التاريخ و
السيرة يُشبهان التراجيديا الكلاسيكية. مثلها يتأسّسان على وحدة الزمان والمكان والفعل. ومثلها يتوقان الى صياغة معنى اجتماع هذه الثلاثة: معنى الفعل المحدّد الذي وقع في زمان ومكان محدّدَين. فلا الفعل له معنى خارج أي زمان و مكان، إلا المعنى الفنتازي، و هذا ليس مضمار التفكير في هذا المجال… ولا المكان والزمان يستاهلان التأريخ من دون فعل داخل إطارهما؛ فعل صالح أوطالح… لا ضَير. المهم أن يكون هناك ما يُروى، أكان من زاوية المؤرّخ العالِم، أو من زاوية صاحب سيرة ذاتية مروية بلسان صاحبها،أو بواسطة باحث
ميداني. عند هذا الحدّ يجتمع التاريخ بالسيرة الذاتية،ثم يختلفان بعد ذلك.
الزمن أولا: صحيح أن زمن المؤرخ يلتقي بزمن صاحب السيرة، سواء عاشه واقعيا أو كتمرين للخيال عندما يؤرّخ لحقبة ماضية لم يعرفها في حياته. فالاثنان يتقاسمان “روح” العصر وأحواله وأحداثه وذهنيته ومعاييره؛ وإن لم يكن المؤرخ عائشا في العصر الذي يؤرخ له، فعليه على الأقل الأخذ به وبأحواله، وإلا وقع في التفويت (anachronism)؛ أي أسقط زمنه المعيش شخصيا على الزمن الذي يؤرّخ له.
لكن المؤرخ و صاحب السيرة يختلفان هنا في المدى الذي يأخذه الزمان في مخيّلتهما. فالمؤرخ زمنه متّسع و ممتد، فيما زمن صاحب السيرة منحسر ومحدود. الأول يتناول أجيالا وحقبا وعهودا، أو يضعها على الأقل في اعتباره؛ وهذه أزمنة تتجاوز معدل العمرالإنساني الواحد. فيما الثاني، صاحب السيرة، يؤطّر زمنه بعمره، بحياته، بعدد السنوات التي عاشها
حتى لحظة روايته. و هذه سنوات قليلة، ضئيلة، تكاد تختفي أمام ركام من الأزمان الشاهقة؛ أزمان الذين سبقوه و جايلوه وسوف يلحقون به… في التاريخ.
المكان وفق ذلك سوف يكون مختلفا أيضا. صاحب السيرة، مواطناً كان أم شخصية فذّة، لن يخرج عن إطار المجالات التي عرفها أو وُجد فيها، أو سمع عنها، إن متابعة وإن مراقبة. مع الاختلاف طبعاً بين الاثنين: فكلما كانت “مواطنية” صاحب السيرة “بسيطة”، على ما يُقال “مواطن بسيط”، ضاقت المجالات التي عرفها أو دخَل إليها؛ وكلما كانت مواطنيته “متميزة”، ذات فعل خاص أو قول خاص أو موقع خاص،اتّسعت مجالاته. لكنها مهما بعُدتْ تلك المجالات، مهما اتسعت، فإنها لا تبلغ مبلغ مجالات المؤرخ، فهذا الأخير يمضي دهراً في دراسة المجال الواحد؛ وأحيانا يحيط بجملة من المجالات؛ وبذلك يكون مكانه ومخيلته أعرض من مكان صاحب السيرة ومن مخيلته. وتبعا لاختياراته: الشعوب، الطبقات،
المؤسسات، البنى، التيارات، الميول الخ… فإن كل الموضوعات عنده تؤخذ جماعةً: ظواهر، تيارات، حالات، عصورا؛ حتى لو كان “موضوعه” رمزاً من رموزها.
