قد يبدو العنوان للكثيرين متناقضاً، حيث تم تسويق أيديولوجيا العروبة في المنطقة طوال أكثر من نصف قرن مضى على أنها المدخل الوحيد للتعامل والتعاون مع شعوب المنطقة المتحدثة بالعربية، بحيث صار من ينادي بمصرية مصر ويرفض فكرة العروبة كأنه ينادي بانعزال مصر وشعبها عن محيطها، بل وربما هناك من يذهب أبعد، متصوراً المناداة بمصرية مصر تعني العداء أو الاستعلاء على جيراننا الأقرب جغرافياً وثقافياً.
لا تطمح تلك السطور لأكثر من توضيح أن أيديولوجيا العروبة التي أشبعنا أنصارها طوال السنوات الماضية معارك كلامية مجيدة، وهزائم ونكبات سياسية وعسكرية كارثية، لم تفد قضية التعاون والتقارب بين شعوب المنطقة، بل بالعكس سببت لها أفدح الخسائر، وأن هذه الفكرة أو الأيديولوجيا ليست المدخل الوحيد –وإن كان الأسوأ- للتقارب المثمر تحقيقاً لمستقبل أفضل.
البذرة الأولى لفكرة العروبة التي وضعها القوميون العرب لتكون بديلاً عن فكرة الخلافة الإسلامية لا تخلو من إخلاص وحسن نية وتعسف أيضاً، لكن ما لحقها بعد ذلك على يد ميشيل عفلق مؤسس حزب البعث العربي الاشتراكي، وعلى يد أتباعه وورثته من المغامرين الصناديد، بجانب الطبعة الناصرية من دعوة العروبة، حولها لتكون ابتلاء للمنطقة وشعوبها، بدلاً من أن تمثل نهضة أو بعثاً حقيقياً، وليس بعثاً على الطريقة الناصرية والصدامية والأسدية.
فكرة الوحدة العربية من الأساس فكرة تعسفية مقحمة على الواقع وعلى حقائق التاريخ، التي يسيء منظرو العروبة قراءتها عن عمد، ليخرجوا لنا باستنتاج مضحك ومؤسف معاً، هو أن المنطقة ما بين الخليج والمحيط هي بالأساس دولة واحدة وأمة واحدة، وأن الاستعمار أو الإمبريالية هي التي تآمرت على تفتيتها، تحقيقاً لمصالحها في الهيمنة ونهب الثروات.
يتجسد في هذا الادعاء المحوران أو الخطيئتان الأساسيتان في فكر العروبة، هذا بالطبع بالإضافة إلى باقي الهنات والزلات القاتلة، فالمحور الأول هو القول بأمة واحدة ودولة واحدة، والمحور الثاني أن الاستعمار هو الذي فرقنا.
بالنسبة للمحور الأول فلنفترض أن هناك مشتركات بيني وبين شخص آخر، تسمح لنا بالقيام بجهد مشترك لصالح كلينا، لكنني من قبيل الحماسة أو السذاجة أو سوء النية قررت ألا أكتفي بالبناء على الجزء المشترك واستثماره، وأيضاً تعظيمه في المستقبل، وإنما قررت القفز فوق عناصر الاختلاف العديدة بيننا، لأفترض التوافق أو التطابق التام بيني وبينه، وأدعي أننا في الحقيقة شخص واحد وليس شخصين، وبالتالي ينبغي أن نحيا حياة مشتركة بكل تفصيلاتها المادية والثقافية والسياسية.. هذه القفزة التعسفية في الفراغ سوف تجعل الآخر يصاب بالفزع والخوف على نفسه وخصوصيته من هيمنتي، وقد يجاريني موافقاً من قبيل طيب الأحاديث، لكنه لن يتقدم خطوة واحدة عملية باتجاه ما أدعو إليه، وإن حدث وتقدم كما فعل الرئيس السوري شكري القوتلي في آواخر الخمسينات من القرن الماضي مع عبد الناصر، وكونا الجمهورية العربية المتحدة، فإن تلك الوحدة التعسفية المتجاهلة لحقائق اختلاف الطرفين لن تلبث أن تنهار، ليعقبها شقاق وعداء لسنوات، لو أنفقت في التعاون الموضوعي العقلاني على استثمار المشترك، لأدت لنتائج إيجابية بعيدة المدى، تتأسس على صخرة concrete الواقع، وليس على أوهام وطموحات زعامة لمغامرين يتلاعبون بالمقولات والشعارات، ليس إيماناً منهم بها، وإنما سعياً لتحقيق أحلامهم الإمبراطورية.
