بعد أن يشرح لنا الدكتور محمد عمارة منهج الوسطية الذى هو منهج الإسلام الصحيح، يوضح معنى مصطلح (الاستعلاء)، بكونه لونا من “الكبرياء المشروع فنعتز بحضارتنا وبديننا وبلغتنا وبأمتنا وبثقافتنا وبكبريائنا /الجزيرة/خطاب الهوية”.
المهم أن هذا الاستعلاء بما لدينا من مبررات الكبرياء على العالمين، يصيب صاحبه بالأوهام ولا يعود يفرق بين الممكن و المستحيل، ففقهاؤنا المحدثون يرون أن المسلمين فى طريقهم نحو التمكين، وأن لهذا التمكين علامات، فيضيف الدكتور على الصلابى: “إن القول بأن الأمة دمرت أو أنها مهزومة..فهو قول غير صحيح، لأن الأمة تحقق انتصارات.. وهذا من فضل الله سبحانه و تعالى،..إن المستقبل لهذا الدين، و يأبى الله إلا أن يتم نوره/الجزيرة/فقه النصر والتمكين”.
و من ثم يقدم أدلته على الانتصارات التى تحققت للأمة الإسلامية و لدين الإسلام، فيشير الى:”الانهيار الضخم للاتحاد السوفييتى، وانهيار أمريكا (؟!!.. ربما يقصد ورطتها فى العراق أو ربما يقصد دمار سبتمبر 2001)، وأوروبا فى دور التراجع فى المجال الفكرى والعقائدى والأخلاقى والحضارى.. روسيا تريد أن تفتح مصارف إسلامية و كذلك اليابان.. أصبحت حقيقة أن الفكر الإسلامى الاقتصادى يحل أزمات حقيقية.. وأيضا فى المشاركة فى الحكم مع الأنظمة القائمة.. أصبحت مرجعية الدساتير لكتاب الله و لسنة رسوله.. الشعب التركى أعطاهم الأصوات، نجاح المسلمين فى مقاومة المشاريع الغازية للأمة دليل على أنها نوع من التمكين، الإنتصارات الدعوية الضخمة.. فى مجال الفكر و الأخلاق..انتصارهم فى المعارك.. بأفغانستان.. وتفتت قبلها الاستعمار الحديث،.. إن هذه انتصارات ضخمة وهائلة /ذات الحلقة”. هذا بالطبع إضافة للانتصارات العسكرية المؤزرة على الأمريكيين فى العراق وافغانستان وعلى الجيش الإسرائيلى فى لبنان وغزة!!!
وفى حلقة الصحوة الإسلامية ومآلاتها بذات القناة، يؤكد الدكتور قرضاوى أن الصحوة الإسلامية هى دليل الإنتصار، لأنها كما يقول: صحوة “اجتماعية سياسية فكرية، الكتاب الإسلامى أصبح الكتاب الأول.. هناك مئات أطروحات الماجستير و الدكتوراة.. الشابات يقبلن على الحجاب”.
إن خطاب فقهائنا المحدثين يصيب المتابع بالارتباك. فنحن نستعلي إذن على الدنيا بدين جاء من عند الله وليس بشىء أنجزناه نحن بأيدينا، لذلك اخترنا أنفسنا أوصياء على البشرية القاصرة، لتبليغها هذا الدين والتمكين للمسلمين فى الأرض!! لماذا وبأى مناسبة و بأى دليل موضوعي؟ هم لا يقولون ولا يجيبون. فعندهم ليس هناك إمكانية مقارنة بين إمكانيات الشعوب ومنجزاتها وبين دين الله. فالدين الإسلامى ميزة لأصحابه تغنيهم عن أى إمكانيات أخرى، لذلك هم الأعلون
فإذا كان ذلك صحيحا وأن الأمة تملك ميزة لا تملكها الأمم الأخرى، فلماذا تخرج المظاهرات فى بلادنا تطالب بحقوق الإنسان والديمقراطية، ولا تخرج المظاهرات فى أوروبا و أمريكا واليابان تطالب بالبيعة أو الشورى والحجاب و الجهاد؟
مشكلة أخرى تواجهك مع مثل هذا الخطاب، عند التساؤل عمن الذى سيتمكن؟ مرة يحدثك عن الأمة ومرة يحدثك عن الدين. فاذا كانت الأمة هى من سيتمكن فهى تتكون من مجموع أفراد، فأين هؤلاء الأفراد أو حقوقهم فى خطاب التمكين؟ لا تجدهم هما شاغلا بالمرة، لأن الورقة المخفية فى اللعبة هي من هؤلاء المرشحين للتمكين؟ يجيب: هم من يشاركون الآن فى أنظمة الحكم بانتصارات جبارة، وهم من أعطاهم الشعب التركى أصواته، فالذين سيتمكنون هم مثل الإخوان المسلمين الذين تمكنوا من المشاركة فى حكومات عربية، وحزب العدالة و التنمية الإسلامى التركى، و أيضا من الذين يتمكنون، هؤلاء الذين يقاومون كما يحدث فى أفغانستان ناهيك عن حماس وحزب الله؟!
