كلام الصورة: العلمانية كلمة يعرّفها الناس بطرق مختلفة. أما بالنسبة لي فتعريفها بسيط جداً: الهند أولاً.
*
تدهشك الهند دوما. ليس بسحرها الشرقي وتلاوين عاداتها وطقوسها الغريبة، وليس بتاريخها وتراثها السحيق كواحدة من أعرق حضارات العالم فحسب وإنما أيضا بما تفرزه إنتخاباتها التشريعية كل خمس سنوات. وإذا كان العرب قد اندهشوا يوم أن آلت رئاسة جمهورية الهند إلى “أبوبكر زين العابدين عبدالكلام” بسبب تسلقه سلالم المجد من بائع فقير للجرائد على أرصفة ميناء مدراس إلى عالم للصواريخ الباليسية والرؤوس النووية، ثم اندهشوا مرة أخرى وهم يرون “لي ميونغ باك” بائع الآيسكريم وجامع القمامة السابق يصبح رئيسا لكوريا الجنوبية، فمن باب أولى أن يندهشوا اليوم وهم يرون “ناريندرا مودي” يتأهب لقيادة كبرى ديمقراطيات العالم بعدما نجح في قيادة التحالف القومي الديمقراطي في الهند بزعامة “بهاراتيا جاناتا” إلى فوز ساحق على غريمه حزب المؤتمر في الانتخابات التشريعية الأخيرة، أي على نحو ما توقعناه في مقالات سابقة.
تعالوا نتجول في السيرة الذاتية لـ”مودي” لنكتشف كم عانى الرجل حتى بلغ موقع القرار الأعلى في بلاده المثقلة بالمشاكل، لكنها المتحركة إلى الأمام بخطى وثابة.
ولد “ناريندرا دامودرداس مودي” في 17 سبتمبر 1950 لعائلة من بلدة “فادناغار” التابعة لما كان يُعرف وقتذاك بولاية بومباي ــ غوجرات حاليا ــ وكان هو الإبن الثالث ضمن ستة أطفال ولدوا للبقال “دامودارداس مودي” وزوجته “هيرابن” التي لا تزال على قيد الحياة ويحرص إبنها مودي ــ رغم كل أعبائه السياسية ــ على زيارتها وإطعامها وغسلها بنفسه في صورة تعكس مدى إحترام وتقديس الفرد الهندي لأمه.
في فترة صباه عمل مودي كمساعد لوالده في كشك لبيع الشاي كان يملكه الأخير على رصيف الخط الحديدي المار ببلدته “فادناغار”، لكنه في فترة مراهقته فضل أن يستقل عن والده فاشترك مع شقيقه في ملكية وإدارة كافتيريا للشاي بالقرب من المحطة الرئيسية للحافلات في بلدتهما، حيث كان مودي يحمل في إحدى يديه إبريقا معدنيا ضخما من “شاي الكرك” المطبوخ بالهال والقرفة والزنجبيل، وفي اليد الأخرى الأكواب الزجاجية ويدور بهما داخل الحافلة على الركاب.
لم يشغله العمل في هذه المهنة المتواضعة، لكن ذات المردود الجيد نسبيا ، عن الدراسة. إذ كان ينظم وقته ما بين العمل والذهاب إلى مدرسته في بلدة “فادناغار” حيث يقول من تبقوا على الحياة من مدرسيه في تلك الفترة أنه كان طالبا عاديا لكنه كان خطيبا مفوها وصاحب شغف بالتمثيل والمسرح، وهما الموهبتان اللتان استخدمها لاحقا بصورة جيده في دغدغة عواطف الجماهير واستمالتها حينما قرر اقتحام دنيا السياسة. وبعد أن أنهى دراسته الأولية، نجح بشق الأنفس في تدبير مصاريف دراسته الجامعية إلى أن نال درجة البكالوريوس.
تزوج مودي في السابعة عشرة من عمره زواجا تقليديا، حيث اختارت له أمه فتاة من بلدة “براهامانوادا” المجاورة هي “جاشودابن تشيمانلال” التي زعمت في أحاديث لها أن مودي لم يكن يعاشرها معاشرة الأزواج وكانا في شبه إنفصال تقريبا.
