في المواجهات الأخيرة بين الإسلاميين والمدنيين المصريين، كان لمصطلح “الفلول” نصيب وافر من الحضور. الاسلاميون أمعنوا في اللجوء اليه وتصوير الفعاليات المضادة لدستورهم بصفتها صنيعة الفلول. والأمر منطقي في مخيلتهم، لأنهم، كما يتهيأ لهم، يخوضون معركة “الدفاع المستميت عن إنجازات الثورة”. والترجمة غير الفصيحة لهذا الشعار هي: دفاعهم المستميت عن السلطة، التي هم في طريقهم للتمكّن منها. و”التمكين” من السلطة من أحبّ العبارات على الاسلاميين، الاخوان خصوصاً… تهمة “الفلول” يرمونها على كل من وقف ويقف ضد هذا “التمكين”، وكأنهم ضبطوا لصوصاً في جرم مشهود، يستحقون عقوبة معنوية مسبقة، هي ابنة الثورة التي أسقطت مبارك: الإتهام بالفلولية.
ولكن بعبع “الفلول” تغير بعد عامين على هذه الثورة، فقدَ من روعه الكثير أثناء المواجهات الأخيرة بين الاسلاميين والمدنيين. وصار يحتاج الى إعادة تعريف، بعدما أُغرق في الأبلَسة، كانت ربما ضرورية وقت اندلاع الثورة. ولكن الآن، ومنذ بداية المواجهات، لم يعد للـ”الفلول” قدرة تخويفية، صاروا كتلة جماهيرية تملك حافزاً جارفاً للحشد ضد دولة ثيوقراطية إسلامية، والمشاركة في التظاهرات المعادية لها ولرموزها.
بعض من “الفلول” هم أعضاء حزب “الكنبة”، هؤلاء الذين اقتصرت مشاركتهم في ثورة بلادهم على مشاهدتها تلفزيونياً، وهم جالسون على كنبتهم. بعض آخر أصحاب مصالح مباشرة، كبيرة أو صغيرة إنبنت في عهد النظام السابق؛ ومن أصحاب هذه المصالح من فسد ومن استغل ومن قتل ومن خرّب مصالح بلاده… ومن لم يفعل، أيضاً. فيما تجد “فلوليين” وسط أناس لا يحبون شيئا في الحياة قدر حبهم للإستقرار. قد يكون من بينهم شرائح أخرى مبهمة أو متقلبة. لكن الواضح أن الفلول مزيج من “أشرار” و”خيّرين”، من خائفين وكسالى وخاسرين، ولامبالين… سابقين. ويفترض ان جميعهم غير ديموقراطيين، لأنهم دافعوا، بشكل او بآخر، سلباً أو إيجاباً، عن نظام مبارك.
ويفترض أن بعضهم يحلم بالعهد السابق… جزء من هذه “الحقائق” كان صحيحاً ولم يعد كذلك. جزء آخر منه تحول أو تبدل أو بقي على ما كان…. بحسب مجريات حياة أفراد هذه “الشريحة”. فلا ننسى أن الفلول أيضاً يجرّون ذيول الثورة في معاشهم اليومي… وإذا أردنا أن نكون منصفين، علينا الانتباه إلى أنهم نتاج نظام مبارك، بنفس قدر الاخوان والسلفيين وغيرهم الكثير… بهذا المعنى الواسع، للـ”فلولية”، يمكن إقتباس كلمة السيد المسيح بخصوص مريم المجدلية للقول بأن “من كان منكم غير فلولياً، فليرجمنا بحجر”…
ما الذي حفّز الفلوليين، أو قسطاً وافراً منهم، للإنخراط في الفعاليات الجماهيرية المناهضة لديكتاتورية الاسلاميين القادمة؟ الأرجح هو الوجه الحداثي لتكوينهم: صحيح انهم كانوا يساندون المستبد في توجهاته، أي انهم بالتعريف، أو “نظرياً”، غير ديموقراطيين، حلموا ببقاء الديكتاتور السابق أو بعودته… صحيح أيضاً انهم، مثلهم مثل العديد من الليبراليين والقوميين وحتى العلمانيين، ساهموا، قليلا أو كثيراً، في محفل النفاق الديني الذي ساد في عهد مبارك. ولكن الإرث الذي يتقاسمونه مع هؤلاء المدنيين ينطوي على حداثة ما، هي الحافز العميق الذي حرّك سُبات كتلهم للخروج الى الشارع إحتجاجا على ما بدا لهم انه بداية خسارتهم لهذا الإرث.
