ما يحدث الآن في قطاع غزة، ومنذ انسحبت منها إسرائيل، مثال واضح يفضح ما فعلنا بأنفسنا، فالاقتتال الداخلي بين أخوة الوطن، البؤساء بالاحتلال والبؤساء بمردود ثقافتهم، أكبر وأخطر من أن يكون نتيجة اختلاف في وجهات النظر بين فرقاء، أو يكون راجعاً لغياب سلطة مركزية قوية، أو حتى ما يسمونه فوضى السلاح، هو كل ذلك بالقطع، لكن الأخطر في الأمر، والذي تفشل في التغلب عليه لقاءات ثنائية بين الأطراف، أو لقاءات برعاية طرف ثالث، في غزة أو مكة أو القاهرة، أو حتى مؤتمرات القمة العربية الفلكلورية،
هو أن ذلك الاقتتال من الجميع ضد الجميع وقوده الأساسي هو التركيبة العقلية والسيكولوجية التي صار عليها الشعب الفلسطيني، كنتيجة طبيعية للخطاب العدائي التحريضي السائد، والذي تبنته كافة الاتجاهات والفصائل الفلسطينية، الدينية والقومية الثورية واليسارية، خطاب استهدف زرع الكراهية وخيار اللجوء للعنف والاستمتاع بسفك الدماء، وكان بالأساس موجهاً ضد ما سمي بالعدو الإسرائيلي، وقام ذلك الخطاب باستئصال كل احتمال أو ميل للتفاهم العقلاني، أو اللجوء للنقاش والحوار والتفاوض، أي ما يسمى بالحلول السلمية، وتم رفع شعار “التمسك بخيار المقاومة”، مع أن التمسك يكون بالأهداف وليس بالوسائل، والمقاومة (المقصود بها المسلحة) لا يمكن أن تكون لدى شعوب سوية سيكولوجياً وثقافياً هي خيار وحيد لتحقيق أهدافها ولا تقبل استبداله، وينطبق هذا على أهداف الإنسان الفرد، كما ينطبق على الأهداف الجماعية الوطنية، وربما هي حالة وحيدة مرصودة للتوحيد بين الغاية والوسيلة على خيار العنف، وتحدث حين يتملك الإنسان روح الانتقام، بحيث تستحوذ عليه تماماً، وهي ثيمة صورتها لنا الرواية العالمية “الكونت دي مونت كريستو”، وتناولتها عدة معالجات لأفلام وروايات عربية، وجميعها تنتهي بنهاية مأساوية لأمير الانتقام، الذي أضاع الظلمُ الجزءَ الأول من حياته، وأضاعت الكراهية وشهوة الانتقام ما تبقى منها.
وقد تمكنت ثقافة وسيكولوجية العنف من تملك الشعب الفلسطيني لسببين، أولهما أن خطاب العنف قد نجح في التواجد وحده بالساحة، التي خلت من أي خطاب مغاير، حيث لجأ أو اضطر أصحاب الفكر العقلاني إلى التواري يأساً، أو حفاظاً على السلامة الشخصية والأسرية، في خضم طوفان هوى العنف الذي راح يكتسح كل ما أمامه، والثاني أن خطاب العنف السائد -والذي يشكل الخطاب الديني أغلبه- لم يكن خطاب وسيلة تسعى إلى غاية هي تحرير الوطن مثلاً، وإنما كان خطاب عنف وقتل مقدس باسم الجهاد، وهو ما اعتبرت أدبيات العنف أنه فريضة كانت غائبة، وينبغي على كل مؤمن أداؤها، كما ورد مثلاً في كتاب عبد السلام فرج “الفريضة الغائبة”، والذي يعد مرجعاً لفقه الجهاد منذ سبعينات القرن الماضي، وهو ما ترجم بلغة سياسية بشعار أن الصراع العربي الإسرائيلي هو “صراع وجود لا صراع حدود”، وكان التطبيق العملي له ما سمي بالعمليات الاستشهادية، لقتل المدنيين الإسرائيليين، وتحول العداء من عداء للصهيونية، إلى العداء لليهود أولاد القردة والخنازير!!
