(الصورة: في احتفال بالنصر في ما يسميه الإسرائيليون “حرب الأيام الستة” والعرب “النكسة”: إسحق رابين ، وموشي دايان، وقائد سلاح الطيران موردخاي هود)
*
وضع السياسيان الإسرائيليان، موشيه دايان وإسحق رابين، منذ فترة طويلة شروط المعضلة التي تواجه إسرائيل في غزة، كما يوضح جان بيير فيليو في عموده الأسبوعي في صحيفة “لوموند”.
خاص بـ”الشفاف”
كان كيبوتس “ناحال عوز”، شمال شرق قطاع غزة، أحد المواقع التي تعرّضت لمجزرة جراء الهجوم الإرهابي الذي شنته “حماس” في 7 أكتوبر. لكنه كان، في العام 1951، أول مستوطنة لـ”الشباب الرائد المقاتل”، واسمها العبري المختصر “ناحال”. وكان برنامج “ناحال” هذا، الذي صممه دافيد بن غوريون في نهاية الحرب الإسرائيلية العربية الأولى في الفترة 1948-1949، يهدف إلى إقامة مواقع استيطانية، مدنية وعسكرية، في المناطق الحدودية الأكثر حساسية.
في أبريل 1956، اغتيل أحد حراس “ناحال عوز”، روي روثبيرج، على يد فلسطينيين تسللوا من غزة. وبلغت المشاعر في إسرائيل حينذاك حداً دفع رئيس الأركان “موشيه دايان” إلى الحضور شخصياً إلى “ناحال عوز” لإلقاء خطاب تأبين له صدى خاص في المأساة الحالية:
“الدية” (ثمن الدم)
“دعونا اليوم لا نلعن َقَتلتُهُ. ماذا نعرف عن كراهيتهم الوحشية تجاهنا؟ إنهم يعيشون في غزة منذ ثماني سنوات في مخيمات لاجئين، بينما نحن نستحوذ أمام أعينهم على الأراضي وعلى قراهم التي عاشوا فيها وعاش فيها أجدادهم. لا ينبغي أن نطلب ثمن الدم من عرب غزة، بل من أنفسنا”. ثم ناشد رئيس الأركان، موشي دايان، مواطنيه ألا ينسوا أبدًا أنه “وراء الثلم الذي يرسم الحدود، يمتد محيط من الكراهية والرغبة في الانتقام”.
وفي تشرين الثاني/نوفمبر 1956، احتلت القوات الإسرائيلية قطاع غزة بهدف معلن هو القضاء على وجود “الفدائيين”، كما يطلق على المقاتلين الفلسطينيين. لقد خلفت أشهر الاحتلال الأربعة ألف قتيل من سكان غزة، أي واحد من كل ثلاثمائة نسمة.
وبعد عشر سنوات، استولى دايان، الذي أصبح وزيراً للدفاع، على قطاع غزة مرة أخرى، وكان إسحاق رابين رئيساً للأركان. كإن بطلا “حرب الأيام الستة” هذه، في حزيران/يونيو 1967، مع الاحتلال دون استعمار. وأمر دايان بمحو أي فصل واضح بين إسرائيل والأراضي الفلسطينية، التي تم تشجيع سكانها على العمل في إسرائيل، وسرعان ما أصبحت تلك الأجور المورد الرئيسي لغزة.
انضم دايان إلى حكومة مناحيم بيغن كوزير للخارجية بعد فوز الليكود التاريخي على حزب العمل في مايو 1977 . لكن بيغين لم يُبرِم السلام مع مصر في مارس/آذار 1979 سوى لكي يتمكن من استعمار الضفة الغربية وقطاع غزة بشكل أفضل، ما دفع دايان إلى الاستقالة.
في نهاية المطاف، أدى تطرف “الليكود” إلى ظهور “معسكر السلام” في إسرائيل، الذي فاز في انتخابات يونيو 1992 بقيادة زعيم حزب العمل، “رابين”.
“التفاوض كما لو لم يكن هناك إرهاب”
مع أن رابين أبرم اتفاقات السلام مع ياسر عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية في سبتمبر/أيلول 1993، إلا أنه أكد باستمرار على ضرورة محاربة الإرهاب كما لو لم تكن هنالك مفاوضات، وعلى التفاوض كما لو لم يكن هناك إرهاب. فالذي سقط في تشرين الثاني/نوفمبر 1995 برصاص إرهابي يهودي، كان مقتنعا بأن المحادثات ستجري، حتى في خضم العنف، بهدف محدد هو وضع حد للعنف.
قارن أرييل شارون، الذي وصل إلى السلطة في فبراير/شباط 2001 بفضل موجة انتخابية عارمة، على خلفية الهجمات الانتحارية الفلسطينية، ياسرعرفات بـ”بن لادن”، بنفس المصطلحات التي يساوي بها نتنياهو اليوم بين “حماس” وتنظيم “الدولة الإسلامية”. وقد تخلى عن المفاوضات كلياً وأنشأ ما اعتبره حدوداً آمنة لإسرائيل: وهو الجدار العازل في الضفة الغربية، والانسحاب الأحادي الجانب من غزة. ولسوء الحظ، فقد سمح الانسحاب لـ”حماس” بالسيطرة على قطاع غزة في يونيو/حزيران 2007، تلك السيطرة التي عززها ستة عشر عاماً من الحصار المفروض منذ ذلك الحين على القطاع الفلسطيني.
إن الهدف المعلن لبنيامين نتنياهو من العمليات البرية المستمرة في غزة هو نفس هدف دايان عام 1956: القضاء على الجماعات الفلسطينية المسلحة، من خلال الاجتياح المنهجي والتصفية المنهجية. ولكن على الرغم من أن هذا الهدف قد يكون تحقق في عام 1956، على حساب خسائر بشرية فادحة للغاية، إلا أنه لم يحل المشكلة الأساسية، ما أدى حتماً إلى ارتفاع عدد المؤيدين الفلسطينيين للكفاح المسلح.
بدلاً من أن يخف العداء مع مرور الوقت، فقد اشتدّ لصالح المتطرفين في كلا المعسكرين، إلى أن انفجر في رعب الكارثة الحالية. ولهذا السبب من الضروري التأمل في دروس الماضي، وقبل كل شيء، عدم تكرار نفس الأخطاء، على نطاق أكبر وأكثر ترويعًا.
إن الفصل (الإنسحاب) الأحادي الجانب الذي قام به شارون هو الذي مهد الطريق للكارثة الحالية. ويبقى البديل بين الحرب التي خاضها دايان عام 1956 أو المفاوضات التي دعا إليها رابين، مع الاستمرار في محاربة العدو، من دون أي أوهام حول إمكانية المصالحة العامة.
أستاذ في كلية العلوم السياسية، باريس *