هل يختلف وضع بلدية الناصرة اختلافا جوهريا عن الأوضاع المأزومة في سائر السلطات المحلية العربية؟
لم أشأ ان أدمج بلدية الناصرة ضمن سائر السلطات المحلية العربية، في المقال السابق الذي نشرته تحت عنوان ” فساد السلطات المحلية من فساد الأحزاب”… وذلك لعدة أسباب جوهرية. أولها، ان الناصرة بحد ذاتها تشكل حالة خاصة، وتتمتع بمكانة سياسية بالغة الأهمية لعموم الجماهير العربية في اسرائيل. وثانيا، الناصرة شكلت النموذج الذي سارت على نهجه العديد من بلداتنا العربية في استعادة سيطرتها على السلطة المحلية. وثالثا، ادارة بلدية الناصرة، رغم كل العوامل السياسية والاجتماعية المشابهة التي قادت للوضع الفاسد والمأزوم، ما تزال تشكل، نسبيا.. نموذجا اداريا سليما بكل ما يخص مصالح المدينة وأهلها.
اذن نحن أمام حالة ايجابية خاصة، هي نتاج الجهد الشخصي لرئيس البلدية المهندس رامز جرايسي، رغم ان كل العوامل السلبية التقليدية السائدة في سلطاتنا المحلية، ستحسم في النهاية هذا الوضع المميز والخاص والذاتي بالوقت نفسه، وقد بدأت العديد من العوامل السلبية، داخل صفوف الجبهة، وفي الشارع النصراوي، تبرز بقوة غير مسبوقة، مما يجعلني متشائما من مستقبل هذه التجربة المميزة، ومن امكانية انقاذها اذا لم نشهد تحولات جذرية في تشكيل قائمة الجبهة للانتخابات القريبة (قائمة رئيس البلدية)، ولكنه موضوع أتركه للنهاية.
الأمر المقرر ان فساد الأحزاب يترك أثره السلبي أيضا على بلدية الناصرة، وخاصة في الحسابات الانتخابية للجبهة، التي تدير البلدية منذ اكثر من ثلاثة عقود، وتفرض وما تزال، نهجا يعتمد تشكيل قائمة الجبهة على قاعدة حاراتية وطائفية، لذا نرى ان الناصرة لم تقع بعيدا في الحسابات الحاراتية والطائفية، والى حد ما في الحسابات العائلية، عند تركيب قائمة مرشحيها الحالية والقوائم السابقة. ان محاولة اضفاء غطاء سياسي جبهوي، لم يعد يغطي الحقائق المريرة في الحسابات الفئوية. بكلمات اخرى، نرى ان تفاحة الناصرة لم تقع بعيدا عن شجرتها، وللأسف لم تقع على رأس “نيوتون” جبهوي…
من هنا تبدأ الاشكاليات التي تتعمق اليوم، في الناصرة أيضا.. مع الصورة المأزومة والفئوية المقيتة، للسلطات المحلية العربية. ان الأصرار على تركيب قائمة فئوية من مركبات الجبهة فقط، التي تهاوت عمليا ولم تعد قائمة وفعالة كما كانت سابقا… أوجد قائمة ضعيفة وهزيلة لا تمثل المجتمع النصراوي، انما تمثل الحسابات الحاراتية، والحسابات الطائفية، حتى لو كان منطلقها الأساسي غير طائفي، بل تمثيلي لأهل الناصرة، وهي حسابات ذات أفاق سياسية واجتماعية ومدنية ضيقة، وربما نجد حسابات عائلية أيضا في التأثير على تركيبة القائمة الانتخابية، ولكني لا أستطيع ان أقول انها تشكل ظاهرة “عائلية سياسية”، في الناصرة على الخصوص، رغم ضيق الأفق السياسي الذي يميز هذا النهج بجوانبه الفكرية والسياسية.
ان الظن (الجبهوي) ان وجود ممثل حارة معينة، من الجبهة شرط… أو ابن طائفة معينة، من الجبهة شرط أيضا.. بأنه الأمر الحاسم في تشكيل قائمة تمثل الناصرة أفضل تمثيل، قادرة على الانتصار وقيادة عملية التطوير، وان تفرض نفسها وجها سياسيا واجتماعيا وحضاريا لمدينة الناصرة، ذات المركز السياسي المتميز والهام للجماهير العربية، ولسائر الجماهير العربية في داخل اسرائيل، هو أضغاث أحلام ثبت فشلها وفسادها السياسي، ويثبت الوضع المأزوم في السلطات المحلية العربية بما في ذلك وضع الناصرة البلدي، بطلان هذه المفاهيم وعقمها وخطرها على مستقبل سلطاتنا المحلية ومجتمعنا في الناصرة أيضا.
