عرسال- لبنان: حنان وأسماء كانتا تعتقدان أنهما قد شاهدتا كل شيء في العام الأخير. منذ أن تحصن الجيش السوري الحر في القُصير، مسقط رأسيهما عند الحدود مع لبنان، في آذار| مارس من العام الماضي، وأخذ نظام بشار الأسـد يرد بحملة قاسية من القصف، صارت حياتهما تجري وهما محبوستان في مرآب بمساحة أربعة عشر متراً مربعاً مع أربعين شخصاً آخر: عشر نساء وثلاثون طفلاً بأعمار صغيرة. لكن ذكرى الساعات الأخيرة التي أمضتياها في مسقط رأسيهما تشبه أكثر ما تشبه الكابوس، إذا حكمنا استناداً إلى النحيب الذي تسببه عند هاتين المرأتين الواصلتين للتو إلى لبنان كلاجئتين بصحبة ذرية في هيئة رثة وفي حالة من الصدمة مثلهما تماماً.
“مضى علينا عام ونحن في الملجأ لأن بيوتنا احتلها الجيش أو تعرضت للدمار في القصف، لكننا لم نشاهد قط شيئاً مماثلاً للأسابيع الأخيرة”، تروي بصوت رتيب أسماء، ذات العمر غير المحدد والثياب الداكنة، بينما تمزق منديلاُ من الورق لشدة ضغطها عليه في يدها اليمنى. “القنابل كانت تسقط في معظم الأحيان بحيث لم يكن يمكننا الخروج. لم تكن هناك طريقة للوصول إلى المشفى الميداني أو للخروج بحثاً عن الماء أو الطعام، بالرغم من أننا كنا خائفين كثيراً لتكون لدينا رغبة في الطعام. الأطفال أكلوا البرغل خلال أسبوعين، لأنه لم يكن لدينا شيء غيره”، تستمر المرأة في الكلام قبل أن يطغى البكاء على صوتها.
رفيقتها حنان تتنهد وهي جالسة في بلدية عرسال المتواضعة، البلدة السُنية في وادي البقاع (الشيعي) الواقعة على الحدود مع سـوريا والمدخل الطبيعي للاجئين الذين يفرون من محافظة حمص. “في الملجأ لم يكن لدينا حمام حتى. كنا نجهز حفاضات من مزق الثياب حتى لا نضطر لمرافقة الأطفال إلى الخارج في كل مرة يحتاجون فيها للتبول”، تشرح هذه المرأة المنهكة التي يقل عمرها عن أربعين عاماً.
أخيراً، يوم الثلاثاء الماضي، أخبرهم أحد الثوار أن عليهم الرحيل لأن سقوط المدينة كان وشيكاً. رجال الجيش السوري الحر الذين كانوا يواجهون مقاتلي النظام والشبيحة، وكذلك القوات المرسلة من قِبل جماعة حزب الله اللبنانية الشيعية بغية الاستيلاء على المدينة-الاستراتيجية بالنسبة للنظام كحال البقية من محافظة حمص، ذلك أن هذه المنطقة تصل العاصمة دمشق مع ساحل اللاذقية (المفترض كونها قاعدة لدولة علوية لاحقة في سوريا)-قرروا الانسحاب إلى داخل محافظة حمص بمواجهة نقص الذخيرة والسلاح اللازمين لمواجهة أعدائهم. بعض المدنيين اتبعوا خطواتهم وآخرون اختاروا مغادرة سـوريا، خائفين من التعرض لاعمال انتقامية من النظام ومن حلفائه اللبنانيين.
“لم نكن نستطيع الخروج من المرآب لأنه كان يؤدي إلى شارع حيث كان يجري القتال، وهكذا أحدثنا خرقاً في واحد آخر من جدرانه”، تواصل حنان، الحامل بتوأمين إضافة إلى ستة أولاد أعمارهم بين السنتين والعشر سنوات يحيطون بها. كلهم يمشون حافين أو بصنادل مهترئة إلى الدرجة التي تتحول فيها أعقابهم إلى نعالهم الوحيدة. “نظراً لعدم امتلاكنا للأدوات، فقد استخدمنا الحجارة وأيدينا إلى أن فتحنا فجوة كبيرة بما فيه الكفاية للمرور”.
أمر محزن أن نتخيل عملية الهروب من سوريا التي قامت بها حنان وأسماء والنساء الأخريات اللواتي رافقنهن. كل واحدة منهن كانت تحمل خمسة أولاد معها في المتوسط. افتقدن الأيدي والقوة حتى لجر حقائب الثياب. “تقاسمنا الأصغر سناً: ابنتي، اثنا عشر عاماً، حملت طفلين وأنا حملتُ طفلين آخرين” توضح أسماء. الأصغر سناً تتراوح أعمارهم بين سنتين وست سنوات. عندما خرجوا من المرآب، في الليل، توجهوا إلى غابة قريبة حيث أخفت الأشجار وجودهم. هنالك التقوا مع مجموعات أخرى من الأشخاص، يشاركونهم النية نفسها. “كان علينا أن نكون حوالي مائتي شخص في آخر الأمر”، كما تقدِّر أسماء.
