الخوض في موضوع مثل الرسوم الدنماركية بدون “باقة” الخطابة المعتادة أشبه بالمشي على حبل فوق فوهة بركان في هذا الجزء من العالم. فعندما يستثار “المقدس” هنا تغيب كل العقول وتغشى الأبصار ويسود الجمعي على الفردي حتى يتم تفريغ الشحنة المركزة في مظاهرات وصراخ ومقالات وتنديدات ومقاطعات، و ربما بعض أعمال
العنف، لا تلبث أن تخبو بعد حين.
وبالطبع، فإن رجال السلطة والدين سيقفزون إلى حمّى المزاد في محاولة إثبات من هو أكثر أيمانا وحبا بالرسول أمام الجموع ، وهي فرصة ذهبية لإلهاء الجميع عن التردي اليومي وفقدان لقمة الخبز وأكوام المعضلات التي تواجه هذه الجموع يوميا التي تخلت عن الحلم بحياة كريمة منذ أبد بعيد، وباتت تحلم بالبقاء على قيد الحياة وحسب، وهو ما يحرص الأخوة الأعداء- رجال القصر ورجال المسجد- على استمراره . ثم يأتون إلينا بابتكارات مثل اقتراح قانون دولي لتجريم الإساءة للأديان، أو حوارات بين الأديان، أو توضيح الصورة المشوهة وإبراز تلك المضيئة للدين وما إلى ذلك.
والواقع يشير بأن كل ذلك هراء ومتاجرة، لأن المعضلة ليست في اختلاف الأديان، ولا في عدم وضوح الصورة، وإنما في مفهومين مختلفين ورؤيتين متناقضتين للعالم والإنسان والحياة والتاريخ والعقل والإيمان. ولا يعني ذلك بأن هنالك طرفاً محقاً وطرفاً مخطئاً، فالجميع على حق. المسلمون محقون في الاستياء والشعور بالإهانة مقابل أحقية الغربيين في الدفاع عن قيم حرية التعبير، ولذا لا مجال لحوار بين طرفين لا يفهم أحدهما البناء الفكري والثقافي للآخر ولا يسعى لذلك أصلا. وأتحدث هنا عن الإنسان العادي، أو كما نسميه رجل الشارع، وليس عن المتنطعين من الساسة أو رجال الدين أصحاب المصلحة والمشاريع العلنية والسرية، كما ظهر في اجتماع أصحاب المهنة المنقرضة في أغلب العالم المسماة بوزير الإعلام، الذين اتفقوا على تحريم المساس بالرموز الدينية والوطنية (وقد اقحمت الدينية إقحاما فالرمز هنا ليس بالضرورة رمزاً هناك)، والمقصود بالطبع هو عدم المساس بأصحاب الجلالة والسمو والسعادة والنيافة و الفخامة ولا بأس من إقحام بعض وعاظ السلاطين معهم بعد أن تجرأ البعض على استخدام الفضاء للمساس بأكثر الخطوط احمرارا في العالم العربي.
يتصور الفكر الديني العالم أجمع والإنسان والطبيعة في إطار محدد ومغلق عليه تحمّل عبء كل صغيرة وكبيرة في الحياة. فالصراعات العالمية صراعات بين المسلمين والمسيحيين (الصليبيين) واليهود، و كل ما خلا ذلك باطل. فالإنسان كائن ديني بالضرورة وهو بالتعريف مسلم أو مسيحي أو يهودي (كتابي) أو كافر (غير كتابي أو ملحد) قبل أن يكون إنسانا. ولذا فإن التحليل السلوكي للبشر في إطار الفكر الديني يتحدد فقط في هذا التعريف لأن الإنسان اللاديني لا وجود له. ولا يقتصر هذا على الإسلام فحسب بل هو إطار عام لجميع أصناف الفكر الديني منذ أن تطور من تفكير وتأمل فردي إلى مرحلة العقيدة الاجتماعية الشاملة ومنها إلى إيديولوجيا سياسية، حيث لم يشفع الإيمان بنفس الإله للآخرين من تهمة المروق وبات المتطرفون من سدنة هذه الأديان جميعا يحاولون إثبات أن اله الآخرين هو غير إلههم أو أن الآخرين قد حرفوا وشوهوا وغير ذلك من صنوف الجدل الذي يمكن تتبعه بسهولة عبر آلاف المطبوعات و لصفحات الإلكترونية المكرسة لإثبات صحة هذا وباطل ذاك. وبما أن كل دين يعتقد بأنه الحق الوحيد على الأرض وأن قبوله الهش بالآخرين إنما هو من قبيل “قيم التسامح فيه”، فإن هذه التربية الاجتماعية التي تحقن في الأطفال منذ الصغر عائليا ومدرسيا وإعلاميا تقطع كل سبيل لتفهم الآخر والتعامل معه. ولذا يأتي رد الفعل على الرسوم الدنماركية مشوبا برد