بالطبع لا يمكن تجاهل الدور السلبي – المأساوي على واقع الناصرة، لوجود قائمة طائفية سياسية بشكل مطلق، في تركيبتها واسمها ونهجها، وأعني قائمة الحركة الاسلامية، مهما اطلق عليها من أسماء تحمل مفاهيم الوحدة (الناصرة الموحدة)!!
حقا لا يمكن الاستهانة بالنسبة الكبيرة التي حصلت عليها هذه القائمة. ولا يمكن نفي حقها في تمثيل شريحة واسعة من سكان الناصرة، مهما اجتهدنا في تفسير أسباب تصاعد قوتها والتفاف شريحة كبيرة من المواطنين حولها.
أبرز مشكلة لهذه القائمة، عجزها عن اقناع ولو شخص واحد، من ابناء الناصرة المسيحيين، في التعامل معها انتخابيا، بالترشيح أو بالتصويت، أو بأهليتها لتمثل مجمل سكان ومصالح المدينة وتطورها البنيوي ومكانتها السياسية التمثيلية اللائقة لمجمل الجماهير العربية، وقدرتها على خدمة المجتمع المدني النصراوي وتوحيده.وأؤكد ان رفض التعامل معها هو رفض سياسي في جوهره، ان انتصارها يعني سقوط مكانة الناصرة وتعميق تشرذمنا الاجتماعي والطائفي خارج الناصرة أيضا. هذه رؤيتي على الأقل. أن تصبح الناصرة مركزا سياسيا لقوى سياسية طائفية، لن يكون بذلك مكسبا ما للجماهير العربية، أو للناصرة، او لتطوير مرافق المدينة. ستصاب المدينة بنكسة في نسيجها الاجتماعي والوطني، وستزداد الكراهية للآخر المختلف. وعندها لن تكون المسافة بعيدة ليتساوى الوضع المأزوم والفساد في الناصرة أيضا، مع الوضع السائد في الكثير من سلطاتنا المحلية.
ليس سرا ان فجوة كبيرة تفصل قائمة الحركة الاسلامية عن ابناء الناصرة من جميع الطوائف، والرفض القاطع للتعامل معها من نصف السكان على الأقل، يتسع باستمرار على خلفية ما جرى في الناصرة في الساحة المحاذية لمقام شهاب الدين، والتي استغلت طائفيا لأهداف سياسية، ألحقت بالناصرة وبالنسيج الوطني للمدينة، أضرارا بالغة ليس من السهل نسيانها والعبور عنها ما دام نفس النهج سائدا، وما دام نفس الموقف يحرك شخصياتها.
ان قائمة تخوض معركة بلدية في مدينة مشتركة لعدة طوائف، لا يمكن ان تكون وقفا على طائفة واحدة، حتى لو أعلنت ليل نهار انها عازمة على خدمة المواطنين بمساواة واستقامة. الموضوع لا يتعلق بمصداقية الشعارات والأشخاص، وأقول اني أحترم بعض شخصياتها ومصداقيتهم، غير ان الموضوع ليس قناعة شخصية أو عامة، انما قضية أكثر عمقا وأكثر من مجرد التفكير بالخدمات البلدية المجردة، أو بالمكانة العامة للناصرة.
معظم المواطنين يرفضون العودة الى الأجواء المقيتة، يرفضون ان تسيطر على مدينتهم الصبغة الطائفية المدمرة، التي تمثل حزبا دينيا لمدينة كانت دائما تتميز بمواقفها الوطنية.
الموضوع لا يتعلق أيضا بانتماء رئيس البلدية الشخصي، ولا نتردد في انتخاب شخصية نصراوية من خارج الاطارات السياسية والطائفية اذا كان عليه اجماع، وهو أفضل حل للمرحلة القادمة.ولكن سياسات القوى المتنفذة لها تفكيرها الفئوي، ولا أستثني أي جسم سياسي من هذا الأمر..
من المؤسف تماما أن نضطر في هذا الزمن الأسود والمحتقن بالسموم الطائفية، ان نتحدث عن مواطني الناصرة، بصفتهم أبناء طوائف وليس ابناء شعب واحد. لا أكتب مقالا لأهرج بشعارات بالية.أكتب لأكشف الحقيقة المريضة التي نعيشها، ولأقول ما يؤلمني، وليشرب الغاضبون البحر.. هذا الانشطار الطائفي لا يهدد مستقبلنا في وطننا فقط، انما يحولنا الى ” حطابين وسقاة ماء ” على هامش المجتمع الاسرائيلي، ويلغي شخصيتنا الوطنية ومطالبنا بالمساواة والتطور.
أكون بلا ضمير اذا لم أشر الى الدور السلبي الذي لعبته الجبهة أيضا، بخطاباتها السياسية في تعميق الأصطفاف الطائفي، عبر خطاب سياسي تحريضي منفلت، بدل النقاش الحضاري والفكري في مواجهة صعود الطائفية المدمرة لكياننا… وآمل ان لا أضطر للتوضيح أكثر.
أعرف ان ما أكتبه يثير غضب وسخط المعسكرين الرئيسيين في الناصرة، ولكن ما يقلقني حقا ليس غضبهما، انما تفسخنا الاجتماعي وتحول الدين الى الهوية الأساسية بدل الهوية الوطنية.
من هنا أرى ان استمرار الحسابات الطائفية والحاراتية في تركيب قائمة الجبهة (والقائمة الثانية لن تكون الا طائفية لأنها أصلا قائمة حزب ديني على المكشوف) هو نهج فاسد سياسيا. نهج تأثيره السلبي يتوازى، اجتماعيا على الأقل… مع النهج المنافس.
ان انتصار الجبهة عام 1975 في الناصرة، كان انتصارا لكل أهل الناصرة.. ولكل العرب في اسرائيل ولكل القوى الدمقراطية اليهودية في اسرائيل.قاد الى تغييرات فكرية وسياسية، جعلت من الناصرة وفكرها الجبهوي السياسي، طريقا لليقظة الوطنية، قلبت الواقع العربي في اسرائيل، وفتحت أمامه مجال تحقيق انجازات سياسية واجتماعية وتطويرية هامة. واقول، يمكن تأريخ انتصار الجبهة في التاصرة كبداية مرحلة جديدة في حياة العرب في اسرائيل، انعكست ايجابيا على وضعهم السياسي والقانوني. ولكن القيادات لم تكن بقدر المسؤولية.
الواقع يختلف اليوم نحو الأسوأ. الجسم السياسي الذي أنجز فكر الجبهة، والتحولات الحاسمة في تطورنا السياسي والاجتماعي والفكري، دخل في مرحلة سبات وتفكك. والصراعات الشخصية مع حلفائه وداخل تنظيمه (بين قادة الحزب الشيوعي مثلا، كما تبين من مقابلة نشرتها كل العرب، مع سكرتير الحزب الشيوعي السابق عصام مخول في عددها 08 – 05 – 16، قال فيها ان الجبهة والحزب انحرفا، وهناك من نسي الأممية والصراع الطبقي وارتمى يعانق حكاما يقمعون أخاه الشيوعي في بلدانهم.وان من اراد اغتيالي سياسيا وجسديا سينقلب الاغتيال عليه، ووجه انتقادات غير مباشرة لقائد الجبهة وعضو الكنيست والرجل القوي في الحزب اليوم محمد بركة)، والنقاش يدور من وراء الكواليس وعلنا. والسمكة تفسد من الرأس. الجبهة لم تعد جبهة الناصرة الا اسما. مركبات الجبهة اختفت. كانت تضم تنظيما للجامعين عدد المنتسبين اليه وصل الى 600 – 700 جامعي، وتنظيم للتجار والحرفيين يضم المئات، وتنظيم للطلاب الجامعيين ابناء الناصرة ,, وحدث ولا حرج.. تلاشت الأجسام نتيجة أخطاء قيادات الجبهة نفسها، وعجزها عن قيادة نضال سياسي وفكري متوازن، الغرور أصبح سياسة، عبادة الفرد المدمرة أطلت برأسها الفاسد… ووقع الانشقاق الذي أثر سلبيا على مكانة الجبهة والوحدة الوطنية لأهالي الناصرة. وظهرت سياسات متشنجة مريضة، أشبه بسياسات الحرمان الديني من القرون الوسطى. وما يجري اليوم هو الحفاظ على بقايا انجاز.. ليس قبولا لنهج سياسي بقدر ما هو رفض لنهج قد يقود الناصرة الى كارثة على المستوى الاجتماعي والسياسي والتطويري.
ان استمرار سياسة ونهج تشكيل قائمة الجبهة في الناصرة، بنفس العقلية القديمة سيكون مغامرة خسارتها اليوم أكثر ضمانا من نجاحها.
مشكلة الناصرة ليست الفساد الاداري. العكس هو الصحيح. البلدية بادارة المهندس رامز جرايسي تقوم بعملها بشكل مهني نسبيا، على الأقل بالمقارنة مع الوضع الفاسد والفاشل في السلطات المحلية العربية عامة.ازمة الناصرة كما أراها هي أزمة حزبية سياسية بالأساس. أزمة تتميز بفساد الحياة الحزبية وخوائها من المضامين الفكرية، وتحول الأحزاب الى تنظيمات شخصانية. الشخص هو الحزب. الشخص هو الايديولوجيا الحزبية. الشخص هو رأس المال السياسي. ثرثرته وتفاهاته قيم عليا.عفويته تختصر كل التنظيم ومؤسساته. هذه الظواهر قادت الى تفسخ الأحزاب. الى صراعات شخصية انتهازية، وتصفيات للمنافسين بصفتهم أعداء سياسيين.
فساد الأحزاب واستشراء الطائفية في بلداتنا على صعيد انتخابات السلطات المحلية، والعمل السياسي المحلي عامة، قادت الى نزاعات عنيفة ودموية في العديد من البلدات العربية. كذلك حال العائلية السياسية. دفعتنا الى نزاعات لا تقل شراسة وعنفا، لدرجة أضحت ظاهرة العنف في المجتمع العربي من الظواهر المرضية التي تقلق شعبنا ومؤسساته ومثقفية.
قبل سنوات “طورت” أحدى “شخصيات” الجبهة نظرية سياسية تقول ما معناه، انه مع صعود العائلية في بلداتنا العربية، على الجبهة ان تتعامل مع هذه الظاهرة وتبني تحالفاتها معها لضمان تحقيق انجازات سياسية.. الخ.
لا أعرف اذا ساهمت هذه “النظرية – المهزلة” بتطوير فكري سياسي يضاف “للفكر” الماركسي للحزب الشيوعي وجبهته.ولكن النهج في بناء تحالفات مع العائلية السياسية كان عميقا ومتقدما.
حقا في الناصرة الصورة أقل حدة، ولكنها لا تقع بعيدا عن مجمل الصورة الفاسدة للعائلية السياسية والحاراتية السياسية والطائفية السياسية.
امتحان جبهة الناصرة في الانتخابات القريبة سيكون امتحانا مصيريا. هل ستنجح الجبهة بتشكيل قائمة أهلية واسعة، وليس قائمة موقوفة على عناصر الجبهة فقط ؟! الجبهة لم تعد ذلك الجسم الذي وحد الناصرة قبل أكثر من ثلاثة عقود. يجب اعطاء دفعة حيوية للواقع النصراوي المتردي. انقاذ الناصرة من ادارة طائفية مغلقة هو مهمة لكل ابناء الناصرة من كل الطوائف. اعرف ان بعض القوى “الوطنية”، من حزب التجمع (عزمي بشارة) يتحضرون لأخذ دورهم في المعركة القادمة، وآمل ان نسمع نتائج ايجابية تعيد رسم الخارطة السياسية بشكل عقلاني في مدينة الناصرة.. عبر الضغط لتشكيل قائمة أهلية واسعة، قد تعيد بعض الحيوية للمجتمع النصراوي.. هل يتصرفون بمسؤولية؟!
بالطبع هناك قوى أخرى تنشط، حتى الآن الصورة لم تتضح، ولكن هذا لا يعني ان ننتظر.. لأن الانتظار يعني الهزيمة.
nabiloudeh@gmail.com
* كاتب واعلامي فلسطيني – الناصرة
من ينقذ الناصرة؟انا شيوعي قديم يؤلمني قلبي من الحال التي وصلناهافي الناصرة بشكل خاص وفي كل القرى والمدن العربية بشكل عام … واعترف ان حزبنا ارتكب حماقات سببت خروج أفضل العقول والأقلام من صفوف الحزب ، شخصيات مثل سالم جيران ونبيل عودة من الناصرة وحنا ابراهيم من البعنة الحمراء التي لم تعد حمراء والعشرات من الرفاق الذين نفتقدهم اليوم . ما زلت أتذكر عشرات مقالات نبيل عودة من الانتخابات قبل دورتين وفي الدورة السابقة أيضا ،عندما تحولت مقالاته التي نشرها في صحيفة الاتحاد ،وفي صحفة الأهالي فيما بعد الى حديث الشارع والجلسات في البيوت والمقاهي ، والتي جعل المنافسين لجبهة… قراءة المزيد ..