ربما لم ينتبه أحد –وأين نجد من ينتبه في غياب العقل والعقلانية- أنك إن انتزعت من الفرد أو المجموع ثقافة استخدام العقل والحوار السلمي، واستبدلتها بثقافة العنف وقتل المختلف، فإنك لن تستطيع بعد التحكم فيها وتوجيهها للتوظف ضد جهة محددة وحيدة، هي ما سميناها بداية بالعدو الصهيوني الذي يحتل الأرض المقدسة، فالعنف والكراهية عاطفة تستشري كالنار في نفسية من تتمكن منه، فتحرق كل ما حولها، وأول ما تحرق نور العقل، فيفقد الإنسان توازنه الطبيعي، والمؤسس على التوازن بين نوازع المسالمة والمهادنة، مع نوازع الغضب المحرض على العنف، واختلال هذا التوازن لصالح أي من الطرفين المتناقضين، إلى حد أن يستأصل أحدهما الآخر تماماً، ينتج إنساناً مشوهاً، فهو إما أن ينتج وحشاً ضارياً، أو كياناً ضعيفاً وخاملاً، غير قادر أو راغب في الدفاع عن نفسه.
هكذا رأينا وباركنا نيران العنف والكراهية وهي تمتد من العدو الصهيوني، لتطال كل من يصادقه أو يساعده، حتى لو كان يساعدنا نحن أيضاً، ونعتمد عليه في كل شيء من الدواء إلى الغذاء، فامتد عنفنا وكراهيتنا إلى أمريكا وإنجلترا وسائر العالم الغربي، وأمامنا صحفي البي. بي. سي. مازال أسير منظماتنا المجاهدة أو المناضلة سيان، وتكون النتيجة الطبيعية لسيادة ثقافة وسيكولوجية العنف وتمددها، هو ما نراه واستعصى وسيستعصي على كل محاولات الاحتواء، من عنف بين الأخوة، الذين نتفق جميعاً أنهم بؤساء بكل المقاييس.
ربما حالة الأراضي الفلسطينية هي الأكثر تفاقماً في هذا الشأن، ولا غرو فهي الحالة التي نجح فيها خطاب العنف والكراهية في التوطن منفرداً، بصورة شبه مطلقة، أو هذا على الأقل ما يبدو لنا حتى الآن، لكننا نستطيع أن نضرب أمثلة مماثلة من كل أرجاء ما يسمى بالشرق الأوسط الكبير، منها ما يحدث في العراق بين السنة والشيعة والبعثيين، جراء تأثير الخطاب البعثي الصدامي، الذي دام حوالي خمسة وثلاثين عاماً، وما رأيناه أخيراً من اقتتال بين أخوة القتل والذبح من عملاء القاعدة والفلول الصدامية وما يسمى كتائب ثورة العشرين، وقبلها عاصرنا الاقتتال المرير بين فصائل الجهاد الأفغانية، والتي من المفترض أن عنفها كان موجهاً ضد الاحتلال السوفيتي لأفغانستان، كما رأينا العناصر العائدة من ذات الجهاد المقدس، والتي انتشرت، حاملة رسالة القتل والعنف إلى أوطانها الأصلية، وإلى كل أنحاء العالم.
