تلوح في الأفق نُذر انتفاضة جديدة. هذا ما يقوله معلقون ورسميون وغير رسميين. وفي هذا الصدد يمكن إبداء الملاحظات التالية:
أولاً، هبطت مكانة المسألة الفلسطينية على سلّم الأولويات العربية والإقليمية والدولية، في السنوات الأخيرة، نتيجة ثورات الربيع العربي، والمشروع النووي الإيراني، وإعادة ترتيب أولويات الولايات المتحدة في العالم، والمشاكل المالية والسياسية التي تواجه الاتحاد الأوروبي. لذلك، التوقيت سيئ، خاصة إذا لجأت الانتفاضة المحتملة إلى السلاح، واستفردت بها إسرائيل، في ظل مشاغل ومشاكل الآخرين في الإقليم والعالم.
فلنفكر في مصير الثورة السورية هذه الأيام، فعلي الرغم من مؤتمرات “أصدقاء” سورية، والإدانات المتكررة للنظام من جانب الكبار والصغار في العالم، وعلى الرغم من “تدفق” المال والسلاح، إلا أن نظام آل الأسد يواصل ذبح السوريين، ومع استمرار ذبح السوريين يزداد صعود ميليشيات أصولية يُلحق وجودها الضرر بحاضر سورية ومستقبلها. وإذا أردنا المقارنة، فإن إسرائيل تحظى بدعم الكبار وتواطؤ الصغار بدرجة تفوق ألف مرة ما لدى نظام آل الأسد من علاقات وتحالفات وصداقات.
ثانياً، وإذا افترضنا أن الانتفاضة المحتملة تعبير عن واقع لم يعد يحتمل المراوحة (وهذا صحيح في جوانب مختلفة) إلا أن التفكير في الانتفاضتين الأولى والثانية يقود إلى خلاصات من بينها أن فقدان آليات الضبط والسيطرة، واختلاط الأهداف التكتيكية بالاستراتيجية، وتآكل الطابع المدني والسلمي لمظاهر الاحتجاج ومقاومة الاحتلال، ستؤدي مجتمعة إلى تدمير السلطة الفلسطينية، وهيمنة مروحة واسعة من التشكيلات الميليشياوية الأصولية والمتطرفة على الفلسطينيين.
وربما يُقال: وما المانع، طالما أن المفاوضات لم تأت بنتائج ملموسة بعد عقدين من الزمن، وطالما أن حماس لم تتنازل عن خيار المقاومة. وما المانع من ظهور أكثر التشكيلات الميليشياوية تطرفاً طالما تُقاتل إسرائيل. ربما نسمع هذه الأسئلة وغيرها.
والمانع أن هؤلاء لن يتمكنوا من دحر الاحتلال، ولن ينجحوا بعد سنوات قد تطول أو تقصر، وبعد أثمان إنسانية وسياسية واجتماعية يصعب حصرها، إلا في الوصول إلى مساومات وتفاهمات قد تختلف من حيث اللغة، لكنها لا تختلف في الجوهر عمّا وصلته السلطة من مساومات وتسويات مع إسرائيل.
وربما يُقال، أيضاً: ولكن هذا الكلام يُغلق الباب أمام كل محاولة للتقدّم، أو الخروج من مأزق المفاوضات العبثية، التي ثبت معها أن الإسرائيليين لن يفهموا إلا لغة القوّة، سيما وأن الانتفاضة الجديدة ستمكّن الفلسطينيين من إنهاء الانقسام وتوحيد صفوفهم.
وهذا الكلام منطقي في حالة واحدة: تجاهل المعطيات الإقليمية والدولية، والاحتكام إلى مبدأ التجريب في الممارسة السياسية، على طريقة لعل وعسى.
وما الحل، إذاً؟
المطلوب في السياسة، دائماً، العثور على حلول. وهذه الحاجة هي التي تمنح الغالبية العظمى من المعلّقين والمحللين وهم التصرّف كما لو كانوا من كبار الاستراتيجيين في العالم، فنراهم يحركون الجيوش ويخوضون المعارك على المنابر والورق، ويقولون للساسة ما ينبغي عمله، ولا يتورّع البعض عن تحريض الجمهور، لأن الساسة لا يأخذون بوصفاتهم السحرية لحل هذه المشكلة أو تلك.
وأعترف، بقدر ما يتعلّق الأمر بالآن وهنا، بأنني لا أعرف ما هو الحل. وهذا الاعتراف يستند إلى فرضية مفادها أن احتمال التحرّك الدولي الفاعل في المسألة الفلسطينية، والحماسة الإقليمية المصاحبة له، لن يتأتيا قبل اتضاح أفق ما لثورات الربيع العربي عموماً، وفي مصر وسورية بشكل خاص، وقبل حل الإشكال النووي الإيراني حرباً أو سلماً. وكل ما يمكن أن يحدث قبل اتضاح هذه الأشياء يدخل في باب المُسكّنات والحلول الجزئية والمؤقتة. فهل تحتاج المُسكّنات والحلول الجزئية لانتفاضة جديدة؟
ثالثاً، في ظل واقع يتسم بقدر هائل من السيولة على الفلسطينيين أن يزنوا خطواتهم السياسية بميزان الذهب. هذا كلام عام، بطبيعة الحال، إذ يمكن الانتقال من وضع يتسم بالثبات النسبي إلى درجة الغليان خلال أيام قصيرة.
وفي سياق كهذا يمكن الحكم على حكمة السياسي بقدر حرصه على عدم فقدان آليات الضبط والسيطرة. وقد كان فقدان آليات الضبط والسيطرة عقب أخيل الحركة الوطنية الفلسطينية، وابنتها السلطة الفلسطينية، على مدار سنوات أصبحت الآن طويلة.
من آليات الضبط والسيطرة ألا ينجح أحد في اختطاف الشعار السياسي، وألا ينجح “الشارع” في فرض إرادته على متخذي القرارات، وألا يفشل السياسي في امتحان تقييم وإعادة تقييم الوضع بصفة مستمرة، والتأقلم مع المتغيّرات، والتقدم إذا لاحت ثغرة في الأفق، والانحناء إذا هبت عاصفة.
مرّة أخرى هذا كلام عام لأن الكاتب لا يشتغل بالسياسة، ولا ينتمي إلى فصيل، بل يمارس دوره كمواطن، بكل ما يسم دوراً كهذا من قلق على الشخصي والعام، ومن حيرة إزاء الواقع، ومن فقر في “المعلومات” والمعطيات، ومن خبرة في الحقل العام تراكمت وأصبح في الإمكان اقتسامها مع آخرين. هذا كل ما هنالك، سواء صدقت النُذر أو لم يسقط بعد البرق مطر.
khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني