البداوي (شمال لبنان) – ناجية الحصري
العثور على عائلات نزحت للتو من مخيم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين الى مخيم البداوي في شمال لبنان، ليس سهلاً. على رغم أن آلاف النازحين مع اطفالهم تفيض بهم البيوت والمدارس الى الازقة حيث يجلس الرجال منهم على الارصفة يتأملون الفراغ.
حركة ناشطة لسيارات تابعة لمنظمات الامم المتحدة تعبر مسرعة في شوارع المخيم الى مكاتب «الاونروا»، ونساء يلبسن عباءات ملونة كساها الغبار يجررن خلفهن اطفالاً يسألن عن مراكز تسجل اسماءهن للحصول على مساعدات من كل الانواع، وشاحنات صغيرة أخرى تمر محملة بوجبات طعام يومية الى النازحين يلهث خلفها الفتية للحصول على حصتهم.
في بعض مدارس البداوي الرسمية التي فتحت ابوابها امام النازحين، كشافة وحزبيون ومسؤولون في جمعيات وهيئات اغاثة ومنهم من الهلال الاحمر القطري والاماراتي يجتمعون يقوّمون اوضاعاً غير ثابتة، لا في الارقام ولا في الحاجات، وعائلات حشرت نفسها في غرف ضاقت بها، لم تحمل معها عند النزرح شيئاً، وكميات فرش اسفنج تكدست عند المداخل تنتظر التوزيع.
اهل مخيم البداوي يعرفون بعضهم بعضاً بدقة لكن احوالهم تغيرت مع نزوح «شركاء لهم في اللجوء» الى مخيمهم، ويزيد من قلقهم ان ثمة بياناً وزع باسم «فتح الاسلام» ليل اول من امس، وان بشكل محدود في المخيم يحذر من توسيع رقعة المواجهة، ولا يدرون اذا كان ثمة «خلايا نائمة» للتنظيم في مخيمهم وهم كانوا اول من طالب برحيله عن المخيم قبل 11 شهراً بعد صدام مسلح، خصوصاً انه يتردد ان ثمة مريدين كثراً لهذا التنظيم من اناس محظور عمل تنظيماتهم في مخيم البداوي.
تجلس الحاجة زهرة اليوسف على حصيرة من البلاستيك هي كل ما في الغرفة من اثاث في منزل قدمه «ابو يوسف» حمدان لعائلة زهرة التي صمدت حتى بعد ظهر اول من امس في مخيم نهر البارد وفقدت القدرة على الاحتمال من شدة القصف الذي يشهده المخيم والخطر الذي بات يهددها كل لحظة، فخرجت من المخيم على عجل مع جيرانها عائلة رزوق المؤلفة من 35 نفراً ايضاً في سيارات تابعة للهلال الاحمر الذي كان نقل خبزاً الى المخيم. تتطلع الحاجة زهرة، التي عايشت ايام النكبة، الى نور الشمس الذي يغطي فضاء الغرفة وتقول: «هذه المرة الاولى منذ اكثر من اسبوعين ارى فيها الشمس، كنا نختبئ في الحمام ونهرب من غرفة الى اخرى نعتقد بأنها اكثر أمناً كلما اشتد القصف»، ويقاطعها ابن شقيقها عصام ليقول: «عند الثانية بعد الظهر كان الظلام يهبط لان الكهرباء مقطوعة ودخان الحرائق يغطي السماء فنشعل شمعة لنغالب العتمة».
ينحشر في المنزل المؤلف من غرفتين ومنافعهما 35 فرداً من عائلة اليوسف، فهم جمعوا بعضهم بعضاً اخوة واعماماً واولاد عم وابناء وأحفاداً في منزل يقع وسط المخيم منذ اليوم الاول لبدء الاشتباكات بين تنظيم «فتح الاسلام» والجيش وظنوا ان عملية القضاء على «شلعوطين» لن تستغرق اكثر من يومين، فاذا بهم يحاصرون فيه عشرين يوماً.
