في الحقيقة، لطالما نادى أردوغان بالأتراك المسلمين للسفر إلى القدس منذ سنوات عدة قبل قرار ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة إسرائيل. وبالعودة إلى الوراء وتحديدًا منذ العام 2014، سافر ما يساوي 10 إلى 15 ألف مواطن تركي إلى القدس بحسب تصريحات باشاران أولوسوي، وهو رئيس اتحاد وكالات السفر التركية (TÜRSAB). وفي التفاصيل، في شباط/فبراير 2015، أدرجت رئاسة الشؤون الدينية التركية المسجد الأقصى في برنامج الحجّ المعتمد من الحكومة التركية، بحيث يقصد بعض الحجّاج الأتراك مدينة القدس قبل التوقف في مكة المكرمة والمدينة المنورة. ونقلًا عن صحيفة “هآرتس” العبرية، تدفق إلى إسرائيل 10 آلاف سائح وافدين من عدة بلدان إسلامية، ومعظمهم من تركيا على الأرجح، في الشهرين الأوَلَين من العام 2015. وبعد سنة واحدة أي في العام 2016، أفاد المتحدّث باسم الشرطة الفلسطينية لؤي أزريقات بأن حوالى 15846 مواطنًا تركيًا عبروا الضفة الغرببة إلى القدس، مشيرًا أيضًا إلى ارتفاع عدد الحجّاج الأتراك إلى 23312 زائرًا في الفترة الممتدة من مطلع العام 2017 إلى أواخر شهر تشرين الأول/أكتوبر من السنة ذاتها. وبدورها، صرّحت صحيفة “فرانكفورتر ألجيماين زايتونغ” بأن إجمالي عدد السيّاح الأتراك الوافدين إلى القدس وصل إلى 40 ألفسائح في العام 2017.
وعلى نحو مماثل، بمناسبة انعقاد مؤتمر الملتقى الدولي لأوقاف القدس لعام 2017، سجّل أردوغان موقفًا واضحًا بالتصريح علنًا أن إجمالي عدد السيّاح الأتراك الوافدين إلى القدس بلغ 26 ألف سائح في العام 2016، علمًا أن وزارة السياحة الإسرائيلية أشارت إلى رقم أكبر بكثير من ذلك الذي صرّح به أردوغان، مؤكدة بالتالي وصول 100 ألف زائر تركي إلى مطار بن غوريون بالقرب من تل أبيب في ذلك العام من أصل 115 ألف سائح مسلم (بالإضافة إلى 4 ملايين سائح آخر تقريبًا، بمعظمهم من الديانة المسيحية، كرقم إجمالي). وقد يُعزى السبب في ارتفاع عدد السيّاح الأتراك إلى المدينة المقدسة إلى العروض الجديدة من شركات الطيران التركية، وأبرزها عروض السفر ذهابًا وإيابًا إلى القدس بسعر 159 دولارًا وتشمل رحلات الحجّ إلى المسجد الأقصى.
وبالعودة إلى الأسباب الفعلية وراء مواظبة أردوغان على دعوة الأتراك المسلمين إلى السفر إلى القدس، فنذكر أولًا الأهمية التاريخيةالتي تجسّدها المدينة المقدسة بالنسبة إلى الشعب التركي، وعلى وجه الخصوص المعالم والمباني الأثرية التي تعود إلى عهد السلطنة العثمانية ومدى ضرورة الحفاظ على تلك الآثار وتنظيفها باستمرار. ولكن السبب الجوهري، على ما يبدو من تصريحات أردوغان، يتمثّل في صدّ جهود بعض القادة المسلمين الرامية إلى تهويد القدس، من خلال تعزيز الإرث والطابع الإسلاميين في المدينة.