هنالك آلاف أخرى من الأمثلة، تبدو للوهلة الأولى أقل أهمية وحدة في درجة العنف، لكنها فيما نظن هي الأكثر خطورة، لأنها تشير لامتداد ثقافة وسيكولوجية العنف ورفض النقاش أو استبعاد اللجوء إليه، وذلك بين الناس العاديين وفي حياتهم اليومية، ولنأخذ مثلاً المجتمع المصري، الذي يحيا كاتب تلك السطور في قلبه، فرغم أن هناك عوامل موضوعية عديدة تشير إلى أن المجتمع المصري هو الأبعد بين شعوب المنطقة عن القابلية للتأثر بثقافة وسيكولوجية العنف والكراهية، إلا أن إلحاح ذلك الخطاب عليه، عبر كافة وسائل الإعلام الناصرية الجهنمية، بداية من منتصف القرن الماضي، آخذاً صورة الخطاب القومي المعادي للاستعمار وأعوان الاستعمار والصهيونية العالمية، وداخلياً معاداة الإقطاع والرأسمالية وأعداء الشعب والاشتراكية، ثم من سبعينات القرن بدأ تنامي وتوحش خطاب العنف الديني، أو ما ألبس بواسطة ذلك الخطاب مفهوم الجهاد، الذي جاء ضد اليهود والنصارى والكفار جميعاً، بما فيهم من هم مثل د. الذهبي أول ضحايا التكفير بمصر، لتكون النتيجة المريرة هي ما نجنيه الآن في حياة المصريين اليومية، من ظاهرة تحول أي مناقشة بين طرفين ولأقل اختلاف، إلى صدام تعلو فيه الأصوات، وقد تشتبك الأيدي، وما يترتب على ذلك في مجال الأعمال من فشل لعمل الفريق TEAM WORK، فما أن يظهر أقل اختلاف في الرؤى حتى يلجأ كل طرف إلى مخزونه الثقافي والسيكولوجي لمعالجة الاختلاف، وهو ما يقوده تلقائياً إلى العنف بمختلف درجاته.
نستطيع أن نرى تلك النتائج أيضاً فيما أصبح ظاهرة في الأحزاب السياسية المصرية، التي تنادي ليل نهار بالديموقراطية، ثم نجد الاختلافات بين رموزها تقود إلى العنف، الذي قد يصل إلى إطلاق النار، كما حدث أخيراً في حزب الوفد، أعرق الأحزاب المصرية تاريخاً وليبرالية، وتابعت مصر كلها، وربما تابع العالم معها مشكلة المحامي الشهير والرئيس السابق للنادي الرياضي الكبير، والممتلئ سجله بقضايا العنف الكلامي واليدوي، وآخرها اتهام له بخلع حذائه في مقصورة استاد القاهرة ليضرب به بعضهم، ثم حكم عليه بثلاث سنوات سجن لتعديه على رئيس مجلس الدولة، ثم أخيراً الحادثة غير المسبوقة في تاريخ مصر، والتي حطمت فيها الجماهير مبنى محكمة، واعتدت بالضرب على القضاة والإعلاميين، لأن حكم المحكمة لم يأت على هواهم، فالجانب الأبسط من هذه الظاهرة هو سقوط هيبة الدولة، لكن الأخطر هو تنامي العنف لدى الجماهير إلى هذه الدرجة.
العنف بالطبع موجود في كل زمان ومكان، لكننا بصدد تنامي العنف بصورة ملفتة، إن لم نقل تزايده بمعدل كارثي، وهذه في اعتقادنا هي الثمار التي نجنيها جراء ما زرعنا من أشواك طوال أكثر من نصف قرن.
إن أزمة المنطقة ليست في حجم خلافاتها في وجهات النظر أو في اختلافات مصالحها مع جيرانها أو مع العالم، فهذه وتلك يمكن أن يجد لها العقل والحوار حلولاً كلية أو جزئية، مرضية تماماً أو يمكن قبولها أو حتى يمكن تحملها، لكن الأزمة الحقيقية هي أن شعوب المنطقة بحاجة إعادة تأهيل سيكولوجي وثقافي، لابد وأن يسبقه وقف خطاب العنف والتحريض والكراهية، بكل ألوانه وتصنيفاته، لكن هل يمكن أن يحدث هذا، وقد نشبت نيران الكراهية في الشجر والحجر؟!!
kamghobrial@yahoo.com
(الرسم للفنّان الفلسطيني محمد سباعنة)