من يوم ما أمسكت القلم باكتب وأكرر وأقول وأزيد ( كلهم واحد)، ولا أذن تسمع ولا بصيرة ترى. هذا رجل فى فلتة لسانية يرى الإخوان و حزب الفضيلة وبن لادن والزرقاويين هم من يسعون للتمكين، وهم أهل التمكين، دون بقية المسلمين، ودون أن يفرق بينهم أو يمايز أو يفاضل، وان المستقبل لهم، بعد أن يمزج بينهم كبنى آدمين بصوابهم و نقائصهم وبين الدين الكامل النظيف. فالعلماء هم الإسلام، لينتهي الى أن ذلكم هم من سيمكنون للدين عندما ينتصرون. وهكذا فالطريق الى الله سيمر عبر حروب دموية جديدة.
و كم كنا نتمنى للفكر الفقهى المعاصر أن يكون قد تجاوز هذه العثرة. عثرة أن يكون الطريق الى الله مفروشا بدم خلق الله، كما الزرقاوى و كما بن لادن وكما السيد نصرالله وكما ابن هنية وكما بن السباعى سفيه لندن، وكما بن القرضاوى وكما بن عاكف، وكما بن هويدى، كلهم فى الدموية ملة واحدة. أضف لذلك أنهم يتجملون بوصول حزب إسلامى إلى السلطة فى تركيا مجرد تجمل، لأنهم يرفضون المنهج العلمانى الليبرالى الديمقراطى برمته، ويعلنون تبني الديمقراطية كمجرد واجهة وتطبيقا لمنهج التقية. أنظر مفاجأة المذيع للدكتور الصلابى وهو يسأله: “إذن أنتم تعتبرون حزب العدالة والتنمية هو نموذج إسلامى صالح ليسير بالأمة نحو النصر والتمكين؟”.
السؤال جاء بغتةً، فانظر إجابة الصلابى الذى ارتبكت صلابته فقام يغمغم بالنص: ” لأ، هوه…. نحن نعتبر،… هوه… طبعا نعتبر…. أن،…. هم لهم علاقات بأمريكا واعترفوا بإسرائيل، هذا نوع من السياسة الشرعية عليها جدل بين المسلمين ونحن يهمنا المضمون لا الشعارات”.
التمكين إذن لن يكون لا للإسلام ولا للأمة الإسلامية، إنما للفريق الإسلامى الذى سيركب الأمة ليوجهها نحو حرب عالمية مقبلة يجهز لها أصحاب التمكين. ستكون بين المسلمين فى جانب والعالم كله فى جانب آخر. اسمع السيد الدكتور يشرح معنى التمكين فيقول: “التمكين الذى ندعو اليه هو التمكين الربانى.. وما نراه من تمكين مادى فى الحضارة الغربية أو الأمريكية أو فى اليابان فهو دنيوى يعزل الناس.. التمكين يبدأ بالاستدراج، استدراج الأمم والشعوب… التمكين هو الوصول إلى السلطة وإلى القوة والهيمنة لتحكيم شرع الله.. والهدف الأكبر.. هو هيمنة هذه الأمة الأمة وإرجاع دورها الحضارى فى هداية الناس.. الهدف الوصول للدولة لاستخدام هذه الدولة فى تطبيق شرع الله”.
