حينما يصف رجل دين شيعي وأستاذ في الفلسفة بالحوزة الدينية في قم الحرية بأنها “صنم يجب كسره”، سوف نعي حجم أزمة الاستبداد التي تعاني منها مجتمعاتنا. وفي نفس الإطار يهاجم رجال دين سنّة الحرية ويعتبرونها مدخلا لممارسة مختلف صور المفسدة السياسية والاجتماعية والفكرية. ومن جانبه، يستفيد مسؤول السلطة العربي، المتناغم بشكل لا يوصف مع الأصولية الدينية المناهضة للحريات، والمدعوم من قبل حفنة من المثقفين العلمانيين الوصوليين، من تلك الأوصاف والهجمات لكي يمنع أي اختراق لسلطته ويواجه أي تهافت على كرسي الحكم، ليُشكّل الجميع فريقا واحدا يهدف إلى ترسيخ الاستبداد في ظل اختلاف أدوار اللاعبين.
فحينما يصبح رجل الدين وصيّا على حرية الناس، فبطبيعة الحال سيعيّن نفسه وصيّا على إيمانهم وعلى أخلاقهم، وعلى أساس ذلك نجده يتحكّم بمفاتيح مستقبلهم الديني والدنيوي، فيتدخّل في كل صغيرة وكبيرة في حياتهم، ويرى نفسه حارسا على جنتهم ونارهم. لكن لا سبيل لتنفيذ مهمة الوصاية هذه إلا من خلال ممارسة سلوك الإكراه، على الرغم من أن النص الديني يعارض الإكراه بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى.
والسؤال الذي قد يطرح نفسه، هل رجل الدين من خلال تبنيه صفات الوصاية والتحكّم والتدخّل والحراسة وتكسير صنم الحرية، يخشى بالفعل على الدين وعلى الشريعة، ويربط ذلك بانتشار الفساد في المجتمع؟
إن إلقاء نظرة عابرة على مؤشر الفساد في المجتمعات التي يسيطر عليها رجال الدين، كفيلة بالإجابة على السؤال، ما يعني أن الفساد لا يعالج من خلال منهج فاسد. فالوصاية والتهديد والتكسير والإرهاب، هي منهجيات فاسدة لا تستطيع إلاّ أن تزيد طين الفساد بلّة. وعليه، فإن بروز وارتفاع صوت الأذان، والوصاية الدينية على سلوك الناس الديني والاجتماعي، وإجبارهم على ممارسة الطقوس التعبّدية سواء في المنزل أو في خارجه، وزحمة الناس في المناسبات الدينية، والحساسية المفرطة من حجاب المرأة ونقابها، ومحاربة الكثير من صور الترفيه الاجتماعية، لا تستطيع أن تكون وصفات علاجية للفساد، وإلاّ لكانت ساهمت في معالجة ما تئن منه مجتمعاتنا المحافظة ذات الثوابت الدينية والاجتماعية المحكمة من فساد سياسي واقتصادي واجتماعي ومالي وإداري وغيره.
يعتقد البعض بأن “مدى” الحرية في المجتمع هو أساس فساده، لذا يجب أن لا يصل حدا تتهدّد من خلاله المسلّمات الدينية والاجتماعية، إذ سيؤثر ذلك سلبا على باقي صور الحياة. فارتفاع المدى هذا يوصف من قبل البعض بالصنم، وأفضل وصفة لعلاجه بتكسيره.
حينما يقال في الثقافة الدينية بأن شخصا ما أصبح صنما، فذلك يعني بأنه وضع نفسه ضد الله، أي اتصف بصفات الله، وساهم في تخريب عبادة الناس لله. وعلى نفس القياس، حينما يقول رجل الدين بأن “الحرية صنم يجب كسره”، فهو يضع الحرية ضد الله، ويعتقد بأنها تساهم في تخريب عبادة الناس لله، وبالتالي لابد من “تكسير صنم الحرية” لكي نهيّئ للناس الطريق الصحيح لعبادة الله.
في حين أنه، لا طريق يضمن تحقيق العبادة إلا طريق الحرية، سواء أسمينا هذا الطريق صنما أو أي شيء آخر. كما لا طريق لتكريس الاستبداد الديني وضرب صور التعددية الإيمانية والفكرية والثقافية إلا بتبني شعار كسر صنم الحرية. فمن خلال المزيد من الحرية نستطيع أن نهيئ الأرضية الاجتماعية والثقافية لتعددية طرق الإيمان ولتعايش المؤمنين من الديانات المختلفة، ونواجه مسعى البعض لجعل الإيمان مجرد طريق واحد أوحد ما يتكرّس معه المسعى المتشدد الإقصائي التكفيري.
فرجل الدين الذي يزعم بأن هدفه هو هدم صنم الحرية، إنما يسعى لتثبيت نفسه ومنهجه وصيّا على كل شيء، ويخطط من جانب آخر إلى هدم التعددية الدينية والثقافية، وتثبيت رؤاه الدينية النهائية بشأن معنى الحياة. أي بتعبير آخر يسعى إلى تحويل فهمه للدين إلى صنم ديني. في حين أن جوهر الحرية الرئيسي في العصر الراهن يستند إلى الحق في حرية التفكير والحق في حرية التعبّد، وفي التعبير عنهما بشتى الطرق ولكلّ أفراد المجتمع من دون استثناء وتضييق على أحد.
يطرح المفكر الايراني محمد مجتهد شبستري تساؤلات بشأن المفاضلة بين ضرورة الحرية وبين شعارات البعض ومساعيهم لهدم ما أسموه بـ “صنمها”. فيقول “إذا اعتبرنا الحرية صنم يجب كسره وحرمنا المجتمع منها، كيف يستطيع الإنسان أن يميّز بين الصنم وبين الله لكي يستطيع أن يبعد نفسه عن الأصنام؟ هل يمكن أن نطرد الأصنام من حياتنا ونثبّت الإيمان فيها من دون وجود مساحة واسعة من الحرية؟ هل نستطيع أن نكتشف مظاهر الصنمية في المجتمع دون وجود حرية التفكر والتعبّد والبحث والمناقشة والمجادلة والرأي والتعبير؟”.
لمواجهة هذه الإشكالية وللردّ على مثل تلك الأسئلة، يطرح شبستري حلّين اثنين: الأول هو التشديد على ضرورة وجود هامش كبير من حرية التفكير والتعبير والمساءلة والنقد لكل أفراد المجتمع، ومواجهة العديد من المفردات التي تعزز حالة الصنمية في المجتمع، سواء ارتبطت تلك المواجهة بالصنمية السياسية أو بالاقتصاد أو بالفكر والثقافة والدين. الثاني هو مواجهة الرؤى “الجازمة” التي يعتقد أصحابها بأنها رؤى نهائية غير مسموح بنقدها وتغييرها، إذ تكون تلك الرؤى وأصحابها هي الأصنام، وتكون الحرية حاضرة لمواجهة هذه الأصنام.
كاتب كويتي
fakher_alsultan@hotmail.com