ويقدر عصام اليوسف عدد المدنيين الذين لا يزالون في المخيم بنحو 5 آلاف «ويمكن تقدير العدد من لحظة وصول سيارات الاسعاف التي تحمل الخبز ومياه الشفة الى المخيم اذ يندفع الآلاف الى المكان لأنها المصدر الوحيد للتزود بالطعام»، وتروي زوجته «ان أياماً مرت علينا كنا نزيل فيها العفن عن الخبز المتبقي لدينا لنتمكن من اكله قبل ان يسمح بدخول سيارات الاغاثة الى المخيم».
عصام اوقف لحظة خروجه من المخيم على حاجز الجيش مع اولاده الشبان واولاد اعمامه الذكور للتحقيق معهم قبل اطلاق معظمهم، ولا يزال قيد التحقيق في ثكنة القبة الشاب ماهر زهير الكوسى (26 سنة) وهو يحمل الجنسية السورية وشاب اخر فلسطيني، وتروي والدة ماهر وهي فلسطينية أنها مطلقة من سوري قبل 22 سنة ولها منه ابنها الوحيد ماهر وكانت اصدرت له ترخيصاً من الجيش للسماح له بالعيش معها في المخيم والتنقل على ابوابه من معبر العبدة «وهو لم يتركني لحظة وفضل البقاء معي حتى في ظل القصف».
سر بقاء المدنيين في المخيم يرده الخارجون منه الى خوفهم على ارزاقهم، ويقول فادي (30 سنة) انه كان من المقرر ان يحتفل بزواجه بعد اسبوعين وفضل البقاء في المخيم للحفاظ على الشقة التي جهزها من جنى العمر وتقع على خط البحر عند المدخل الشمالي للمخيم لكنها، كما أُخبر لاحقاً بعد خروجه من المخيم الثلثاء الماضي، دمرت بالكامل.
يفضل النازحون الجدد من المخيم عدم الادلاء بتفاصيل عن عناصر «فتح الاسلام»، تارة لأنهم لا يعرفون الكثير، وتارة اخرى «لان هؤلاء كانوا مسلحين وكان علينا ان نسايرهم خشية سلطتهم».
لكن النازحين يجمعون على ان مقاتلي هذا التنظيم غالبيتهم من السوريين وتحديداً من حماه وحلب، ومعهم لبنانيون وسعوديون ويمنيون ومغاربة وعراقيون، يرتدون الجلاليب وملثمون ومزودون بكل انواع السلاح حتى المطارق واقنعة الغاز. ويقول عصام وهو يملك محلاً لتصوير حفلات الافراح في عكار: «عندما كانوا يحاولون خلال القصف الذي يستهدفهم التوغل الى محيط منازلنا كنا نطردهم فينسحبون ولا يجادلون».
ويتحدث كثر ممن كانوا على احتكاك معهم عن انهم كانوا ينفقون المال من دون مجادلة وحاولوا على مدى سنتين التقرب من الشبان والاولاد بحجة تعليمهم الدين. ويروي احد النازحين الذي رفض ذكر اسمه «ان مقاتلي «فتح الاسلام» جاؤوا الى المخيم تحت غطاء «فتح الانتفاضة» ولم يتجاوز عددهم في ذلك الحين الـ40 شخصاً واستقروا في مراكزها في مركز «صامد» والتعاونية تحديداً، وهما مكانان يضمان ترسانة من السلاح المخزن تحت الارض، وبعد ايام على حرب تموز (يوليو) رفعوا راية «فتح الاسلام» وازالوا راية «فتح الانتفاضة»، ولم نكن نراهم، كانوا يحتجبون نهاراً وينشطون ليلاً فيظهرون بسلاحهم عند مداخل مراكزهم، وحاولوا التقرب من الناس فصاهروا عائلات لكن سرعان ما طلبت نساء الطلاق بسبب تشدد هؤلاء الذين فرضوا عليهم النقاب، وصاروا يكفّرون الناس ويمنعون الموسيقى وحتى التلفزيون وانتقدوا الشبان الذين كانوا يضعون «الجل» على شعورهم. ويضيف نازح آخر ان عناصر هذا التنظيم «راحوا يتكاثرون من حيث لا ندري بعضهم كان يأتي سائحاً الى المخيم لا سيما العرب منهم وكانوا يعبرون على الحواجز الامنية اللبنانية ولا ندري ماذا كانوا يفعلون بعد ذلك».
