حال ظرف طارئ، ومؤلم، دون استكمال الهامش الثالث على “النار والغضب“ في الأسبوع الماضي، ونستكمل اليوم التعقيب الثالث والأخير على الكتاب المذكور، وما يتصل منه بفلسطين والعالم العربي. وإذا شئنا الكلام عن “نظرة“ إدارة ترامب “الاستراتيجية“ إلى الشرق الأوسط، فهي، وكما جاء في أكثر من توضيح في الكتاب، تتمثل في التالي:
في الشرق الأوسط أربعة من كبار اللاعبين هم: إسرائيل، ومصر، والسعودية، وإيران. وثمة إمكانية لتوحيد، ودعم، الثلاثة الأوائل في مجابهة اللاعب الأخير. وفي هذا ما يخدم مصلحة أميركا. وبقدر ما يتعلّق الأمر بفلسطين، فإن دعم أميركا للثلاثة الأوائل في مجابهة إيران، يمثل دافعاً كافياً لإقناع هؤلاء بالضغط على الفلسطينيين لإبرام صفقة شاملة تُنهي الصراع العربي ـ الإسرائيلي، والقضية الفلسطينية، في آن.
وتتموضع هذه النظرة في إطار نظرة أشمل إلى دور الولايات المتحدة في العالم، وفيها ينقسم عالم اليوم، كما تراه أميركا الترامبية، إلى قوى يمكن العمل معها، وقوى لا يمكن العمل معها، وقوى يمكن تجاهلها، أو التضحية بها. ومن نافلة القول، بطبيعة الحال، التذكير بأشياء من نوع أن ما لا يحصى من القضايا، والشعوب، و“القوى“ يمكن التضحية بها.
ولا يحتاج الأمر إلى ذكاء خاص لإدراك حقيقة أن فلسطين، قضية وشعباً، على رأس القوى المرشحة للتضحية. وهذا، في الواقع، ما يتجلى في المشهد الافتتاحي الأوّل في كتاب وولف. فبعد فوز ترامب بالرئاسة، وفي سهرة اجتماعية يقول ستيف بانون، مدير حملته الانتخابية، وكبير مستشاريه في وقت لاحق، إن الإدارة الجديدة ستنقل في اليوم الأوّل لإقامتها في البيت الأبيض، السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس.
وبالعودة إلى “النظرة“ الترامبية إلى الشرق الأوسط، والعالم بشكل عام، وقد وضعناها بين مزدوجين، فإن أحداً من خبراء السياسة، في العالم، على اختلاف مدارسهم، لن يغامر بإلصاق صفة “الاستراتيجية“ بجملة أفكار بدائية كهذه تجهل حتى أبسط مبادئ الجغرافيا السياسية بقدر جهلها للسياسة والتاريخ. وهذا مُفزع على نحو خاص إذا كان خارطة طريق للإمبراطورية، وإذا كانت الإمبراطورية نفسها مأزومة، وتعيش لحظة أضاعت فيها البوصلة والطريق.
وهو مُفزع، أيضاً، لأن هذا القدر من البدائية نجم عن “فلسفة“ سياسية مفادها أن إدارة ترامب ينبغي أن تفعل عكس كل ما فعلته إدارة أوباما، وإدارات سبقتها، على الصعيدين الداخلي والخارجي. فهي لا تحتاج لمعرفة شيء بل تريد أن تكون مختلفة، فقط. وتعزز هذه الدلالة حقيقة تجلت في إشارات، لا حصر لها في الكتاب، مفادها أن المعرفة، والخبرة، لم تكن على رأس المؤهلات المطلوبة للالتحاق بفريق ترامب الرئاسي.
وإذا كانت “فلسفة“ كهذه، وما نجم عنها من سياسات، قد حوّلت الرئاسة الأميركية إلى موضوع للسخرية في العالم، وإلى نفور حتى من جانب أقرب الحلفاء الغربيين، فإن المكان الوحيد الذي وجد فيه ترامب “الحضن الدافئ“ كان العالم العربي. مثلاً، في حملته الانتخابية وعد ببناء جدار، على الحدود، مع المكسيك، على أن يدفع المكسيكيون تكلفته. وبعد وصوله إلى البيت الأبيض طلب مساعدوه من الرئيس المكسيكي التظاهر بأنه سيدفع التكاليف مقابل ترتيب لقاء مع ترامب، فقوبل طلبهم بالرفض، وحتى بعبارات جارحة من جانب بعض الساسة المكسيكيين.
أما في العالم العربي فقد أنفق السعوديون 75 مليون دولار على حفل استقباله، ووقعوا معه على صفقات أسلحة تبلغ قيمتها 110 مليار دولار، وتعهّدوا بشراء ما قيمته 350 مليار دولار على مدار عشر سنوات لاحقة. ويبدو أن هؤلاء لم يكونوا الوحيدين في الشرق الأوسط الذين فكّروا في كيفية التقرّب منه. ففي تركيا، مثلاً، وكما يروي وولف، طلب مسؤول تركي رفيع مشورة رجل أعمال أميركي بشأن أفضل السبل للتعامل مع ترامب: هل يبتزونه بالضغط في موضوع القواعد العسكرية الأميركية في بلادهم، أم يشترون ذمّته بتمكينه من بناء فندق في مكان فريد على البوسفور.
والمُفاجئ، في هذا الشأن، أن جاريد كوشنر، زوج ابنته، الذي تسلّم ملف العلاقات الأميركية ـ العربية، يستعين بخبرة ونصائح هنري كيسنجر، مستشار الأمن القومي في إدارة نيكسون، ووزير خارجية فورد، ومهندس مفاوضات توّجتها اتفاقية السلام المصرية ـ الإسرائيلية في كامب ديفيد. وأهم خلاصة للمذكور أن عقلية البازار (السوق التقليدية) هي التي تحكم السياسة والمفاوضات في العالم العربي، والشرق الأوسط عموماً.
هذه الخلاصة عنصرية. ومع ذلك، فهي تشكّل، على الأرجح، خارطة طريق لترامب وفريقه في الشرق الأوسط، وكل هؤلاء جاءوا إلى السياسة من عالم السوق والبزنس. ولا يبدو من قبيل المصادفة أن يخرج تعبير “عملية السلام“ من التداول، وأن يحل مكانه تعبير “الصفقة“، ولا من قبيل المصادفة أن شريك كوشنر في “حل“ الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي محام أميركي يختص في فض النزاعات العقارية.
وإذا كان ثمة من خلاصة: إن “نظرة“ بدائية كهذه، معطوفة على تحيّزات عنصرية، تسعى إلى تفريغ السياسة من مضامينها الأخلاقية، وتعقيداتها التاريخية، ومرجعياتها الثقافية، وشحنها بمضامين جديدة تنتمي إلى عالم السوق والبزنس. وأن هذا المسعى يجد في النخب الحاكمة، والسائدة، في العالم العربي، حليفاً لا يقل عنه إيماناً بقدرة السوق والبزنس على إخراج الأرنب من القبّعة. ومع ذلك، وكما أن الحرب اخطر من أن يقرر مصيرها الجنرالات، فإن السياسة أخطر، وأعقد، من أن يقرر مصيرها مضاربون في السوق والبزنس. فهؤلاء لن يخرجوا الأرنب من القبّعة، في السيرك الترامبي، بل عقارب كثيرة.
khaderhas1@hotmail.com