صحيفة الباييس الإسبانية
الذهاب إلى المدرسة ليس مهمة سهلة. يجب الاستيقاظ مبكراً، الانتباه لساعات إلى المدرِّس، الاجتهاد لفهم المواد، واذا كان هذا قليلاً، أداء الواجبات في البيت. هذا، بالنسبة لطفل عادي. إذا كنت طفلاً سورياً هرب من بلده، في حرب منذ آذار 2011، فالأمر سيتعقد أكثر: نقص في التركيز، اضطراب ما بعد الصدمة، وتصرفات عدوانية ضد الأقرباء والمدرسين، هي بعض العواقب التي تظهر في الذين يعودون إلى المدرسة في مخيمات اللاجئين. “أحياناً لا يريدون المجيء إلى الصف، لديهم مشكلات في تكوين الصداقات مع أطفال آخرين… لا يتواصلون. عقولهم في سـوريا ولا يركزون على عملهم المدرسي”، يشرح محمد، الأخصائي النفسي ومنسق التعليم الابتدائي في مدرسة اونكوبينار، في تركيا.
مخيم اللاجئين في اونكوبينار، المبني في تموز| يوليو 2011 هو ذلك الذي قد يريد أي أحد العيش فيه إذا لم يبق له حل آخر غير اللجوء إلى واحد من المخيمات. إنه كقرية صغيرة جيدة التنظيم، بشوارعه الممهدة، ساحاته وأبنيته الاجتماعية: مكتب البريد، محال متعددة للمواد الغذائية، مسجد، مدرسة، حدائق أطفال، ومنشآت أخرى تكسر التناظر في شوارع المقصورات غير المتناهية. هنا لا يجب عليك أن تعيش في خيمة، هنا يعاش في حاويات سكنية مكونة من غرفتي نوم مزودة بالكهرباء لأربع وعشرين ساعة، وموقد، وحمام، ومرحاض. بعض العائلات لديها تلفزيون حتى، السياج القبيح والإجراءات الأمنية القوية هي، تقريباً، العناصر الوحيدة في المشهد التي تجعلك تعود إلى الواقع.
اونكوبينار هو واحد من اثنين وعشرين مخيم للاجئين بني في تركيا من قبل حكومة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، وهو أيضاً الهيئة التي ترخص أو تمنع الدخول إلى المخيمات لطالبي اللجوء، المنظمات غير الحكومية أو الصحفيين. القول إنهم لاجئون هو خطأ في الحقيقة ذلك أن الحكومة لا تعترف بهذه الصفة للسوريين وإنما هم “ضيوف خاصون” أو “زائرون”. إنه فارق مهم لأن شخصاً لا يُعترف به رسمياً كلاجىء لا يتمتع بحماية الشرعة الإنسانية الدولية ويفقد سلسلة من الحقوق، كالحق في عدم العودة إلى البلد الذي هرب منه إذا لم يرد ذلك.
حتى اليوم، أنفقت الحكومة التركية ملياري دولار لمساعدة أكثر من ستمائة ألف لاجىء -300000 في المخيمات- منهم ستون بالمائة من الأطفال، حسب معطيات وكالة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة. مخيم اونكوبينار هو على بعد كيلومترين من كلس، آخر البلدات في جنوب شرق تركيا قبل الوصول إلى الحدود مع سـوريا. ملتصقين بالخط الفاصل بين السلام والحرب، بين أسواره يتعايش ثلاثة عشر ألف سوري، نصفهم تقريباً تقل أعمارهم عن ثمانية عشر عاماً. في محيطه يوجد فقط أراض مقفرة فيها عدة آلاف من أشجار الزيتون هي العنصر الرئيسي المطلق في المشهد.
الأرقام الخاصة بتعليم الأطفال السوريين هي الأسوأ في كل تاريخ البلد، فثلاثة ملايين تقريباً اضطروا إلى ترك دراستهم منذ 2011. معدل الحضور قبل تفجر النزاع كان 97 بالمائة تقريباً أما الآن فقد انخفض، في بعض المناطق، إلى ستة بالمائة حسب اليونيسيف. في المخيمات التركية، الرقم يتحسن: ثلاثة وثمانون بالمائة ممن هم بين السادسة والحادية عشرة يحضرون إلى صفوفهم، لكن فقط 14 بالمائة من الذين يعيشون خارجها يعود إلى المدرسة، حسب تقرير وكالة الكوارث والطوارىء التابعة للحكومة التركية (AFAD). وفي تقرير أعد من قبل المفوضية العليا لشؤون اللاجئين واليونيسيف يشار إلى أن واحداً من كل عشرة قاصرين، خارج المخيمات، يعمل بدلاً من الذهاب إلى المدرسة لمساعدة عائلاتهم من الناحية الاقتصادية.