الطوق العسكري المفروض من قِبل النظام وحلفاءه اللبنانيين في حزب الله أجبر كل مدني يريد الهروب من القُصير على التعرض لخطر الانكشاف وإطلاق النار عليه. “كنا نتحرك متخفين بين الأشجار، ونغطي أفواه أطفالنا الرضع حتى لا يكشف بكاؤهم عن مكاننا. عندما اقتربنا من أحد حواجز النظام، لا بد أنهم سمعونا لأنهم أطلقوا النار، لكنهم لم يصيبوا أحداً. كان علينا أن نمشي حوالي اثنتي عشرة ساعة قبل أن تعثر علينا سيارتان للجيش السوري الحر وتحملنا إلى لبنان”، تواصل حنان كلامها بينما تربِّت على ظهر صغيرتها ريم، البالغة أربعة أعوام، وذات الندبة الكبيرة على الجمجمة. توضح والدتها أنها احترقت عندما سقطت قذيفة مدفع على مسكنهم.
إعادة ما كانت عليه الساعات الأخيرة للقصير بالنسبة لسكانها المدنيين هو بسهولة الحضور إلى شوارع عرسال. حركة مرورية متواصلة للشاحنات الكبيرة والصغيرة التي استبدلت شحناتها المعتادة بكائنات بشرية مذعورة تسد الطرقات. كل بضع دقائق، سيارة جديدة بعائلات سورية تصف أمام البلدية، حيث يمكن للواصلين حديثاً تسجيل أنفسهم ومواجهة واقعهم الجديد: ضيق المكان والامتداد المتنامي للحرب السورية إلى لبنان. يوم الأربعاء، أطلقت طائرة مروحية حربية سورية خمس قذائف على عرسال وجوارها: اثنتان منها ضرَبتا وسط المدينة، لكنهما لم تنفجرا. اللبنانيون عزوا ذلك إلى معجزة؛ أما السوريون، فإلى الصناعة الصينية لهذه القذائف.
أم مرعي، مع ستة أطفال تحت مسؤوليتها، تسند ظهرها على الستارة المعدنية لمرآب مغلق في عرسال ويظهر عليها التعب الشديد. إلى جوارها توجد دزينة من الأطفال المنهكين مثلها، لكن ستة منهم فقط هم أولادها. بيتها دُمِر بقذائف النظام، ومنذ ذلك الحين صارت نازحة تعيش على إحسان جيرانها. “أمضينا اليومين الأخيرين في حفرة في الأرض لنحمي أنفسنا من الانفجارات. في النهاية قررنا الهروب: مشينا لبضع ساعات بصحبة مائة من المدنيين من القُصير، خرجنا في منتصف النهار، ووصلنا إلى هنا عند السادسة صباحاً من اليوم التالي”. الآن، وهم آمنون نسبياً في الملجأ اللبناني، لا تستطيع أم مرعي كبح دموعها. “ليس لدي مكان أذهب إليه. لا أملك ماء، لا أملك طعاماً. ماذا سأفعل بهم؟”، تقول مشيرة إلى الأطفال.
الوضع في عرسال لا يُحتمل. هذه البلدة ذات الثلاثين ألف نسمة استقبلت في هذين العامين الأخيرين “خمسة وعشرين ألف لاجىء وفي الأسبوعين الأخيرين، منذ الهجوم الكبير على القصير، وصلت ألف وخمسمائة أسرة جديدة”، يشرح أحمد فليتي، نائب رئيس بلدية عرسال. “لا نعلم كيف سنعتني بهم. المساجد الثمانية عشر في المدينة وجوارها تستقبل الناس منذ عام. نحتاج إلى مخيم لاجئين، والأمم المتحدة عرضت إقامته لكنها تحتاج لإذن الحكومة اللبنانية، وحزب الله يعرقل هذا الإذن”، يتأسف الموظف اللبناني. في كل لبنان، تتجاوز أعداد اللاجئين المليون بكثير، الأمر الذي يعني زيادة قدرها خمسة وعشرون بالمائة في عدد سكان بلد الأرز.
هناك لاجئون يبقون اليوم كله جالسين في الظل، على الأرصفة، لا شيء ليفعلوه و لا مكان ليذهبوا إليه. خلال الليل، بعضهم يبيت في الحديقة القريبة من المقبرة؛ آخرون شغلوا منشآت تجارية قديمة أقفلها مالكوها. كثيرون يطلبون من الجيران أن يسمحوا لهم بالنوم لليلة واحدة فقط في ممرات مساكنهم إلى أن يعثروا على شيء أفضل، (كل بيت يستقبل فعلاً ما معدله أسرتان أو ثلاث أسر من اللاجئين)، وكلهم يتطلعون إلى الحصول على خيمة كالخمسين الموزعة من قبل Shelter Box وهي منظمة غير حكومية بريطانية تقدم كل ما هو أساسي -خيمة عائلية، عدة المطبخ، بطانيات حرارية، سجادات مضادة للماء، أدوات أساسية، ناموسيات، نظام تنقية وتخزين للمياه، ومدافىء- للأشخاص الذين فقدوا منازلهم في الحروب أو الكوارث الطبيعية. العائلات التي تقيم في الخيام تشتكي من درجات الحرارة المرتفعة التي تُسجل داخلها لكنهم يُعدون محظوظين لحصولهم على مكان للنوم وعلى بعض الخصوصية؛ الذين لم يستطيعوا الحصول على واحدة منها بعد، يحلمون بأن تخصص لهم واحدة.