مرة أخرى لا تجد فى واجهة الصورة أى وجود للمواطن، لا تجد فاعلا سوى رجل الدين، فالتمكين مسألة تحتاج كما يقول: إلى “العلماء لإتمام صياغة هذا المشروع الإسلامى الحضارى للتصدى للغزو الغربى و أفكاره الدخيلة”. و هو ما يدعمه فيه بشدة المرجع الفقهى د. يوسف قرضاوى، وإن رأى أن “العلماء التقاة هم من يعرض المشروع على الأمة/حلقة الدستور ومرجعية الشريع/الجزيرة”،و بعدها كما يقول الصلابى “يأتى دور صاحب القرار السياسى مع العلماء الربانيين فى بلورة هذا المشروع”.. و لا تفهم هنا كيف تكون الأمة منتصرة كل هذه الإنتصارات التى يزهو بها، بينما هى قد بلغت درجة من الضعف تعرضت فيه ثقافتها للهزال والتآكل، حتى أمكن أن تتعرض للغزو الغربى الحضارى وأفكاره الدخيلة، حتى أن التمكين يجب أن يبدأ أولا بصياغة مشروع ليتصدى للغزو الفكرى.
نتابع فضيلته يشرح معنى التمكين، فيكرر: “هو نوع من أنواع الاستدراج: (فلما نسوا ما ذكروا به، فتحنا عليهم أبواب كل شىء)، و أمريكا الآن متورطة فى العراق، ونحن نحيي المقاومة العراقية السنية الباسلة على إفساد مخططاتهم”.
مع مشايخ زماننا تجد نفسك دوما فى مشكلة مع المفاهيم، فلا تفهم لماذا لا يؤهلون شعوبنا للصراع الحضاري؟ فنكون شعوبا فاعلة منتجة تدخل المنافسة مع الشعوب الأخرى، فنضيف للحضارة، وتصبح بلادنا موجودة على الخريطة فعلا!! لا تفهم لماذا كي يتقدم المسلمون لا بد أن يتم خراب بيوت غيرهم وانهيار حضارتهم أولا.. وبعدها يبدأ غزونا لهم لنتمكن فى الأرض، فهذا هو درس التاريخ، انظره يقول: “بالدماء وبالعقيدة الصحيحة وبحب الشهادة فى سبيل الله، استطاع المسلمون أن يحققوا انتصارات هائلة”.
و التمكين المنتظر ليس فوضى، إنما هو يسير على قانون تطوري مرسوم سلفا. ويشرح الأستاذ الدكتور هذه المراحل فيقول: “فى القرآن الكريم التمكين على مستوى الأفراد مثل ما حدث ليوسف، ثم تمكين على مستوى الجماعات.. كما حدث لرسول الله، المرحلة الثالثة مرحلة الانتقال فى التيه (تيه بنى إسرائيل و موسى فى سيناء)، والمرحلة الرابعة طالوت مع جالوت، والمرحلة الخامسة مرحلة داود و بعدها مرحلة سليمان.. هذه هى دورتنا الحضارية، ولكل مرحلة سمات محددة”.
إذن فحضارتنا لها دورة… مش أي كلام يعنى!! مثل دورة حياة دودة الذباب، وتبدأ دورة التمكين بالتسلل إلى الحكومة كما حدث ليوسف فى استدراج فرعون ليعرف بقدراته فتمكن،(وهوما يشبه ما حدث من الإخوان فى اختراق اجهزة الدولة الحساسة فى أيامنا). وقد يكون التمكين كاملا على الجماعة الكبرى، من قبل مجموعة منها. وقد عرفنا هذه الجماعة المرشحة للإستيلاء على الحكم، فهم مثل الإخوان ومثل القاعدة ومثل طالبان ومثل حزب اللة ومثل حماس، وذلك كما حدث زمن رسول الله (ص). ثم تاتى المرحلة الثالثة وهى مرحلة التيه وهى التى نعيشها اليوم. والتيه يعني البحث عن خلاص والعثور على الطريق نحو الهدف، مثل خروج بنى إسرائيل بقيادة موسى من مصر نحو فلسطين، والتيه حدث فى سيناء حتى تم حشد القوة و القدرة الممكنة لغزو فلسطين واحتلالها. إذن نحن فى مرحلة حشد القوة للغزو الخارجى. هنا تأتى مرحلة طالوت وجالوت. وطالوت بالتوراة هو شاؤول أول ملك لإسرائيل، وجالوت هو جوليات بالتوراة الذى كان قائدا فلسطينيا يدافع عن فلسطين ضد الغزو اليهودى. وقد انتصر طالوت الإسرائيلى على جالوت الفلسطينى بعد قتال مرير. والمعنى أنه ستكون هناك حرب ضرورية حسب هذه المراحل التطورية لينتصر فيها المسلمون مع طالوت على اليهود الذين أصبحوا حسب هذا الفهم مع جالوت، (بالطبع بعد إجراء عملية أسلمة لطالوت كما تمت أسلمة جميع الأنبياء قبله وبعده).