والكلام نفسه تقريباً ينطبق على الفعل. في السيرة، الفعل بحجم صاحبها. المواطن “البسيط” بالكاد يكون مجال فعله هو مصيره الشخصي؛ اما المواطن “المتميّز”، فيطال فعله دائرة أوسع؛ من المناصرين أو المتعاطفين أو المؤيدين أو حتى المعجبين… لكن فعل الاثنين يبقى قليلا ضئيلا أمام فعل التاريخ.
فالتاريخ يتدخل في تقرير مصير صاحب السيرة، من غير أن يكون بالمقابل لصاحب السيرة بالضرورة يدٌ في التاريخ؛ إلا إذا كان نبياً أو بطلا خارقا. لكن الأنبياء والأبطال لا يكتبون إلا نادراً سيرهم. فهم مشغولون بصناعتها. و حتى في هذه الحالة، من المشكوك فيه أن لا يكون التاريخ قد هيأ لمصير النبي أو البطل.
أما الاختلاف الاهم بين السيرة و التاريخ، فيقع في دائرة المعنى المحدّد.
المؤرخ يعطي معنى لمعطيات متباعدة، تسمو على أية حياة شخصية واحدة، حتى لو كانت عظيمة. يصيغ موضوعه، و يسمي ما يحتاج الى تسمية، ثم ينطلق بعد ذلك في استكشافه واستقصائه؛ فيجرّد ويعمّم ويرزْنِم (من روزنامة)، و يجدْول، ويفرز ويدقّق بالوقائع والروايات. يضع نفسه مكان الجماعة المدروسة كلها، ويبتعد عنها في آن. مخيلته معقلنة، و موسومة بفرديته، لكن هذه الفردية محجوبة خلف عينه البعيدة والباردة، المتخصّصة والملمّة بمعطياتها… أو هكذا يُفترض به.
والخطورة الوحيدة التي تهدّد هذا المعنى المتسامي للتاريخ، أنه يقع دائما بأيدي المنتصرين و كَتَبتهم. لكل عصر حقيقته التاريخية، و لكل عصر أدواره و محرماته.
أما معنى السيرة، فيرتدي وجه صاحبها. اذا كان هو كاتبها، فغالبا ما يكون ذاأثر سياسي أو ثقافي أو فني… صاحب إنجاز ما، يودّ ان يسجله في روايته لحياته. و هو بذلك يصيغ الدور الذي لعبه في محيطه أو مجاله أو بيئته ضمن المشهد الذي وجِد
فيه.
أما إذا كان صاحب السيرة هو غير كاتبها، مواطنا “عاديا”، مجهول الهوية كما في سيَر كتابي ” السياسة أقوى من الحداثة”؛ فإن المعنى ليس صافياً تماماً. والسبب أن هناك عالِم اجتماع ميداني “اختار” صاحب السيرة، بناء على مواصفات معينة (مدى احتكاكه بوجه من أوجه الحداثة في حالتي)، ثم طرحَ عليه السؤال، وتابع معه المقابلات، ودقّق بتفاصيلها… كل ذلك وهو، أي عالم الاجتماع، ممْسك بخيط محدّد (خيط “الحداثة” في حالتي أيضاً). ومهما كان موضوع هذا “الخيط” المسبق، فإنه بدوره يعطب شيئا ما: فهو يلْجم العفوية، ويهدّد بحجب الجانب الهوليستيكي، الوجودي، من روايات أصحاب السيَر. والجانب الهوليستيكي أساسي في صياغة المعنى: موجود في حياة كل إنسان، وإن بالكُمون. من دونه تتحول السيرة إلى استقصاء رأي. من دونه يُنتزع من السيرة ذاك التشابك الغامض بين القدر والحظ والطبائع والجذور العائلية-الاجتماعية… فضلا عن العهود السياسية.