بالإضافة إلى تلك الأسباب، تتضمن سياسة أردوغان القائمة على حثّ المسلمين الأتراك على السفر إلى القدس مجموعة من الاعتبارات الاقتصادية والتنموية. وخير دليل على ذلك تشجيع السيّاح الأتراك في القدس على الإقامة في فنادق فلسطينية وشراء السلع من متاجر فلسطينية. كذلك، تبنّت الحكومة التركية على وجه الخصوص عددًا من المشاريع والمنظمات التنموية التي تتعاون مع مجموعات فلسطينية من أجل ازدهار المجتمع الفلسطيني في القدس، وأبرز تلك المنظمات “وكالة التعاون والتنسيق التركية” (تيكا)، و”جمعية مشعلة الدولية للطلاب“، و”مؤسسة قناديل الدولية للتنمية والإغاثة الإنسانيّة“. وتعاونت الحكومة التركية تعاونًا وثيقًا أيضًا مع الفلسطينيين والمنظمات الفلسطينية، لاسيما جمعيّة “مركز برج اللقلق المجتمعيّ“. ولا شك في أن العلاقات الأمتن بين الفلسطينيين والأتراك المسلمين تتيح للحكومة التركية ممارسة نفوذ أكبر شأنًا على قضايا المجتمع الفلسطيني وصناعة القرار الفلسطيني. وبحسب معهد “بروكنجز” وصحيفة “إسرائيل هيوم“، تجمع علاقة جيدة بين الرئيس التركي الحالي ومفتي القدس السابق الشيخ عكرمة صبري ورئيس الجناح الشمالي لـ”الحركة الإسلامية في إسرائيل” الشيخ رائد صلاح. وبالنظر إلى الروابط الوثيقة بين أردوغان والجناح الشمالي لـ”الحركة الإسلامية”، ناهيك عن علاقته مع قطر وحركة “حماس”، تكثر التساؤلات حول الدور الفعلي الذي تؤديه الجبهة الأكثر اعتدالًا، وتشمل الأردن ومصر والسلطة الفلسطينية، في صناعة القرار الفلسطيني في القدس الشرقية.
بالإضافة الى الأتراك، تتدفق غالبية السيّاح المسلمين من دول غير عربية أخرى بما فيها الهند وإندونيسيا وماليزيا، بالإضافة إلى جماعات نخبوية من المغرب وتونس والأردن ودول الخليج. وعلى سبيل الذكر، أشارت صحيفة “هآرتس” إلى أن مجموع عدد السيّاح الوافدين إلى إسرائيل في العام 2014 شمل 26700 سائح من إندونيسيا و23000 من تركيا و17700 من الأردن و9000 من ماليزيا و3300 من المغرب. كذلك، يأتي الحجّاج المسلمون من بعض البلدان الأوروبية.
وبالرغم من تلك الأرقام اللافتة، وباستثناء تركيا، لم يتخذ قادة البلدان الإسلامية موقفًا ثابتًا في السنوات الأخيرة حيال مسألة سفر المسلمين إلى القدس، بل كانوا يبثون رسائل مختلطة. ففي الحقيقة، لا يزال عدد كبير من البلدان ذات الغالبية المسلمة يصدر مراسيم حظر سفر إلى إسرائيل ويتخذ إجراءات قضائية بحق المواطنين الذين يقصدون الدولة العبرية.
بالفعل، لا يزال الزعماء العرب المسلمون، بمن فيهم يوسف القرضاوي وهو عالم دين سني مصري الأصل قائم في قطر، يحظّرون على المسلمين السفر إلى القدس خوفًا من تطبيع العلاقات مع إسرائيل وبالتالي التشريع للأخيرة إحكام سيطرتها على المدينة المقدسة. وبدورها، تؤيد حركة “حماس” قرار حظر السفر إلى القدس إذ تعتبر أن السماح بخلاف ذلك “يعني حكمًا الاعتراف بدولة إسرائيل”.
