من يتمعّن في تعليقات المواطنين اللبنانيين العاديين في الذكرى الواحدة والاربعين للثالث عشر من نيسان ـ ابريل 1975، يشكّ في انّهم تعلموا شيئا من التجارب التي مرّ فيه بلدهم والتي ادّت الى تغيير طبيعته. تغيّرت طبيعة لبنان الى درجة صار معزولا عن محيطه العربي وصار وزير خارجيته موظّفا في وزارة الخارجية الايرانية.لا يعي كثيرون خطورة هذا التطوّر وابعاده على مستقبل البلد!
لعلّ اكثر ما يفاجئ، في ذكرى بدء حرب لبنان، هو تلك الشعارات التي يرفعها قسم من المسيحيين لتبرير انخراطهم في تلك الحرب التي كان مطلوبا ان يكونوا من بين ضحاياها وصولا الى ما وصل اليه الوضع المسيحي اليوم. لعلّ افضل ما يعبّر عن هذا الوضع العجز عن انتخاب رئيس للجمهورية، هو الرئيس المسيحي الوحيد لدولة في المنطقة الممتدة من اندونيسيا الى موريتانيا.
المضحك ـ المبكي ان مسيحيين يحتفلون بذكرى بدء الحرب التي دمّرت لبنان وكادت ان تقضي على النسيج الاجتماعي للبلد بالاعلان عن نجاهم في التصدي لتوطين الفلسطينيين في البلد. هل كان هذا التوطين مطروحا في يوم من الايّام… ام ان المشكلة بدأت بتوقيع لبنان لاتفاق القاهرة المشؤوم في العام 1969 لأنّ رئيس الحكومة (السنّي) رشيد كرامي كان يريد تحرير فلسطين انطلاقا من جنوب لبنان، فاعتكف في منزله. بقي معتكفا حتّى قبل رئيس الجمهورية شارل حلو (الماروني) بالاتفاق. وقّع الاتفاق، الذي يعني التخلي عن السيادة اللبنانية لمنظمة التحرير الفلسطينية، قائد الجيش اميل بستاني الذي لم يكن لديه طموح سوى الوصول الى موقع رئيس الجمهورية خلفا لشارل حلو.
لم يصل اميل بستاني الى الرئاسة في 1970، بل وصل سليمان فرنجيه الجدّ وذلك في ضوء حسابات انتخابية ضيّقة قامت على التخلّص من ارث فؤاد شهاب الذي كان يمثّله ضباط المكتب الثاني، اي ضباط الاستخبارات في الجيش الذين كانوا يتنمون الى المدرسة الشهابية التي حاولت بناء دولة مؤسسات حقيقية، لكنّها اصطدمت بعقبات عدّة. كان من بين تلك العقبات تجاوزات المكتب الثاني في بلد تكتّل فيه المسيحيون ضدّه عبر الحلف الثلاثي الذي ضم زعماء المسيحيين (كميل شمعون وبيار الجميّل وريمون اده).
اذا كان من درس يمكن استخلاصه من تجربة سليمان فرنجيه الجدّ الذي اندلعت الحرب اللبنانية في عهده، فان هذا الدرس يتلخص بحاجة المسيحيين ولبنان الى رئيس عاقل وليس الى رئيس قويّ. ماذا ينفع الرئيس القوي اذا لم يكن قادرا على استيعاب التعقيدات الاقليمية. وماذا ينفع الرئيس القوي عندما لا يفهم ان زجّ المسيحيين في حرب مع الفلسطينيين، كما حصل ابتداء من 1975، سيعود بالكوارث والويلات عليهم في غياب شريك مسلم في هذه الحرب؟
الاهمّ من ذلك، ماذا ينفع الرئيس القوي عندما يتبيّن ان المستفيد الاوّل من حرب الميليشيات المسيحية على الفلسطينيين، وهي حرب محقّة من الناحية النظرية في ضوء ما ارتكبه المسلحون الفلسطينيون من جرائم في حقّ اللبنانيين، ستصبّ في مصلحة النظام السوري الذي كان على رأسه حافظ الاسد؟
يتحمّل الفلسطينيون مسؤولية كبيرة عن الحرب اللبنانية التي لا تزال مستمرّة الى اليوم بعدما خلف السلاح الايراني خلف السلاح الفلسطيني غير الشرعي في لبنان. يتحمّل الفلسطينيون، بمن في ذلك ياسر عرفات الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني مسؤولية ضخمة. لم يدمّروا لبنان لمصلحة النظام السوري فحسب، بل دمّروا قضيّتهم ايضا، خصوصا عندما شاركوا في تهجير مسيحيين من ارضهم وعندما لعبوا دورا مهمّا في تدمير وسط بيروت. من يتذكّر كيف ان احمد جبريل، الامين العام لـ”الجبهة الشعبيةـ القيادة العامة” وهو تنظيم فلسيطيني تابع مباشرة للاجهزة السورية اشرف بنفسه على تدمير فنادق بيروت واحدا واحدا بحجة طرد “الانعزاليين” منها. المؤسف انّه لم يصدر وقتذاك عن اي قيادي فلسطيني ما يدين تصرّفات جبريل متسائلا ما الذي نفعله بلبنان واللبنانيين؟
لو كان في لبنان رئيس عاقل في 1975، لكان فهم ان زجّ المسيحيين في مواجهة مع الفلسطينيين، لم يكن سوى مخطط لحافظ الاسد هدفه وضع اليد على لبنان. لم يكن هناك توطين ولا شيء من هذا القبيل، كان هناك عقل جهنّمي في دمشق يؤمن بالسيطرة على منظمة التحرير الفلسطينية، كما لديه حقد لا حقد بعده على بيروت ولبنان.