فعل على المسيحية واليهودية، وعلى مواطنين عاديين لا ذنب لهم بالرسوم وغير معنيين بكل هذا الجدل. فالإنسان الفرد في نظر أبناء العقيدة الكليانية الشاملة لا وجود له. فهو بالضرورة عدو ما دام من مواطني ذلك البلد، ولا بد أن يكون مسيحيا أو يهوديا ولا بد أن يكون موافقا على هذه الإساءة، لأنه لا يمكن أن يكون إلا كذلك. ففكرة الاختيار الفكري الحر لا وجود لها في نظر هذا النوع من العقائد التي علّمت أبناءها أن الدين حقيقة عضوية تسري في الدم وليست فكرية. فحتى التزاوج مع الآخرين ممنوع، بل ويصل الاختلاف في المعتقد إلى درجة وصم الآخر بالنجاسة (وعندنا يحدث هذا حتى بين المذاهب ضمن الدين الواحد على بعض المستويات). وفي سياق احتكار الحقيقة (بما فيها احتكار الإله ذاته) تكاثر المتحدثون باسمها واسمه، فبات الكل وكيلا له ومقدسا بالنيابة عنه ومتحدثا باسمه، من الرئيس أو الملك نزولا الى الشرطي، ويبقى رجل الدين مانح صكوك الغفران للجميع ولذاته حاضرا على جميع المستويات. ولذا نثور ونعتقد بأن رئيس وزراء الدنمارك مثلا يمكنه رفع سماعة الهاتف والأمر باعتقال الناشرين أو الرسامين، كما يحدث عندنا تعتقلك عشرات “الأجهزة” بأمر اقل من أمر رئيس الوزراء بكثير.
هذه المعايير جعلتنا نصرخ بحق ارتداء الحجاب في الغرب ونمنع حق عدم ارتدائه عندنا حتى على غير المسلمات في بعض الدول. ونطالب بتجريم الإساءة للأديان دوليا ونلعنها يوميا على منابر المساجد، ولعلنا أكثر من سيقف أمام القضاء اذا تحقق هذا المشروع المستحيل. فمقياس الحقيقة عندنا واحد، يستوي فيه أبناء الفكر الديني وحتى أبناء الإيديولوجيات العلمانية (افتراضا) التي ترى من يتركها أو يختلف معها خائنا ومارقا يستحق القتل، كما هو حال المرتد عند الإخوة الإسلاميين الذين ربما كانوا أكثر “رحمة” في هذا الجانب على الأقل. فموقفنا من أية قضية في العالم يجب أن يكون جمعيا بالضرورة، فالرأي الفردي كفر ومروق وانحراف، وحق الاختلاف عبارة مجردة في كراسات ناشطي حقوق الإنسان التي لا يقرأها احد.
وعلى الطرف الآخر يقف الغربي، دنماركيا كان أم غير ذلك، الذي تربى على قيم حضارة مادية مختلفة، اصطدمت بالفكر الديني منذ قرون وحيّدته في إطاره المعتقدي والأخلاقي و جعلته اختيارا فرديا عوضا عن أن يكون معتقدا اجتماعيا شاملا. و تعلم أبناؤها عبر القرون، وبعد تضحيات ومساجلات بل وحروب مادية وفلسفية عديدة، أن الإنسان حرّ في اختيار عقيدته إلى أبعد الحدود في ظل قانون يضمن احترام الآخرين ومعتقداتهم. ومن هنا جاء رد فعل الكثيرين من الغربيين مستغربا من ردة الفعل الإسلامية ومشفوعا بسؤال لا يخلو من سذاجة وهو “لم لا يلجأ المسلمون إلى القضاء اذا رأوا بأن في الرسوم إساءة لمعتقداتهم؟”
أن تفهم هذا النمط من التفكير ليس بالأمر السهل في ظل ثقافتنا التي تعج بالثوابت وتقل فيها المتغيرات، ويتطلب تفهما كاملا للصراع الاقتصادي والاجتماعي والفلسفي الذي ساد أوروبا لقرون طويلة. ومن ذا، باستثناء المثقفين المستلبين والمهانين أصلا في مجتمعاتنا، تحمل أعباء مثل هذا البحث، ومن ذا الذي يتحمل الاستماع إلى جدل المثقفين في مجتمعات تقرأ بالكاد وتقمعهم شعبيا قبل أن يكون ذلك سلطويا؟ وأي قضاء ذلك في مجتمعات لا تجرؤ على صياغة قوانينها خوفا من الفردوس الذي ستفقده، والفردوس الأرضي الذي سيفقده الحاكمون ورجال الدين؟
تكمن المعضلة في إمكانية حوار هاتين الثقافتين في غياب القيم النسبية في أحداهما وتجاوز الأخرى للقيم المطلقة منذ زمن طويل. فالحوار، إن حدث وتم، سينجح بشرط واحد و هو تغليب قيم المصلحة المشتركة والمنفعة المتبادلة، وما عداه سيكون حرثا في الهواء.