ويشير شاب كان تابع عرضاً عسكرياً لـ «فتح الاسلام» عند البحر الى ان احدهم تمكن من ان يقفز من على دراجة نارية كانت تسير بسرعة قصوى ويطلق النار على هدف في البحر ويصيبه، في دلالة الى تدريبات عسكرية متفوقة خضعوا اليها. ويقول: «اجسادهم نحيلة ويبدون في مقتبل العمر وهم متعلمون جداً بينهم خريجو جامعات وحملة البكالوريا»، ويشير الى ان المقاتلين الذين يصابون منهم خلال الاشتباكات الدائرة حالياً يطببون انفسهم بانفسهم اذ يبدو ان ثمة اطباء بينهم او ممرضين.
لا يخفي النازحون من مخيم نهر البارد كرههم لمقاتلي «فتح الاسلام» بسبب الكوارث التي حلت عليهم نتيجة الاشتباكات الدائرة مع الجيش اللبناني، خصوصاً ان هؤلاء المقاتلين بحسب تقديرات النازحين مصرون على القتال حتى الموت، لكنهم ينتقدون في الوقت نفسه القصف «العشوائي» الذي يستهدف المخيم براً وبحراً وجوا، فالدمار بحسب مشاهدات هؤلاء تجاوز رقعة تمركز «فتح الاسلام» الى وسط المخيم، وطاول مسجد الحاووز الذي كان يؤدي فيه السكان صلاة الجمعة الاسبوع الماضي ويتحدثون ايضاً عن استهداف شاحنة تابعة لوكالة «اونروا» في الاسبوع الاول من الاشتباكات، حيث قضى شخصان كانا على متنها يوزعان الخبز واحدهما يدعى عدي اسماعيل وقطعت رجل السائق اشرف عقل.
ويصف نازحون دماراً هائلاً حل بالابنية في المخيم الجديد، ويستبعدون ان يكون احد قادراً على الوصول الى منطقة التعاونية او الخان او مركز صامد لان هناك بحسب تعبير احدهم «نار جهنم»، ويشيرون الى ان الزواريب التي تؤدي الى المخيم القديم (الوسط) مقطوعة بسبب الردم والانقاض، اما الوصول الى الطريق العام فمستحيل بسبب القنص، ويرددون معلومات قيلت لهم إن حي الصفوري دمر بالكامل وحي المهجرين وبناء المقدس ومحيط الخان، واصاب القصف مساجد الجليل والقدس(محور) وفلسطين وخالد بن الوليد (محور) الى جانب الحاووز.
ويتحدث نازحون عن وجود عناصر لحركة «فتح» في المخيم يمنعون مسلحي «فتح الاسلام» من التسلل الى المخيم القديم «لكنهم لا يتصادمون معهم بل انهم ينسقون مع الجيش اللبناني».
هواجس كثيرة تقلق اهل مخيم نهر البارد اكثرها تردداً «الخوف من عدم العودة الى منازلنا»، وهواجس اخرى تقلق الحزبيين منهم ابرزها «لمن سيكون النفوذ في المخيم بعد العودة؟». ويعتقد كثر ان «فتح تحاول تثبيت اقدامها في المخيم منذ اللحظة، بعدما تجردت من قوتها في ظل النفوذ السوري في لبنان. ويبقى الهاجس الاكبر كيفية التخلص من «فتح الاسلام» بأقل الاثمان ولا يخشون ان يكون الثمن خسارة العلاقة مع الجوار اللبناني.
الحياة