في عام ١٩٧٨ صككت مصطلحين: ثقافة الذاكرة وثقافة الإبداع، وذلك في بحث ألقيته في «المؤتمر الفكري الثاني للتربويين العرب» ببغداد. وقصدت من ثقافة الذاكرة، أنها التي تتمركز حول التراث، أي حول الماضي، ومن ثم تكون مهمة المعلم في مجال التعليم، تلقين الطالب حقائق التراث، دون أن تخضع لأي نقد أو شك، وتكون مهمة الطالب بعد ذلك حفظ هذه الحقائق واستدعاءها عند اللزوم.
ومن هنا يكون الامتحان اختباراً لقدرة الطالب على استدعاء ما تلقنه وحفظه. أما ثقافة الإبداع، فهي على الضد من ثقافة الذاكرة، إذ هي تستلزم تكوين رؤية مستقبلية، أي رؤية وضع قادم، في ضوء نقد حقائق التراث، أي إخضاعها لمنهج الشك.
والغاية من هذا النقد وهذا الشك، تغيير الوضع القائم من أجل تأسيس الوضع القادم. ومن هنا تتغير العلاقة بين الطالب والمعلم، فبدلاً من أن تكون سلبية تصبح إيجابية، بمعني أن ما يقدمه المعلم من حقائق يكون موضع نقد من الطالب. ويلزم من ذلك رفع «القداسة» عن المعلم وعما يقدمه من حقائق، وبالتالي يكون من الخطأ ترديد بيت الشعر القائل:
قم للمعلم وفّه التبجيلا
كاد المعلم أن يكون رسولا
وإذا رفعنا القداسة عن المعلم وعما يقدمه من حقائق، يريد فرضها على الطالب، رفعناها أيضاً عن الامتحان، بمعنى استبعاد الوهم بأن لكل سؤال جواباً واحداً ليس إلا، ومن ثم تتعدد الأجوبة عن السؤال الواحد، وبالتالي يمارس الطالب قدرته على الإبداع.
في هذا الإطار، يمكن القول، إن نسق التعليم القائم يستند إلى ثقافة الذاكرة دون ثقافة الإبداع، ولا أدل على صحة هذا القول مما يسمى «إجابة نموذجية»، أي إجابة جاهزة سلفاً ولا إجابة غيرها، وما على الطالب إلا وضعها في ورقة الامتحان.
ومن أجل تدعيم قدرة الطالب على التذكر بزغت ظاهرتان: الدروس الخصوصية والغش.. والعلاقة بينهما علاقة عضوية، فمهمة المعلم في الدروس الخصوصية، مزدوجة، إذ هي أولاً عبارة عن تحويل مادة الكتاب المقرر إلى بنود موجزة، يقال للطالب إنها أجوبة عن أسئلة مفترض ورودها في الامتحان، ثم هي ثانياً عبارة عن تدريب الطالب على استدعائها في الامتحان ولا لزوم لها بعد الانتهاء من الامتحان. وإذا خانته الذاكرة في الامتحان، كان عليه معالجة هذه الخيانة بالاستعانة بذاكرة طالب مجاور.
وهذه الاستعانة يقال عنها «غش» وفي «المعجم الوسيط» الصادر عن مجمع اللغة العربية يقال: «غَشَّ في الطالب الامتحان، أي كتب في ورقة الإجابة ما نقله من جاره أو من ورقة معه»، وإذا تعذر هذا النوع من الغش، استعان الطالب بأدوات تكنولوجية معاصرة مثل «الموبايل»، وإذا تعذر هذا وذاك استعان بمن يسرب له الامتحان من المنبع. وقد حدث هذا التسريب بغزارة وبجرأة في امتحان الثانوية العامة في شهر يونيو عن هذا العام.
وتأسيساً على ذلك كله، يمكن القول إن الغش هو أعلى مراحل ثقافة الذاكرة، فإذا أردنا التخلص من الغش كان لزاماً علينا، في المرحلة الراهنة، توظيف ثقافة الذاكرة لصالح ثقافة الإبداع، خاصة أن الكمبيوتر الآن يقوم مقام الذاكرة البشرية. وإذا كان ذلك كذلك فما الداعي للتلقين والحفظ والتذكر، بل ما الداعي للامتحان؟ قد يكون السؤال صادماً، ولكن الصدمة قد تزول عند قراءة إعلان منشور في إحدى الصحف المصرية على النحو الآتي:
«مطلوب شخصية مبدعة لوظيفة إلكترونية (البيع عن بعد)»، مع خلو الإعلان من ذكر الدرجة العلمية المطلوبة. ومغزى هذا الإعلان أن ثقافة الإبداع في طريقها إلى أن تكون أساس نسق التعليم القادم في ضوء الثورة الإلكترونية، بل مغزى هذا الإعلان أنه يلزمنا بتأسيس نسق تعليم يقوم على الثورة الإلكترونية، ومن غير هذا التأسيس تزج مصر وما يماثلها من دول، من مسار الحضارة الإنسانية.
القاهرة