرض احد بالقوة والقهر الخيار اللبناني على شيعة لبنان… ولا يمكن نكران هذه الحقيقة البسيطة وهي أنهم ارتضوا لبنان فعلياً، سراً وعلانية، وطنا نهائيا..[في عددها الصادر يوم 21-10-1936ذكرت جريدة “لسان الحال” أن وفداً شيعياً كبيراً زار المندوب السامي الفرنسي ورئيس الجمهورية اللبنانية يتقدمه السيد عبد الحسين شرف الدين .. شدد على التمسك باستقلال لبنان الكبير ورفض الانضمام إلى سوريا… وأعلن السيد شرف الدين أن الحركة الإنفصالية بين الشيعة قد توقفت وأن كل الشيعة قد التحقوا بالوحدة الإقليمية للبنان الكبير]. وهذا الرضى حملته أيضا قوى ومصالح وطبقات ونخب لا يجوز البتة التهوين من شأنها أو من تمثيلها لشيعة لبنان…
د. سعود المولى هو أستاذ علم الاجتماع السياسي والإسلاميات – بيروت- لبنان