لكن، من المفارقات العجيبة أن زعماء السلطة الفلسطينية، الساسة منهم ورجال الدين على حد سواء، ظلوا يشجعون، على مدى سنوات عدة، المسلمين على زيارة القدس. وخير برهان على ذلك بيان رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في خلال اجتماع “منظمة التعاون الإسلامي” حيث دعا القادة المسلمين إلى “إبداء… موقف متضامن في وجه قرار ترامب. نرجو منكم ألا تتخلّوا عنا… لا تخذلونا!“. وبدورهما، أدلى مفتي القدس محمد أحمد حسين والشيخ محمود الهباش، وهما عالما دين بارزان مقرّبان من السلطة الفلسطينية، بتصريحات شبيهة. وعلى وجه الخصوص، أشار مفتي القدس إلى “أن عددًا متزايدًا من المسلمين يزورون المسجد الأقصى. قد لا تكون الأرقام عالية كفاية بقدر ما توقّعنا، إلا أننا نأمل بأنها سترتفع في الأيام القادمة”. وبالفعل، يدعو عباس المسلمين إلى زيارة القدس منذ العام 2012.
ويبدو مؤخرًا أن ذلك الموقف يلقى تأييدًا أوسع نطاقًا من المسؤولين العرب الآخرين. وخير مثال على ذلك تصريحات كل من رئيس “المنتدى الخليجي للأمن والسلام” د. فهد الشليمي وممثل “منظمة التعاون الإسلامي” لدى دولة فلسطين أحمد الرويضي، وهي تشجّع المسلمين على السفر إلى القدس بهدف إنعاش الاقتصاد المحلي وتعزيز الدعم الدبلوماسي المتوفر للشعب الفلسطيني.
أما الموقف الإسرائيلي ردًا على تلك الظاهرة المتنامية، فقد جاء متقلّبًا، خصوصًا بعد تصريح السفير الإسرائيلي الجديد لدى تركيا ايتان نائية ومفاده “سيسرّنا دومًا أن نستقبل السيّاح الأتراك بحرارة في إسرائيل وفي عاصمتنا القدس”. ولكن، في مجالسهم الخاصة، لا يخفي المسؤولون الإسرائيليون في القدس قلقهم حيال سياسة تركيا التي قد تساهم في تحريض حركة “حماس” على الانقلاب على إسرائيل في نطاق القدس. ولذلك، تطبّق إسرائيل إجراءات أمنية مشدّدة حيال كل السيّاح الوافدين عبر مطار بن غوريون أو جسر اللنبي فوق نهر الأردن. وبحسب صاحب وكالة السفريات “هلا تورز” ومقرّها في بيت لحم وتُعنى بتنظيم رحلات حجّ جماعية للسيّاح المسلمين الوافدين إلى إسرائيل، قد يخضع الزائر المسلم عند معبر اللنبي الحدودي إلى إجراءات تفتيش أمني لمدة 8 وحتى 10 ساعات، وهي إجراءات “صعبة” على حد قوله.
وأمام ذلك المشهد المتناقض، يبرز مؤخرًا وبوضوح منحى مدهش بالفعل يتمثّل في ازدياد عدد الحجّاج المسلمين الوافدين إلى القدس من مختلف البلدان العربية وليس من تركيا فقط، على مدى السنوات الأربعة الماضية أقلّه. إلا أن تداعيات ذلك المنحى لا تزال أقل وضوحًا بكثير. بمعنى آخر، من المعقول أن يساهم ذلك المنحى المتزايد، ولو بنسبة ضئيلة، في التهيئة لمناخ مناسب من شأنه “تطبيع” العلاقات بين إسرائيل وعدد كبير من الدول العربية المجاورة الأخرى. وفي الوقت نفسه، من المحتمل أن يؤدي عدد السيّاح المسلمين المتزايد لاسيما الأتراك الوافدين إلى القدس، إلى أحداث أمنية وغير أمنية قد تأخذ بجهود التطبيع إلى مسار معاكس، دافعًا بالتالي بعض الأطراف المنخرطة في العملية والجهات المراقبة من بعيد إلى تبنّي مواقف راديكالية تجاه إسرائيل وبالتالي تصعيد التوتر في مدينة الحجّ المقدسة المتنازَع عليها بشدة.