قبل أن أزور الولايات المتحدة الأمريكية قبل عامين، كنت أختزلها في شعار جاهز: “الليبرالية المتوحشة”. كان هذا التوصيف اليساريّ يروقُ للإسلاميين ما دام يوحي بـ«توحّش الآخر»، ويُريحُ السلطة ما دام يُبخِّس مثالَ الحضارة المعاصرة، ويدفع بعض النُّخب إلى التسليم بالخوصَصة (الخَصخصة) التي بدأت فعليًّا مع حكومة الاشتراكيين/التناوب ذاتها، وسط مقاومةٍ لم تتّخذ طابعًا اجتماعيًّا واسعًا بقدر ما غلبت عليها المزايدات الأصولية.
كانت صدمتي -وهي صدمةٌ مخجلة- حين اكتشفتُ أن خَوصَصة (خَصخصة) التعليم في أمريكا نادرةٌ في أسلاك الابتدائي والإعدادي والثانوي؛ بل نادرةٌ جدًّا.
التعليم العمومي يُهَيمن هناك على نحوٍ شبه كامل: في فخامة البنايات، وكفاءة هيئات التدريس، وجُودة المناهج، وغنى الأنشطة الفنية والرياضية. أما التعليم الخصوصي فغالبًا ما يقتصر على مدارسَ تابعةٍ لطوائفَ دينيةٍ مُنغلقة، ونادرًا ما تجد مسؤولًا عموميًّا (وزيرًا كان أو عمدةً أو رئيسَ بلدية أو مديرا لأي مؤسسة عمومية) يلجأ إلى الخصوصي.
عندما يتعلّق الأمرُ بتعليم الأطفال إلى حدود سنّ الثامنة عشرة (البكالوريا)، فإن الدولة التي كنا نُسمّيها باستخفاف «الليبرالية المتوحشة» لا تسمح للقطاع الخاص بأن يتحكّم في مصائر التلاميذ أو يتلاعبَ بتربيتهم. وعلى المنوالِ نفسِه، في قطاع الصحّة (مهما يكن حضور القطاع الخاص) فإن كلَّ طفلٍ أمريكيٍّ، لمجرّد أنه طفلٌ يتابع دراسته، يستفيد من علاجٍ مجانيٍّ بمعاييرَ طبيّة رفيعة.
هناك، أدركتُ حجم الجهل الذي كنتُ أحمله معي. فقلتُ لنفسي:
نحن جيلٌ كان يقرأ كثيرًا بالفعل، لكنّه لم يمتلك المعرفة الكافية بالعالم؛ ولذلك كان يسهل خداعه.
لماذا نحتاج إلى « نيتشه »؟