وخلال
مقابلاتي مع أصحاب السير، وتدقيقي بإجاباتهم، كنتُ حريصة على إقامة التوازن بين الخيط الحداثي، الضروري، و لكن اللاجم للعفوية، وبين إبقاء جذوة العفوية متّقدة، وهذه الأخيرة لا تقلّ ضرورة عن الخيط الحداثي.
ومن هذا التوازن رُسمتْ المخيّلة الممكنة لصاحب السيرة والمعنى الذي بثّه، وربما ثبّته في متن روايته: مخيلة شديدة الالتصاق بنفسها، فردية و مشْبعة بروح الجماعة الصغيرة والمتوسطة، من العائلة والحيّ والقرية والمسجد والحزب والجيران والعمل. أما المعنى الذي يعطيه أصحاب السير لحياتهم، فيكمن هو أيضا في الدور، فالمواطن المجهول الهوية، مثل المواطن الفذ، مهجوس بالدورالذي لعبه في مجاله الحيوي. وكتابته لحياته وروايته لها تنطوي على رغبة غامضة ودفينة في الاعتراف العام بهذا الدور. وهذا “العام”، يحدده مدى محيطه، مدى إتساعه.
هذه الاختلافات بين التاريخ والسيرة تغري بالتساؤل:
أيهما “أفضل”؟
أيهما أكثر “موضوعية”؟
لمن نعطي الأولوية في صياغة معرفة تاريخية، حاضرة أو ماضية، ذات مصداقية؟ معرفة غير مؤدْلجة، لما يجري أو لما جرى من قبل؟
يلتقي التاريخ مع السيرة بروح العصر الذي تقع فيه وحدة الثلاثة من زمان ومكان وفعل، كما أسلفنا. و هذا المشترك بين الاثنين يدفعنا إلى ملاحظة النسبية. فمن مكوّنات روح العصر الإيديولوجيا، تلك الآلة الذهنية التي تحوّل المرغوب إلى واقع. ينقذ المؤرخ نفسه منها إن تفرّد بخياله وعقله ومسافته عن نظرائه، مثل ابن خلدون الذي أخرج من رحم جماعته التي ينتسب إليها القانون الضمني الذي يملي فعلها في التاريخ، أي في زمان ومكان محدّدين. قانون العصبية، الحاكم لنشوء الجماعات الطامحة إلى السلطة، والقادرة عليها، والقاضي بانهيار الجماعات الأخرى التي كانت قابضة عليها.
آثار روح
العصر و درجة طغيانها ليست واحدة عند المؤرخ وصاحب السيرة. فلدى الأول، الطغيان معلَن وعراك المؤرخ مع المحرمات أقرب الى الواجب المنهجي (و إن مفتعلا). أما صاحب السيرة، فإذا كان مواطنا فذا معروفا، فيتراوح الموقف عنده بين التسليم بهذا الطغيان والتمرد عليه. أما اذا كان مجهول الهوية كما في تجربتي، فإن الطغيان عنده مستبطَن، وتعوزه الكلمات. ولأن صاحب القصة غيّر اسمه، فهو لم يعد خائفا من طغيان أقرب مضطهديه، أقرب الرقباء عليه: زوجته أو جاره أو قريبه أو الشرطة أو مسؤوله المباشر في العمل… لكنه، مع هذه الحرية، يخشى شيئا آخر، غير محدّد، غير مسمّى، قد يقع في مجال الإجماع المخفي للجماعة الكبرى، هو ربما روح عصرها أو إيديولوجيتها.