وكما ذكرت سابقا، فإن الاستياء بل والغضب من الرسوم الدنماركية مشروع تماما في ظل الاعتزاز بالعقيدة ، كما أن إصرار الدنماركيين والغربيين عموما على التعبير عما يعتقدون مشروع تماما هو الآخر في ظل القيم الثقافية لكلا الكتلتين المتنافرتين. ولا حل لهذه المعضلة بحوارات الأديان. فالمسألة ليست مسألة اختلاف الأديان بل هو تضاد ثقافات نمت في ظروف تاريخية مختلفة تحتاج الى مزيد من الوقت لتتعايش. وكلما ازداد العنف، ازدادت التساؤلات وتوسع العداء الذي ربما يسعى إليه البعض لإثبات نبوءات “حتمية تصادم الأديان في آخر الزمان” وهم منتشرون بين أتباع “الديانات الثلاث الكبرى”، إذا صح التعبير الدارج رغم أن البوذية أكبر منهم جميعا. وهذا جورج بوش ذاته يتحدث عن يهودية دولة إسرائيل التي عجزت حتى الآن عن تثبيت هويتها بين العلمانية والدينية، مقدمة نموذجا محببا لأصحاب الدولة الدينية في بلادنا لتبرير نظرية صراع الأديان وتجاهل عوامل الاقتصاد والجغرافيا والتاريخ والمصلحة.
إنه صراع الإنسان الأبدي للبحث عن ذاته وغاية وجوده، في السماء تارة وفي الأرض تارة أخرى، وصراع على الموارد والثروات تحت راية الإله حينا وراية الايدولوجيا حينا آخر، في رحاب العلم مرة وفي كتب الدين مرة أخرى، في الانغلاق المطلق والحرية التي لا حدود لها، وهذا مطلوب وذاك لا بد منه للتوازن، فهذا هو الإنسان وتلك هي الحياة. ولأجل أن يكون ذلك التوازن صحيا ومتكافئا، لا مناص من الحلم الأصلي في عقول مبدعي كل الأفكار التي ظهرت على وجه هذه الأرض وهي الحرية لا غيرها، فهي التي تصنع الخبز والآلة والحياة المتجددة دوما.
skhalis@yahoo.com
* كاتب عراقي
نحن وهم.. مقاربة للمسألة الدنماركيةكلمة حزن في مقتل المطران “بولص رحو” على أيدي إرهابيين مسلمين مجرمين أيّها الأوباشُ يا شعبَ الجرائمْ فيكمُ الشيطانُ من تحتِ العمائمْ اقتلونا, احرقونا, أصلبونا لن نعادي, إنّنا جمعُ الحمائمْ! هل لكمْ دينٌ و أخلاقٌ و عِرضٌ؟ فعلُكم فعلٌ على الإرهابِ قائمْ. ما الذي مِنْ قتلِ مطرانٍ جنيتمْ هل أقمتمْ للعلا مجدَ الولائمْ؟ ربّما زالتْ كروبٌ عن قلوبٍ سادتِ الأحقادُ فيها و الغنائمْ يا ذئابَ الكونِ, أولادَ الأفاعي يا طغاةَ العصرِ يا شعبَ الغمائمْ اقتلوا. فالقتلُ موروثٌ لديكمْ لم يكنْ جدٌّ لكم عن قتلِ صائمْ لن تروا عزّاً و لا مجداً و فوزاً بل ترونَ الذلّ,… قراءة المزيد ..
نحن وهم.. مقاربة للمسألة الدنماركية
من أين أتيت بهذا عندما قلتَ: “فمقياس الحقيقة عندنا واحد، يستوي فيه أبناء الفكر الديني وحتى أبناء الإيديولوجيات العلمانية (افتراضا) التي ترى من يتركها أو يختلف معها خائنا ومارقا يستحق القتل، كما هو حال المرتد عند الإخوة الإسلاميين الذين ربما كانوا أكثر “رحمة” في هذا الجانب على الأقل.” من هم هؤلاء العلمانيون الذين يعتبرون من يختلف معهم خائناً ومارقاً ؟؟؟ عمن تتحدث؟؟
نحن وهم.. مقاربة للمسألة الدنماركيةنقطة النحول في تاريخ اليابان خالص جلبي – نحن لا نستوعب حتى الآن أن أعظم مصيبة هي ملامح (انهيار المناعة الداخلي) عندنا، بما يذكر بمرض نقص المناعة الكسبي “الإيدز” AIDS، وأن أعظم تحد أمامنا هو الانهيار الداخلي. وحاليا تنذر إسرائيل شعبها مع شتاء 2008م في الاستعداد لاحتمال ضرب زلزال المنطقة، ويفرح بعض العرب؛ فلعل الله يزيل بالزلزال إسرائيل، ولكن لو خسف الله الأرض بإسرائيل فستبقى مشكلاتنا عالقة. وحاليا فإن فتح وحماس تتقاتلان بكل حماس!! شهد لهذا معارك صفين الحديثة على رمال الخليج عندما نسينا إسرائيل وانشغلنا ببعض، ومازال أمامنا المزيد من معارك صفين أخرى حتى يرسو… قراءة المزيد ..