الحديث في أمر يخص السلطة القضائية يشبه المشي على البيض فتحتاج إلى معجزة السير في اتجاه معلوم نحو قصد خير دون أن تكسر قشرة أو حتى تلمس بياضها الناصع. وفي العالم كله يقال أن المقال الذي يكسر عددا من البيض لا يعد مقالا إلا عندما تقترب من عدد من الموضوعات الحساسة التي عندها يصبح كشف المستور لا يقل سوءا عن بقائه مسكوتا عنه. وفي مصر تحديدا يوجد لدينا مشكلة هي أن السلطة القضائية لها احترام لا تتمتع به أي من السلطات الأخرى، وعندما استطلعنا من خلال مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في الأهرام الرأي العام في مصر عن أكثر المؤسسات احتراما كان الرأي الغالب يضع المؤسسة القضائية على القمة من الاحترام. وخلال الأعوام الماضية كانت السلطة القضائية هي التي فعلت المسار الديموقراطي المصري بما أصدر من أحكام إجازة لأحزاب كانت لجنة الأحزاب قد منعتها، وهي التي حافظت علي الحريات العامة وهي التي كانت الوسيلة الرئيسية مؤخرا لجعل الانتخابات المصرية أكثر نظافة فجاء إلى مجلس الشعب أعلى نسبة للمعارضة منذ عام 1950.
ولكن ربما كان أهم ما فعلته المؤسسة القضائية هي أنها شكلت قيدا من خلال المحكمة الدستورية العليا على سلطات رئيس الجمهورية لولاه لكان اتهام النظام السياسي المصري بالسلطوية السياسية مشروعا. وفي خارج مصر كان يرتج على كثيرين اتهام النظام المصري بالاستبداد عندما أذكر قيام المحكمة بإلغاء ما يزيد علي مائتي قانون وإجراء وقع عليهما رئيس الجمهورية. ففي النظم السياسية السلطوية والمستبدة فإن تناقض إرادة السلطة القضائية مع إرادة رئيس الدولة يؤدي إلى الإطاحة بالسلطة القضائية وليس بالإجراء الذي رفضته، وكان ذلك هو ما حدث في عهد الرئيسين جمال عبد الناصر وأنور السادات ولكنه لم يحدث في عهد الرئيس حسني مبارك.
هذه المقدمة كانت ضرورية حتى لا يحدث لبس فيما هو آت من قول، وبدايته _ وحتى لا يحدث لبس آخر- هو أنني أكن احتراما بالغا للمستشار ممدوح مرعي وزير العدل رغم تحفظي الشديد على توليه المنصب الوزاري بعد أن كان رئيسا للجنة العليا للانتخابات الرئاسية بصفته رئيسا للمحكمة الدستورية العليا. ولم يكن تحفظي على ذلك راجعا إلى شك شخصي في نزاهة الرجل بقدر ما كان دعوة إلى الحفاظ في هذه المرحلة من التطور الديموقراطي المصري على تقاليد تقوم على دفع الشبهات. وبعد هذه البداية فإنني من جانب آخر أثمن ما قاله الوزير حول حالة السلطة القضائية التي لا تسر لا عدوا ولا حبيبا من حيث الكفاءة والقدرة، وأدهش كثيرا من هذه الحملة التي شنت على الرجل نتيجة صراحته الواجبة أمام لجنة مختصة في مجلس الشعب.
فالحقيقة المرة هي أن السلطة القضائية، والقضاة، ليسوا منفصلين عن بقية الشعب المصري، وما قاله الوزير ينطبق تماما- وبنفس النسبة تقريبا- على باقي المهن المصرية الأخرى كالمدرسين والصحفيين والمحاسبين والأطباء وغيرهم. وكان ذلك راجعا في قدر كبير منه إلى النظام التعليمي المجاني القليل التكلفة والعائد أيضا الذي أصبح ينتج جهلا منظما مصدرا إلى سوق العمل. ومن يطلع على ما يجري في كليات الحقوق في جامعاتنا يجدها مزرية، أما إذا تم الإطلاع على أوضاعها في الجامعات الإقليمية فإننا نجد كارثة محققة.
نحن إذن أمام تحد هائل لا تخفيه تلك الحملة التي شنها نادي القضاة على الوزير وتحويل المسألة إلى قضية سياسية تختلط مع قضايا سابقة بين النادي والحكومة، وبين جماعات من القضاة وجماعات أخري تتوزع وتختلف ولاءاتهم السياسية. وعندما يحدث ذلك عادة فإن الغرض منه هو وضع سحابة من الدخان كستار يخفي خلفه حالاً مزرية من التواضع في الأداء والمعرفة العلمية بل وحتى فهم دور القضاة في الدولة والمجتمع.
القضية إذن في مجال القضاء، مثلما هو الحال مع كل المجالات الأخرى، هي قضية الكفاءة المهنية وهي مسألة ربما يمكن تعويضها جزئيا عن طريق مؤسسات التدريب المختلفة، ولكن ذلك _ كما هو الحال في مجالات أخرى- لا يخفي عيوبا جوهرية جاءت مع التعليم الأساسي. والحقيقة أن الصحفي أو الطبيب أو المهندس الذي يتخرج بتقدير ” مقبول” من جامعاتنا لن نجده يعرف لغة أجنبية تقريبا، ومن المرجح أنه لا يعرف التعامل مع الكومبيوتر، وفي العادة فإن نصيبه من العلم الضئيل الذي تلقاه أكثر ضآلة. وكذلك الحال مع هؤلاء الذين باتوا يدخلون السلك القضائي بتقديرات منخفضة. ولكن ما لا يقل خطورة عن قلة التعليم فإن هناك طريقة مضمونة للتغطية على قلة الكفاءة وهي الانخراط في السياسة، وهي ظاهرة نجدها في كل المؤسسات النقابية في البلاد حيث تترك هذه المؤسسات مهمتها الرئيسية في ترقية المهنة والارتفاع بشأنها من أجل قضايا أخري سياسية خارجية أو داخلية.
هنا فإن هناك حاجة بدلا من الاحتجاج من قبل نادي القضاة على ما قاله المستشار وزير العدل أن يؤخذ ما قاله بالجدية اللازمة، والبحث عن وسائل خارج مجال المساجلات السياسية لترقية العمل القضائي في مصر بحيث تصل العدالة الناجزة لأصحابها في الوقت المناسب. فالموضوع لا يحتاج كل هذه الحساسية والتغطية علي العورات والهروب من المسئولية كما لو كان قضاة مصر وحدهم قادمين من عالم آخر وليس من العالم الذي نعيش فيه بكل ما فيه من معاص وخطايا!!.