خارج البلدية ينتظر أبو غسان، اللاجىء من القُصير الذي وصل قبل يومين من الآن مصحوباً بثلاثة عشر عضواً من عائلته. على هذا الرجل ذي الثمانية والثلاثين عاماً ينبغي أن يعاد السؤال مرات عديدة لأن دوي الانفجارات جعله أصماً، حسبما يقول. “تمكنتُ من عد حتى ستين انفجاراً في الدقيقة. قبل أسبوعين، إحدى القنابل ضربت منزلي. والدي مات وهو يقاتل. نحن ننام في الشارع. ليس لدينا شيء في سوريا، ليس لدينا شيء في لبنان. فليعطنا أحد ملجأ”، يرجو بنبرة يائسة. إلى جانبه، أبو محمد -أيضاً من القُصير، ووصل قبل أسبوعين- يرجو أن يوفر له أحد ما خيمة. “لدي تسعة عشر شخصاً تحت مسؤوليتي، ونحن ننام في إحدى الحدائق. قولي للعالم إننا نحتاج مكاناً نعيش فيه”.
في عرسال المكتظة، يوجد لاجئون يقيمون حتى في بنايات قيد الإنشاء. أبو حسن، زوجته وأولاده الستة -واحدة منهم مريضة وغير قادرة على المشي- وصلوا قبل بضع ساعات بالكاد إلى عرسال بعد هروب شبه مستحيل وأنزلهم أقرباؤهم في الهيكل غير المكتمل من الإسمنت حيث يقيمون هم منذ عام ونصف. في المجمل، أصبحوا ثلاثين شخصاً الذين يقطنون في هذا المشروع السكني المكون من طابقين، والذي يصلح للسكن طابقه الأساسي فقط. الموقع مؤلف من كتل من الاسمنت كانت تنتظر قرار المضي قدماً في العمل.
الأطفال ينامون بشكل عميق على المفارش، متدثرين بالأغطية. طفل رضيع ذو أربعين يوماً، بالكاد يستطيع الاستواء، ينفجر بالبكاء عند حضور أشخاص مجهولين. “كنا نعيش في المناطق المحيطة بالقصير ولم نكن نعلم ما إذا كان حزب الله قد دخل أو لا. كنا نعلم فقط أنه كان هناك الكثير من القصف. منذ أسبوعين لا يوجد إلا القصف”، يشرح رب الأسرة بينما تعتني زوجته النحيلة بالأطفال. “قررنا الهرب قبل أربعة أيام. أخذنا ننضم إلى المزيد من الجيران وشكلنا قافلة من حوالي ثمانين سيارة. اقتربنا من الطريق الذي يربط بين دمشق وحمص”، الواقع تحت سيطرة النظام السوري، كما الغالبية العظمى من شرايين البلد الرئيسية. “بدون علم بأن مداخل الطرقات الثانوية كانت ملغمة: السيارة، شاحنة بيك- اب صغيرة مع ثلاثين شخصاً على متنها، انفجرت، اثنا عشر شخصاً ماتوا في الحال. أشلاء بشرية بقيت مبعثرة في كل المنطقة. كان بإمكاننا رؤية قطع من اللحم في كل مكان. لم نستطع المخاطرة بالعبور مرة أخرى، وهكذا عدنا مع الجثث إلى القصير”. العائلة، مع بقية القافلة، استمرت في المحاولة إلى أن حانت فرصة بعد أربعة أيام أتاحت لهم الخروج من سوريا بعد رحلة دامت عشر ساعات.
حوالي ثلاثين لاجئاً انضموا إلى المحادثة مع أبو حسن. كلهم يتطلعون إلى معرفة كيف هربوا من القُصير، لكن القليلين يتجرأون على سؤاله في ساعات راحته الأولى. “كثير من الناس، آلاف الأشخاص، ما زالوا محاصرين في المناطق المحيطة بالقصير. الجنود في نقاط التفتيش يلغِّمون طرق الخروج بشكل يومي، ولهذا هناك العديد من الضحايا”. “في الوقت الراهن، خوف اللاجئين هو أن تطالهم الحرب في لبنان أيضاً، وخاصة بعد صدمة القذائف الأخيرة على عرسال. “بالطبع ستأتي الحرب، لأن نظام بشار الأسـد وحزب الله هما شيء واحد”، يعلل أبو غسان. البقية يوافقون بدون حماسة، مُسَلِّمِين بأن الخوف وعدم اليقين، في الملاذ المنشود أيضاً، مستمران بالسيطرة على حيواتهم.
ترجمة: الحدرامي الأميني
موقع: بريوديسمو أومانو
http://periodismohumano.com/en-conflicto/huimos-tapando-la-boca-a-los-bebes-para-que-sus-llantos-no-nos-delataran.html