المنشآت التعليمية في أونكوبينار توجد في بناء من الآجُرّ يحوي مدراس رياض الأطفال والابتدائية والثانوية. يراقب أسامة بفضول واحدة من القاعات الخالية لأنه يوم عطلة.الطاولات، نظيفة ومنظمة. السبورة، مع بعض الخربشات بالعربية المكتوبة بقلم أحمر. اللوازم والكتب، في رفوفها. رسم لأردوغان، آخر يمثل الاعتزاز بالشعب السوري الحر، وتقطيعات عدة لطيور وأزهار وأميرات ديزني تزين جدران الممر.
وصل أسامة قبل بوم واحد فقط من حلب، مدينته، على بعد خمسين كيلومتراً من الحدود التركية وهي الأكثر سكاناً في البلد. هذا المدرس في الرابعة والعشرين من عمره كان يقوم بالتدريس إلى ما قبل شهر، عندما حملته كثافة القصف على الاقتناع بأن ذلك كان خطراً كبيراً. ذلك أن الطلاب والأساتذة كانوا قد انتقلوا، قبل أسابيع، إلى بعض المخازن تحت الأرضية سعياً وراء شيء من الأمن رغم وجودهم في المنطقة الثائرة، الأكثر معاناة على أيدي القوات الحكومية. “كانت المدرسة تضم حوالي 4000 طالب فيما بين ستة وثمانية عشر عاماً، لكن بعد عمليات القصف الأخيرة، لم يبق ولا حتى 400″، كما يشرح. “على الرغم من ذلك، تسعون بالمائة من تلامذتي لم يكونوا يريدون التخلي عن الحضور، كانوا يتحدون الأسـد”، يقول بفخر.
الأطفال يتبعون مناهج الدراسة السورية، التي تتضمن مواد الرياضيات، العلوم، اللغة الانكليزية، والعربية. إذا رسبوا، يعيدون السنة. عن تعليمهم يضطلع بالمسؤولية مائة وخمسة وستون متطوع سوري، لا غنى عنهم لأنهم يعرفون اللغة والثقافة والنظام التعليمي في بلدهم، وثلاثة وعشرون آخرون من مدرسي اللغة التركية، وهي إلزامية. تشرح ذلك غونول سيلين، منسقة التربية في المخيم كله. “معظم الطلاب جاؤوا في بداية الثورة، وهكذا فهم لم يعودوا يعانون من صعوبات، وهذا ما ينعكس في نتائجهم”، تضيف.
المعطيات المنشورة من قبل حكومة أردوغان تكشف، رغم ذلك، أن نصف اللاجئين يعتقدون أنهم أو أقرباءهم يحتاجون عناية نفسية، وأن خمسة وعشرين بالمائة من الأطفال يعانون مشكلات في النوم. “ليس هناك مساندة نفسية منظمة. من يحتاج شيئاً يتوجه إلى محمد وهذا يعتني به”، تؤكد سيلين، في إشارة إلى الأخصائي النفساني- المنسق المسؤول عن مرحلة رياض الأطفال. رجل واحد فقط لثلاثة عشر ألف سوري هربوا من القنابل. في غضون ذلك، قدمت اليونيسيف مساعدة نفسية إلى اثني عشر ألف قاصر في البلد كله في الشهرين الأولين فقط من عام 2014 وتأمل الوصول إلى حوالي 103500 على مدار العام.
شوبار، مدرِّسة العربية في المدرسة الثانوية منذ عامين ونصف ومع 3900 طالب تحت مسؤوليتها، هي أكثر إيضاحاً. “الطلاب شاهدوا القنابل، الدم؛ شاهدوا الموتى، أحياناً من أقربائهم. بعضهم فقدوا آباءهم ، ويتحدثون فقط عما يجري في سـوريا. من الصعب أن يركزوا على شيء آخر”، كما تشرح. بالفعل، ثلث الـ 200000 لاجىء في تركيا فقدوا على الأقل عضواً واحدا من أسرهم، حسب وكالة AFAD التركية.
“الأطفال يلعبون لعبة الحرب. نعلمهم رسم الزهور ويرسمون الأسلحة”، تؤكد شوبار. رغم ذلك، فإن العمل المتواصل للمدرسين والمتطوعين والمنظمات غير الحكومية أخذ يعطي ثماره، برأي هذه المعلمة. “لا يمكن أن نجعلهم ينسون، لكن بالرغم من ذلك أرى تطوراًإيجابياً”.