المحور الخطيئة الثاني في فكر العروبة هو التوجه نحو ما سميناه الإمبريالية كسبب لتفريقنا، فقد صارت هذه الفكرة هي المعلم الأساسي الذي طبع خطاب العروبة بصبغة سوداء عدائية تجاه الآخر الغربي الموصوم بالإمبريالية، وتراجع في الخطاب التركيز على المصالح المشتركة بين الشعوب، لصالح تجميعها على أساس العداء المشترك لآخر، وكان من الطبيعي والأمر هكذا أن فكر العروبة رغم علمانيته صار الرحم الذي نمى فيه جنين فكر الإسلام السياسي المتطرف والمعادي للآخر، وللتدليل على ذلك نكتفي باستعراض ما أتذكره من نشيد كان يروج له في عقد الستينات:
يا مجاهد في سبيل الله
دا اليوم اللي بتتمناه
طول يا وطن ما معانا سيوف
الدنيا يا ما بكرة تشوف
إحنا عرب أصلنا معروف
فن الحرب احنا بدعناه
لقد توعدنا الدنيا بسيوفنا في الستينات، وبررنا بالوعد بعد أربعة عقود، وفعلاً رأت الدنيا منا ما لم يسبق لها أن رأته!!
بعد بدايتها الأولى التي افترضنا خيريتها إذن، تحولت فكرة العروبة إلى أيديولوجيا صدامية، ولم تنجح بل ولم تحاول أن تؤجل الصدام لحين استكمال مقومات القوة الذاتية قبل أن تتوعد العالم بالسيوف، فقادتها افتقدوا إلى الصبر على التصادم، بذات قدر افتقادهم القدرة والرؤى البناءة، وكان أن قادوا شعوبهم ليس فقط للتصادم مع العالم المتحضر، بل وللتصادم بين بعضهم البعض، وقسم المغامرون الميامين المنطقة إلى نظم ثورية جديرة بالقيادة والسيادة، ونظم رجعية متخلفة ينبغي القضاء عليها، وهكذا استهلكنا نصف قرن مضى نتحطم ونحن نحاول أن نحطم، لنصل إلى ما وصلنا إليه الآن في ظل دعوة العروبة ودعاواها، وقد أصبحنا طريدة للعالم المتحضر ومشكلته المستعصية على الحل.
kghobrial@yahoo.com
* الإسكندرية
الماضي سيئ ,,, والحاضر اسوأ ما زلت اذكر يوم وقع الانفصال بين سورية ومصر وكنا نخرج من المدرسة ونرفع صور عبد الناصر ونصرخ … لا دراسة ولا تدريس حتى يرجع الرئيس … لكننا كنا بنفس الوقت نصرخ ايضا … يعيش عبد الناصر … يا … ويرد الجميع … يعيش .. يعيش … يعيش …ومعنى العبارة اننا ندعوا للرئيس بطول البقاء ( على الكرسي طبعا وليس بالسجن ) … وبعد ذلك كررنا نفس الصداح وقلنا .. يعيش امين الحافظ … يا … والجواب طبعا من الجميع … يعيش … يعيش … يعيش … ولكن عندما استولى حافظ اسد على الحكم …… قراءة المزيد ..