وللسيرة سمات إضافية من الذاتية. ففي ما قمتُ به من عمل في كتابي المذكور آنفاً، كانت “الحقيقة المطلقة” أو “الصدق الكامل” غير واردين في حسابي، إذ أحسب أن لا طائل من ورودهما. لذا، لم أكن أدقّق إلا في درجة التماسك في الروايات، أو درجة
المعقولية. كنتُ اسأل، وأعيد السؤال، فقط عندما كانت الرواية تبدو لي غير منطقية، أو غير منسجمة التواريخ (الولادة، الزواج، الانتقال الى المدينة، الشهادات الخ). والنص المرْوي بحد ذاته أعدت هيكلته، وفصّحتُ نصف لغته؛ بحيث يكون قصة قصيرة، ممتعة ومسلية ومفيدة. و إذا اضفتَ الى كل هذه “المصافي” للموضوعية، “الخيط” الحداثي الذي أمسكَ بتلابيب عناصر السيرة المتناثرة، أمكنَكَ قياس درجة الذاتية في مجموع هذه السيَر. ذاتية أصحابها، و ذاتيتي الشخصية، المسقَطة على النص، طواعية أو بغفلة مني.
هل نستنتج من كل ذلك ان للتاريخ أفضلية على السيرة، وبمَ يتفوق عليها، بدرجة موضوعيته وإحاطته و امتداده الزمني؟
زعمي أنه لا يجب الانجرار وارء جاذبية هذا السؤال. قد لا يفيد شيئا الإجابة عن السؤال بشغف الباحث عن الحقيقة. الأجدى هو التشجيع على دراسات مقارنة بين التاريخ والسيَر ذات الأزمنة المتطابقة. و بما أن نتاجات السيرة اقل عدداً من نتاجات
التاريخ… بسبب شيء ما في نرجسياتنا الفردية… فأمامنا مجال قريب و شبيه: مجال الرواية الأدبية، لو أردنا تبديد الفجوة بين إنتاج التاريخ و إنتاج السيرة.
فـالخيط الجامع موجود أيضا في الرواية. ولكنه متشكّل من خيوط رفيعة مخفية، متشابكة ومتداخلة؛ من صنع الراوي، من صنع ذاتيته، الواعية و غير الواعية. و قد لا تجد أثراً لهذه الخيوط في بعض الروايات، من روعة الأقنعة التي تُداريها. لكنها خيوط هوليستيكية وجودية، أيضا، تنتظر من يسْتجلي معانيها. فالقصة هي المعنى، و في القصة احتكاك حيّ، كيميائي، بمخيلة القارىء و حساسيته. و هاتان مَلكَتان أساسيتان، بعد العقل والذاكرة، لالتقاط معنى التاريخ، المطروح من غير كَلَل على بساط البحث.
إن المقارنة بين التاريخ والسيرة مثل الاجتماع بين مخيلتين، بين قدرين يتلازمان ولا يلتقيان. وما يتولّد عن هذا الاجتماع قد يصيب كليهما بأسهم من وعيه تجاه الآخر… فالأرجح أنهما يتكاملان.
dalal_el_bizri@hotmail.com
(كاتبة لبنانية – القاهرة)
موقع “الأوان”
هذه أفكار حول كتابة التاريخ والسيرة الذاتية:
يبدو ان العبد الفقير لم يتعود قراءة المقالات الرصينة التي تتطلب نوع من الذكاء وقليل من الجهد..
من الغريب ان تنال كلماتك ابرز الكاتبات واعمقهن في التحليل واغناهن في المعرفة..
وأظنك ما كتبت هذا لو ان المقال كان لكاتبة اسلامية تغازل الازدواجية الاخلاقية وتتقيأ حقدها على التنوير والمساواة بين الجنسين (اي المساواة ما بين امك اوامي واي تيس منافق كصفوت حجازي او محمد مرسي)..
شكرا على المعلومات
شكرا جزيلا على المعلوماااااااات
تحياتي…
شوشو
هذه أفكار حول كتابة التاريخ والسيرة الذاتية:
بسم الله الرحمن الرحيم
بعد القراءة المضنية في محاولة لأستجلاء المقال الغامض لا املك سوي تأكيد صدق مقولة السيد ( توماس مور ) ان ما ينطوي عليه المقال من خبث فى التفريق بين الأشياء يعود على المرء بفائدة توازي ما يكسبة من حلب تيس في غربال