مصير طفل ما يمكن أن يتغير جذرياً بفارق بضعة كيلومترات فقط. في اونكوبينار، ثمة متطوعون، مديرون، وعدة منظمات غير ربحية يعملون من أجل أن يحصل الصغار على تربية كريمة عبر نشاطات مثل التي تقوم بها اليونيسف في ما يسمى بـ “فراغات الحماية الخاصة”. إنها أماكن آمنة ومرحِّبة حيث يستطيع الصغار القيام بنشاطات ترفيهية وتربوية كالرسم أوالصناعات اليدوية التي تتيح لهم التعبير عن أنفسهم بشكل حر. رغم ذلك، على بعد بضعة كيلومترات فقط، الواقع هو أنه في مدن مثل حلب، الرقة أو حمص، من المستحيل الذهاب إلى المدرسة رغم جهود المنظمات غير الحكومية التي تعمل على الأرض، كالتركية IHH أو أطباء بلا حدود، ومسعى المدرسين كأسامة، الذين يفتحون صفوفهم رغم هطول القذائف.
“ثمة تناقض لافت مع أهداف الأمم المتحدة للألفية. في جانب من السياج نستطيع الكلام عن إنجازها، لكن في الجانب الآخر لا يُحترم حتى الحق في الحياة للاطفال”، يتأمل أمين يوجيكايا، نائب مدير مخيم اللاجئين. “التعليم هو حق، وهدف للأمم المتحدة، لكن الحق في الحياة هو أكثر أهمية. هنالك الكثير من الطرق للتربية، لكن الشرط الأول الذي يجب توفره هو أن لا تكون هناك حرب”، يقول منتقداً.
بعد ظهيرة أحد أيام كانون الثاني| يناير، تجفف الشمس الثياب الممدة على طول كل واحدة من المقصورات، مشكلة صفوفاً طويلة من الألوان التي تواجه اللون الأبيض لممرات وممرات مليئة بالحاويات السكنية. محمد ورشا يلعبان مع بعض الأصدقاء لأنه يوم عطلة وليس عليهم ان يذهبوا إلى المدرسة.
محمد يبلغ خمسة عشر عاماً، ذو نظرة مشاكسة، ويدرس في الصف السابع، ولو أن أحداً لن يتوقع ذلك لأنه أصغر بكثير مما ينتظر من فتى في عمره. ذهب إلى المدرسة لخمس سنوات في سوريا وبعد ذلك ضيع عاماً كاملا، حتى عاود الدراسة في المخيم، الذي وصل إليه في حزيران| يونيو 2012. رشا تبلغ اثني عشر عاماً وتؤكد بابتسامة خجولة أنها قد نسيت كل ما حدث في حلب، مدينتها، منذ أن بدأت الحرب حتى غادرت من هناك مع أسرتها، قبل عام. “لكن الأسد حمار”، تتمتم قبل أن تذهب للعب.
رباب، أم لطفلين آخرين في السابعة والثامنة، تؤكد أنها سعيدة جداً بالتعليم الذي يتلقاه أولادها. “في البداية واجهوا مشكلات لأنهم كانوا خائفين من الطائرات والقنابل، التي مازالوا يسمعونها حتى الآن من هنا، لكن الآن أنا سعيدة لأنهم يأتون بنتائج جيدة إلى البيت”، كما تؤكد. مثلها، 67 بالمائة من المقيمين في المخيمات يؤكدون أنهم راضون عن التعليم الذي يتلقاه أولادهم، حسب وكالة AFAD التركية، الهيئة الوحيدة التي قامت باستطلاع من هذا النوع.
لكن المطالبات ما زالت حاضرة: “نحتاج المزيد من الأخصائيين النفسيين والمزيد من اللوازم المدرسية”، كما يصف أسامة في بريد الكتروني بعد أسبوعين على وصوله إلى المخيم. لقد بدأ العمل كمدرس متطوع وهو ليس راضياً عن الصورة المثالية التي توفرها النظرة الأولى: “المشكلات الرئيسية هي النقص في الكتب وفي رواتب المعلمين، ذلك أننا نتقاضى خمسين دولاراً فقط في الشهر. التعليم هنا ما زال رهناً للفوضى”.
ترجمة: الحدرامي الأميني
http://elpais.com/elpais/2014/03/06/planeta_futuro/1394130266_237033.html