وهذه مفارقة تعود الى طبيعة حداثتنا: أن تكون نخب الفلول غير ديموقراطية، ولكنها في الآن عينه حداثية، في بعض أوجهها الهامة أو في نمط مجمل حياتها. رب قائل ان هذا مستحيل وان الافكار تتماسك أو تموت. ولكن الواقع أعقد وأغنى. وتناقضات الفلولي هي من صميم تناقضات حداثتنا وتقليديتنا.
ولكن المهم في الموضوع أن هذه المفارقة خلقت حقلاً من الإمعان في النظر: تواجد اللاديموقراطية والحداثة في الميدان الواحد، متوازيان أحياناً، من دون اصطدام أو مجرد احتكاك. ونزعم بأن التقائهما يتم في المعركة التي يخوضها الفلوليون الآن الى جانب الأطراف المدنية. معركة الدفاع عما ورثته مصر من حداثة عهودها الماضية، قبل أن يحاول الإسلام السياسي إعادتها الى عصور ديكتاتورية الجهل والظلام.
الفلول لم يعودوا يمثلون الثورة المضادة. فالثورة المضادة يجري الآن العمل على تعبيد الطريق اليها. وهي تعني إعادة مصر إلى العهد الذي ثارت عليه، حكم الحزب الواحد والرجل الواحد. والمعضلة الآن ليست عودة مبارك، إنما قدوم الديكتاتورية الظلامية الصريحة، الأشنع من مبارك. وعندما يدافع الإسلاميون عن هذه العودة بعبارات “الدفاع عن الثورة ومكتسباتها”، لا يفعلون سوى قياس المسافة الهائلة التي باتت تفصل مصر عن عهدها القديم.
هذه الطبيعة الزئبقية لا تقتصر على الفلول وحدهم. مصر نفسها لم تعد تشبه نفسها، وكذلك المصريون. الثورة كانت بالضرورة سطحية في بدايتها. اكتفت باسقاط الرأس. لكن العامين الكثيفين اللذين تلياها كانا اختباراً جدياً لكل التعريفات والمواصفات. والمعركة الأخيرة انطوت وثبتها على زخم العامين الماضييَن؛ ما سرّع من وتيرة التبدلات، الذهنية خصوصاً. كم هو عدد الذين أعلنوا عن ندمهم على التصويت لمحمد مرسي؟ والذين لم يعلنوا؟ من كان يتصور قبل شهرين أن جموعاً من الناس سوف تضع بشعاراتها حدا لمصادرة الدين والتلاعب به؟ أو أن ينفجر غضب مصري خالص ضد دستور يصادر الحرية والحداثة في الآن عينه؟ أن تفرغ الكنبات من مدْمنين الجلوس عليها؟ أن تكون القضية بالنسبة للجميع قضية حياة او موت وشهداء…..؟ أن ينشق إخوان أو شيوخ؟ أن يطرح على الشيخ المحلاوي على الهواء مباشرة إن كان يكفّر رافضي الدستور الاسلامي؟ أن يضطر الشيخ الى الاجابة بـ”لا” مطنْطنة… بعدما تسبب باشتباكات داخل مسجده الاسكندراني وخارجه، إثر تكفيره لرافضي الدستور؟
في الثورات أمور كثيرة مفارِقة. منها أنها سرعان ما تولد ثورات مضادة، وباسم الثورة نفسها. أصحابها جديدو العهد بالسياسة وبالثورة معاً. مع اشتداد وطأة الثورة المضادة، يعود العهد القديم ويكتسي أوصافا ملائكية. هذه نوستالجيا لا تعنينا هنا، إذ يمكن أن تصيب المرء حتى وهو سعيد بعهده الجديد. ولكن هنا النوستالجيا أخرى، عائدة الى فضيلة واحدة تتمتع بها الثورة المضادة: هي إعادة فرز الناس والأفكار، بناء على وضوح مستجد، أنتجته بشاعة توجهاتها واعتباطيتها. الفلول واحدة من المجالات التي أملت عليها المعركة مع الاسلاميين إعادة تموضع، وإعادة فرز وإعادة تفكيك إرث مبارك.
قد يأتي من يقول ان هذه المقالة هي “دفاع عن الفلول”. والجواب البسيط هو الدعوة الى الانتباه بأن الأفكار تحددها الوقائع الواقعية، لا العكس. وهذا ما لا يقره الإسلاميون بالذات، خائضي معركة فرض الأفكار على الوقائع…
بعض أوجه معركة مصر الجارية الآن يدور حول “الكوجيتو” العربي الجديد.
dalal.elbizri@gmail.com
كاتبة لبنانية
“نوافذ” المستقبل