هذا العقل الجهنّمي هو العقل نفسه الذي ادخل “الحرس الثوري” الايراني الى لبنان في العام 1982 كي يبقى البلد يغلي. هذا العقل هو الذي الغى كل لبناني يؤمن بلبنان. قتل كمال جنبلاط عندما بدأ الاخير يكتشف اهمّية لبنان بالنسبة الى طائفة صغيرة مثل الطائفة الدرزية. وقتل بشير الجميّل، الرئيس المنتخب، عندما اعتبر بشير ان ليس في استطاعته الانصياع لرغبات مناحيم بيغن رئيس الوزراء الاسرائيلي، قبل التشاور مع شريكه المسلم في البلد. قتل المفتي حسن خالد لانه اراد ان يكون لبنانيا. واغتال صائب سلام وتقيّ الدين الصلح سياسيا عندما وجد ان ليس في استطاعته اخضاعهما.
من اجل فهم التجربة التي مرّ فيها لبنان في المرحلة الممتدة من نيسان ـ ابريل ـ 1975، الى نيسان ـ ابريل 2016، لا بدّ من البحث عن النظام السوري الذي استثمر دائما في السلاح غير الشرعي من اجل القضاء على الدولة اللبنانية. لذلك حافظ على سلاح “حزب الله” من اجل استخدامه اداة ضغط على مشروع رفيق الحريري الذي اغتيل، بشراكة ايرانية ـ سورية، معاقبة له على السير في مشروع الانماء والاعمار الذي اعاد الحياة الى بيروت واعاد وضع لبنان على خريطة المنطقة… وتحولّه الى رمز وطني لبناني وعربي.
بعد واحد واربعين عاما على بدء حرب لبنان، هناك امران يمكن التوقف عندهما. الامر الاوّل هو العجز لدى مسيحيين كثيرين، على التغلب على نقطة الضعف لديهم، اي عن استيعاب انّ دخولهم لعبة الميليشيات المسلّحة كان خطأ كبيرا كلّفهم غاليا، بل غاليا جدا. لم يعد في الامكان اصلاح هذا الخطأ، من دون الاعتراف اوّلا بأنّ “المارونية السياسية” انتهت الى غير رجعة وان الحاجة هي الى رئيس للجمهورية ميثاقي وليس الى رئيس قوي. استخدم ميشال عون القوّة في 1990 في اثناء وجوده في قصر بعبدا. كانت النتيجة ادخال النظام السوري الى قصر الرئاسة والى وزارة الدفاع القريبة منه. هل من جريمة اكبر من هذه الجريمة في حقّ لبنان واللبنانيين؟
امّا الأمر الثاني الذي يمكن التوقف عنده، فيتمثّل في ان كلّ طائفة من الطوائف اللبنانية حاولت منذ 1975 اعتبار نفسها الطائفة الاولى. خلفت “الشيعية السياسية” ما يسمّى “المارونية السياسية” بعد مرحلة جرّب فيها السنّة حظّهم، متكلين على الفلسطينيين، والدروز حظّهم متكلين على الفلسطينيين والسوريين في الوقت ذاته.
تبيّن اخيرا ان معظم السنّة والدروز تعلّموا شيئا من تجارب الحرب وما مرّ فيه لبنان طوال اربعة عقود. بعض المسيحيين تعلّم، كذلك قسم من الشيعة المستنيرين الذين يقفون موقفا مشرّفا من “حزب الله” ودوره. الذين لم يتعلّموا ما زالوا يتحدّثون بلغة ما قبل 1975.
الذين لم يتعلّموا هم اولئك المسيحيون الذين لا يريدون الاعتراف بان شيئا تغيّر في لبنان، وهم اولئك الشيعة الذين يظنون ان ايران قادرة على احلال “الشيعية السياسية” مكان “المارونية السياسية”. هؤلاء لا يعرفون ان من بين الاسباب التي جعلت النظام السوري، وهو نظام علوي، اي طائفي في الدرجة الاولى، ينتهي بالطريقة التي انتهى بها، عدم ادراكه ان حرب لبنان سترتد عليه يوما وان ما شهده لبنان سيكون نزهة مقارنة ما تشهده وستشهده سوريا، وغير سوريا.