من خلال الادعاء بأن الجيش السوري لم يكن مسؤولاً عن الهجوم الكيميائي الذي وقع في 4 نيسان/إبريل واستهدف بلدة خان شيخون، اعتبرت روسيا أن نظام الأسد لا يملك سبباً عسكرياً لاستخدام هذه الأسلحة. ولكن العكس صحيح، فقد واجه النظام هزيمة نكراء على تلك الجبهة ورأى أنه ليس لديه أي سبيل آخر لتجنب نكسة كبرى!
وفي الواقع، شكل هجوم خان شيخون على الأرجح الخطوة الأولى من هجوم واسع النطاق على محافظة “إدلب”، المعقل الرئيسي للتمرد. ونظراً لتزايد التطرف لدى الجماعات المتمردة في إدلب وافتقار النظام المستمر للقوى البشرية، قد تشهد الحملة المقبلة تنامياً في الأساليب الوحشية والعشوائية التي تنتهك القانون الدولي، مع ما قد يترتب على ذلك من عواقب مدمرة على السكان المدنيين المحليين.
إعادة بناء تمرد إدلب من أجل تنظيم «القاعدة»
في الوقت الراهن، تضم قوات المتمردين في محافظة إدلب أكثر من 50 ألف مقاتل، معظمهم من الجهاديين والإسلاميين المتشددين. أما المعتدلون الباقون الذين يبلغ عددهم بضعة آلاف، فقد تمركزوا بمعظمهم على طول الحدود التركية لتجنب القضاء عليهم من قبل «هيئة تحرير الشام» التابعة لتنظيم «القاعدة»، والمعروفة سابقاً بـ«جبهة فتح الشام». ومنذ عام 2014، عمد الفصيل السوري لتنظيم «القاعدة» بشكل منهجي إلى القضاء على الميليشيات المتمردة التي ترفض مبايعته. وحصلت عملية تطهير مماثلة في أعقاب مؤتمر أستانة للسلام الذي عُقد في كانون الثاني/يناير 2017، حيث اتهمت الجماعة فصائل أخرى بالتعاون مع روسيا. ولم يكن ذلك الاتهام بلا أساس من الصحة، لأن موسكو سعت إلى تقسيم التمرد قبل الهجوم الوشيك على إدلب.
لقد سرّع سقوط شرق حلب إعادة تنظيم المتمردين في إدلب. ففي 28 كانون الثاني/يناير، استوعبت «جبهة فتح الشام» 16 جماعة أخرى لتأسيس «هيئة تحرير الشام». أما الجماعة الأكثر “اعتدالاً” وهي «أحرار الشام»، فقد اختارت عدم الانضمام إلى هذا الائتلاف الجديد، إلا أن معظم أفرادها فعلوا ذلك بصفة فردية، بمن فيهم المقاتل البارز هاشم الشيخ، الذي ترك «أحرار الشام» ليصبح قائداً لـ«هيئة تحرير الشام» (ويرأس رئيس «جبهة فتح الشام» السابق أبو محمد الجولاني الفرع العسكري للجماعة الجديدة). ولم تكن هذه الانشقاقات مفاجئة نظراً لأن التصدعات بدأت تظهر في صفوف «أحرار الشام» في العام الماضي قبل انعقاد مؤتمر أستانة للسلام، إذ أن قيادة الجماعة الموالية لتركيا فضلت المشاركة في المؤتمر، لكن القسم الأكبر من قاعدتها القتالية كان معادياً للوساطة الروسية.
وبعد فترة وجيزة من ذلك الاندماج، بدأت «هيئة تحرير الشام» بازالة خصومها مثل «لواء الأقصى»، («جند الأقصى» سابقاً) وهو شريكها السابق ضد قيادة «أحرار الشام» المدعومة من تركيا وغيرها من العناصر “المعتدلة”. وأدى ذلك إلى اندماج مختلف خصوم «هيئة تحرير الشام» مع «أحرار الشام»، مما جعل حلفاء سابقين تحت مظلة تنظيم «جيش الفتح» ينقلبون على بعضهم البعض. ومنذ ذلك الحين، وقعت اشتباكات متكررة بين مقاتلي «هيئة تحرير الشام» و «أحرار الشام» لعدة أسباب، بما فيها السيطرة على معبر “باب الهوى” الحدودي الذي تمر عن طريقه معظم المساعدات الإنسانية الخارجية لإدلب. وفي السابق، كانت الجماعتان تسيطران على أقسام متفرقة من أراضي الخصم، إلا أنهما تشهدان حالياً نوعاً من التجانس، حيث أصبحت «هيئة تحرير الشام» تسيطر على حوالي 80 في المائة من المحافظة بينما تقتصر سيطرة «أحرار الشام» إلى حد كبير على المناطق القريبة من الحدود وحلب.