وإذا ما تساءلنا عن موقع معاهدات السلام بين العرب واسرائيل من دورتنا الحضارية ومراحلها نحو التمكين، فإن الشيخ عبد الرحمن بن عبد الخالق يجيبنا فى كتابه: (حكم معاهدات الصلح والسلام مع اليهود وموقف المسلم منها) بقوله: “اليهود أعداء دائمون لهذه الأمة منذ بدأ رسول الله رسالته وإلى ان يخرج الدجال، إلى ان يستصرخ الحجر والشجر المسلم قائلا: يا مسلم هذا يهودى ورائى فاقتله/ متفق عليه، و عداء اليهود لأهل الإسلام و رسوله إنما كان حسدا وبغيا أن تنتقل رسالة النبوة من فرع إسحق إلى فرع إسماعيل، وأن يكون العرب الأميون هم سادة الدنيا بكتاب الله، ومن ظن أن الحرب و العداوة توضع بين المسلمين و اليهود فهو يكذب بوعد الله و دينه، ومن عمل لإزالة هذه العداوة والبغضاء بين المسلمين واليهود فهو كافر”.
وبعد الانتصار الساحق، ومن فلسطين المحررة و الموحدة على يد داود (رمزا للمؤمنين) وربما يكون ابن هنية، ستبدأ المرحلة الأخيرة من التمكين وهى مرحلة سليمان. فبعد شاؤول أو طالوت كملك أول لإسرائيل، جاءت مرحلة الملك داود الذى وحد الدولة وأقام لها المركزية. كذلك يعتبر داود المؤسس المعتبر للمملكة الإسرائيلية، وبعده جاء ولده سليمان، وهو فى العقيدة الإسلامية حسب نص الحديث واحد من بين أربعة ملوك تسنى لكل منهم حكم العالم أجمع كله شرقا وغربا وشمالا و جنوبا، ” روى مجاهد عن ابن عباس قال: ملك الأرض كلها أربعة: مؤمنان وكافران، فأما المؤمنان: فسليمان وذو القرنين، و أما الكافران: فالنمرود بن كنعان و بخت نصر”.
المعنى واضح إذن، فالتمكين يبدأ من بلد مسلم تقوده تلك الفئة الخاصة المتخصصة فى التمكين، لتبدأ بتحرير فلسطين، وقيام حكومة اسلامية عالمية تحتل الأرض كلها من بعد ذلك. وتحقق التمكين بسيادة العرب الأميين على العالمين!!
هذا كلام يقال فى العلن من على الفضائيات و ليس فى اجتماعات سرية لخلايا إرهابية. فهل ترى ثمة أمل بعد فى تفهم فقهاء عصرنا لظروف عصرنا؟ و هل تراهم يعيشون واقع أيامنا بالفعل؟ وهل تلك الأدوات التى عرضوها علينا لتمكنيهم من رقابنا ثم من رقاب العالمين، هي أدوات حقيقية وفاعلة ؟ أم هو خطاب توهمى مريض بشدة ؟ غارق فى تخلفه قرونا إلى الوراء، ولا يملك بيديه أى إصلاح ممكن لأي شيء؟
elqemany@yahoo.com
* القاهرة