ويبدو أن الفقر وقسوة الحياة والأعباء العائلية الكثيرة دفعت الرجل إلى طلب أي وظيفة يقتات منها، فكان قبوله لوظيفة مسئول عن إدارة مركز التسوق الخاص بموظفي مؤسسة الطرق والنقل في غوجرات، حيث ظل يكدح في هذه المهنة حتى رأى أن الطريق معبد أمامه ليخوض غمار المعترك السياسي. وكانت البداية في 1970 حينما أختير كمنسق حملات بدوام كامل لجماعة “راشتريا سواساميفيك سانغ”، وهي جماعة هندوسية يمينية شبه عسكرية تأسست في 1925 وتعتمد على التطوع الذاتي بهدف حماية “قيم الأمة الهندوسية”. وبعد أن نال مودي بعض الدورات الضرورية للصعود إلى مناصب المسئولية الرسمية في حركة “سانغ باريفار” وهي عبارة عن إئتلاف يجمع كل التنظيمات القومية الهندوسية، أعطيت لمودي مسئولة إدارة الجناح الطلابي في الحركة. تلك الوظيفة التي أبلى فيها بلاء حسنا فجعلت أنظار رؤسائه تتجه إليه وتحيطه بالرعاية إلى أن مكنوه من الوصول أولا إلى مناصب قيادية في إئتلاف بهاراتيا جاناتا، ثم مكنوه عبر الانتخابات الشعبية من الوصول إلى سدة الحكم كرئيس وزراء لحكومة غوجرات المحلية في 2001 . ومنذ ذلك العام ظل مودي يفوز في كل إنتخاب يُجرى في ولايته، ضاربا الرقم القياسي لجهة البقاء على رأس السلطة المحلية فيها. والملاحظ في هذا السياق أن الرجل بعدما حقق هذا النجاح وحافظ عليه لم يهمل عملية الإرتقاء بنفسه علميا. كان يمكنه مثلا أن يشترى أو يطلب لنفسه شهادة علمية ــ كما يفعل الكثيرون في دول العالم الثالث ــ كي يكون على قدم المساواة مع غريمه رئيس الحكومة المنتهية ولايته البروفسور “مانموهان سينغ”، لكنه آثر أن يلتحق بجامعة ولاية غوجرات ويخصص وقتا للدراسة والبحث كأي طالب إلى أن حصل على درجة الماجستير.
ويمكن القول أن أسباب الفوز المتكرر لمودي في إنتخابات غوجرات المحلية هي نفسها الأسباب التي مكنته من الفوز مؤخرا بقيادة الهند على حساب حزب المؤتمر بقيادة سونيا غاندي التي إرتضت حكم الشعب واعترفت بهزيمتها وتحملت مسئولية الإخفاق. من هذه الأسباب أن مودي حقق في ولايته إنجازات إقتصادية مشهودة إنعكست نتائجها إيجابا على مستوى المعيشة والخدمات ومعدلات الاستثمار والنمو، وهذا ما تحتاجه الهند اليوم من بعد ولايتين لحزب المؤتمر شهدتا تراجعا اقتصاديا ملموسا، خصوصا وأن مودي يروج لنموذجه الاقتصادي الخاص المستمد إلى حد ما من النموذج الاقتصادي الصيني. فهو يرى أن ما تحقق في الصين ــ وبالتالي يجب أن يتحقق أكثر منه في الهند، التي تمتلك من القوة الناعمة مالا تمتلكه الصين ــ يستدعي قرارات مركزية صارمة ضد الفساد والتلاعب والجرائم الاقتصادية، وأخرى سريعة للتعامل مع قضايا الإرتقاء بالتعليم والخدمات والبنية التحتية والتنمية الريفية. لكن نموذج مودي يختلف عن النموذج الصيني في قضيتين هما: تشجيع الخصخصة، وعدم التهيب من العولمة، إضافة إلى تمسكه بقيم الحرية والتعددية المنصوص عليها في الدستور. ومن العوامل الأخرى التي مكنته من السلطة تعويل الناخب الهندي عليه للقيام بثورة إدارية تقضي على التسيب والبيروقراطية والرشوة. حيث أنه معروف بأنه إداري وإقتصادي من الدرجة الأولى، ومجبول على حب العمل، ومنصرف عن الملذات ومباهج الحياة، ويخلو سجله من الفساد والافساد.
وبطبيعة الحال هناك من الهنود ــ تحديدا المسلمون ــ من يتخوف من وجود مودي في السلطة بسبب ما قيل عن عدم تدخله لحماية مسلمي غوجرات من اعتداءات الهندوس عليهم في 2002 مما اوقع نحو ألف قتيل في صفوفهم، وهناك أيضا من يتخوف على علمانية الهند بسبب إنخراط الرجل منذ شبابه في صفوف الحركات القومية الهندوسية، لكن مودي بات يدرك أبعاد هذه القضايا فصار حريصا على تبديد تلك المخاوف في كل مناسبة.
وجملة القول أن نجاح مودي من عدمه في إدارة الهند، وهو الذي يملك حزبه أغلبية برلمانية مريحة تتيح له الحكم دون شريك، وتمرير القوانين دون تلكؤ ــ 350 مقعدا من أصل مقاعد البرلمان البالغ عددها 543 ــ بات يعتمد على مدى قدرته على كبح جماح أنصاره من الهندوس المتطرفين.
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
ELMADANI@BATELCO.COM.BH