هجمات المتمردين من إدلب
سعت «هيئة تحرير الشام» إلى توحيد المتمردين دعماً لأجندتها المناهضة بشدة للأسد ولتعزيز أهدافها الجهادية الأوسع. وبناءً على ذلك، استخدمت الجماعة الهجمات الإرهابية لإظهار عدائها للنظام وعزمها على إزاحة بشار الأسد عن السلطة. ففي 25 شباط/فبراير، قَتل خمسة انتحاريون أربعين شخصاً في حمص، بمن فيهم مدير الاستخبارات العسكرية المحلي. وفي 11 آذار/مارس، قَتل انتحاريان أربعة وسبعين شخصاً في دمشق، معظمهم من الحجاج الشيعة العراقيين.
كما شنت «هيئة تحرير الشام» حملات عسكرية على عدة جبهات. ففي شباط/فبراير، هاجمت الجماعة مدينة “درعا” بالشراكة مع عدة جماعات “معتدلة” تابعة لـ “الجبهة الجنوبية”. وفي آذار/مارس، أطلقت حملة في ضاحيتي “جوبر” و”القابون” شرقي دمشق، مما أدى إلى اندلاع أشد المعارك التي شهدتها المنطقة منذ صيف عام 2013. وفي شمال شرق محافظة اللاذقية، بدأت الجماعة تتقدم باتجاه قاعدة “حميميم“ الجوية الروسية.
ومع ذلك، تحملت “حماه” العبء الأكبر من الهجوم الذي شنته «هيئة تحرير الشام» هذا العام، حيث تسعى الجماعة إلى الاستيلاء على مدينة سنّية وعاصمة محافظة كبيرة سادها الهدوء خلال القسم الأكبر من فترة الحرب. وانطلاقاً من خان شيخون، تقدمت «هيئة تحرير الشام» لتصبح على بعد بضعة كيلومترات فقط من”حماه” . كما تعرضت مدينة “محردة” المسيحية، وهي معقل للجيش السوري، لتهديدات خطيرة. فقد كان الوضع متردياً جداً لدرجة أن النظام اضطر إلى تحويل وجهة قواته من معركة حلب ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» نحو الجنوب بغية ردع «هيئة تحرير الشام» في”حماه” . ومنذ ذلك الحين استعاد الجيش بعض الأراضي التي كان قد فقدها، غير أن وضع”حماه” ما زال هشاً للغاية.
الضربة المضادة التي قام بها النظام
في هذا السياق العسكري، قرر الأسد استخدام غاز السارين لقصف مدينة خان شيخون في 4 نيسان/إبريل. وكان يسعى على الأرجح إلى تحطيم المقاومة المحلية ومنع المزيد من الهجمات من قبل المتمردين انطلاقاً من تلك المنطقة. غير أن فهم دوافعه العسكرية لا يبرر بأي شكل كان، استخدامه المتعمد للأسلحة الاستراتيجية ضد المدنيين.
ويبدو أن القادة العسكريين السوريين يستعدون حالياً لهجوم في إدلب بمزيد من الإلحاح. وقد لا توافق روسيا على شن مثل هذه الحملة في الوقت الراهن، ولكن الأسد ربما شعر بأنه لم يعد قادراً على البقاء مكتوف الأيدي في تلك الجبهة في الوقت الذي تعاظم فيه نفوذ «هيئة تحرير الشام». بالإضافة إلى ذلك، يبدو أن جهود موسكو لإحداث انقسامات في صفوف المتمردين قد باءت بالفشل، إذ أن نجاح العمليات العسكرية التي قامت بها مؤخراً «هيئة تحرير الشام» والغضب الذي أثاره الهجوم الكيميائي على خان شيخون قد يعيدان «أحرار الشام» إلى الحظيرة الجهادية. وحتى لو بقيت الجماعة مبعدة، فهي لا تملك سوى فرص ضئيلة لإبقاء «هيئة تحرير الشام» تحت السيطرة.
ولتعويض النقص في القوى البشرية، من المفترض أن يواصل الجيش السوري وحلفاؤه نهجهم القائم على استخدام القصف المكثف العشوائي لإجبار المدنيين على الفرار. وما أن يتم عزل المقاتلين المتمردين، يمكن عندئذ بدء الهجوم البري. وتُعد خان شيخون هدفاً استراتيجياً رئيسياً في الهجوم المضاد في”حماه” ، حيث أن إعادة السيطرة عليها ستسمح للنظام بالقضاء على التهديد الذي يمثله المتمردون في”حماه” والمنطقة المركزية بكاملها، بما فيها حمص. ووفقاً للموقع الإلكتروني “المصدر”، الموالي للنظام، تم نشر قوات من «فيلق الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني و «حزب الله» على طول جبهة حماة في وقت سابق من هذا الشهر، في حين أُرسلت القوات الروسية للدفاع عن محردة.
وفي غضون ذلك، يواصل النظام هجومه لطرد ما تبقى من المتمردين الذي يقاتلون في ضواحي مدينة حلب. ولتحقيق هذه الغاية، قد يسعى الجيش للحصول على مساعدة من القوات الكردية في منطقة عفرين. ويبدو أن هاتين الجهتين الفاعلتين قد نسقتا جهودهما العسكرية في الماضي، لا سيما في ممر أعزاز في شباط/فبراير 20166 وخلال استعادة شرق حلب في تموز/يوليو. وفي الآونة الأخيرة، نشرت روسيا قوات في منبج وشمال عفرين الشهر الماضي، لحماية الأكراد من تدخل تركي محتمل، لكي يكونوا على استعداد لرد الجميل لهم من خلال دعمهم عمليات الجيش السوري في محافظتي حلب وإدلب.
لك خطط الأسد فيما يتعلق بإدلب قد تكون مقيدة بعامل واحد، ألا وهو المصير غير المؤكد لبلدتي الفوعة وكفريا الشيعيتين المحاصرتان من قبل المتمردين منذ آذار/مارس 2015. وقد توسطت إيران وقطر لعقد اتفاق يقضي بإخلاء البلدتين مقابل إنهاء «حزب الله» حصاره على بلدتين تابعتين للمتمردين على مقربة من دمشق ومضايا والزبداني. وكان من المقرر تنفيذ تلك العملية أساساً في 5 نيسان/إبريل، ثم تم تأجيلها حتى 12 نيسان/إبريل؛ وما زالت على ما هي عليه حتى كتابة هذه السطور. وإذا لم تكتمل عملية الإخلاء لأي سبب من الأسباب، فليس هناك شك في أن هجوماً كبيراً في إدلب من شأنه أن يحفز «هيئة تحرير الشام» إلى ارتكاب مجازر بحق شيعة بلدتي الفوعة وكفريا أو أخذهم كرهائن. (إضافة من “الشفاف”: كُتبت هذه الدراسة قبل المجزرة التي وقعت قبل يومين في قافلة للمرحّلين من الفوعا وكفريا، وأسفرت عن سقوط أكثر من ١٢٠ قتيلاً)
هل تواجه تركيا موجة أخرى من اللاجئين؟
كما هو مبين أعلاه، لطالما انتهك الجيش السوري “اتفاقيات جنيف“ من خلال قصف المناطق عشوائياً لزرع الخوف وفصل المدنيين عن المقاتلين، مستهدفاً عمداً المستشفيات والأسواق والأهداف المماثلة. ومن المرجح أن يؤدي اتباع هذا النهج في محافظة إدلب، التي تضم 1.2 مليون نسمة، إلى نزوح جماعي كبير آخر إلى تركيا، وهو أمر غير مقبول بالنسبة لأنقرة.
ويملك الرئيس رجب طيب أردوغان عدة خيارات لتجنب مثل هذه النتيجة، رغم أن جميعها تواجه عقبات. ولا يزال يأمل في إنشاء منطقة آمنة في شمال سوريا لإيواء أي دفعات جديدة للاجئين، إلا أن ذلك أمر مستحيل في غياب قرار من قبل مجلس الأمن الدولي وعزم عسكري غربي حازم.
ولدى تركيا أيضاً قوات كافية لإنشاء منطقة آمنة خاصة بها شمال محافظة إدلب، ربما تشمل القرى التركمانية شمال شرق جسر الشغور وسكان المخيمات النازحين حول “باب الهوى” وأتيما. لكن، قد توفر مثل هذه المقاربة أكبر قدر من الحماية للمدنيين الفارين، إلا أن أردوغان لا يعتزم التدخل عسكرياً في تلك المنطقة. وتتمثل أولويته في سوريا في منع إنشاء منطقة حدودية كردية تتمتع باستقلال تام، وبالتالي قاعدة جديدة لـ«حزب العمال الكردستاني» – التنظيم الذي يشن حرباً ضد الحكومة التركية منذ عقود. لذلك، قد يكتفي أردوغان بالتوصل إلى تفاهمات مع المتمردين المحليين لإنشاء منطقة آمنة شمال إدلب بحكم الأمر الواقع، على غرار تلك القائمة حالياً بين أعزاز وجرابلس.
أما بالنسبة إلى الولايات المتحدة، فتواجه واشنطن حالياً قراراً بشأن ما إذا كان رحيل الأسد يشكل مرة أخرى أولوية بالنسبة إليها بعد هجوم خان شيخون. وفي هذه الحالة، مدى توافق هذا الهدف مع تركيز إدارة ترامب على استعادة الرقة وتدمير تنظيم «الدولة الإسلامية». ولا توجد إجابات سهلة في إدلب، حيث يخضع المتمردون بشكل متزايد لسيطرة عناصر تنظيم «القاعدة» ويبدو أن النظام عازم على استخدام كافة الوسائل المتاحة له لإخراجهم، مهما كان الثمن بالنسبة للمدنيين. وحتى الآن، اقتصرت الإجراءات الأمريكية المباشرة في المحافظة على مجموعة من الضربات الجوية ضد أهداف تنظيم «القاعدة» في أواخر آذار/مارس. ونظراً لصعوبة إيجاد شركاء على الأرض يشاركون الأهداف الأمريكية، قد يكون ذلك كل ما ترغب واشنطن في القيام به فور قيام نظام الأسد بشن هجومه على إدلب بشكل جدي، على الرغم من أن جميع الرهانات قد تسقط إذا ما استخدم الأسد الأسلحة الكيميائية مرة أخرى.
فابريس بالونش، هو أستاذ مشارك ومدير الأبحاث في “جامعة ليون 2″، وزميل زائر في معهد واشنطن.