روبرت ساتلوف
تُعرف منطقة الشرق الأوسط اليوم بسخرياتها الصارخة وحالات التنافر البارزة.
وكأن صحيفة “ذي أونيون” الهزلية حلّت محل صحيفة “نيويورك تايمز” كوسيلة إعلامية رائدة. في هذا التقرير الخاص، يعرض المدير التنفيذي لمعهد واشنطن الخلاصات التي توصّل إليها من رحلة قام بها في مطلع سبتمبر وشملت مصر والأردن وإسرائيل وشملت لقاءات مع مسؤولين سياسيين وديبلوماسيين رفيعي المستوى في عواصم البلدان الثلاثة.
وفي ما يلي عشرة من أبرز العناوين:
1. الدول العربية تحتشد للدفاع عن اتفاق “سايكس بيكو” الذي لطالما اعتُبر مؤامرة غربية لتقسيم العرب. هذه الملاحظة الأهم. من الشائع، لا بل من الرائج، الآن في الغرب التحسر على تدهور نظام الدول العربية المقسمة بين القوى الاستعمارية غداة الحرب العالمية الأولى. لكن الواقع هو أن بعض القادة العرب، بعد الكد لأكثر من ثلاث سنوات في مهمة حماية أنظمتهم في الداخل أو القتال للقضاء على الفوضى المحلية من دون أن يصيبهم أي مكروه، قد أيقنوا أخيراً أن لديهم مصلحة في النظام ككل. وأدرك هؤلاء القادة أن انهيار العراق وسوريا وليبيا كان لديه أثر هائل على المنطقة وهم عازمون على التصرف حيال هذا الأمر. إنه “ثأر سايكس بيكو” وهو حافز قوي للقادة في المنطقة.
2. بعض الدول العربية تأثر كثيراً باستراتيجية “القيادة من الخلف” الأمريكية وأمسك الآن بزمام الأمور. كانت رسالة واشنطن لعدد من السنوات الماضية أننا نريد للاعبين المحليين أن يضطلعوا بمسؤولية أكبر تجاه أمنهم الخاص، لكن البعض في الشرق الأوسط يضطّلع في الواقع بهذه المسؤولية. لقد صُدمت مثلاً حين رأيت كيف تغلب ليبيا على الأحاديث الأمنية في مصر. فبالنسبة للمصريين، تكمن أولوية الأمن القومي في سيناء (حيث يرون يداً لحركة «حماس»، مما يزيد النظرة لهذه الأخيرة قساوةً)، وبعد سيناء يأتي تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش»). ويشعر المصريون بالسخط حيال التهديد القادم من ليبيا الذي يتسرّب إلى مصر على شكل هجمات على الجنود المصريين وقوى الأمن وتهريب أسلحة. وأنا واثق من أنهم سيتصرّفون. في الواقع، لا يجب أن نتفاجأ إذا أصدر الاتحاد الأفريقي في وقت ليس ببعيد إذناً بتدخل قوة مؤلفة من دول الجوار بقيادة مصر والجزائر بالإضافة إلى أطراف أخرى في النزاع الليبي ومنع المجموعات الجهادية من تخريب البلاد.
وتجدر الإشارة إلى أن الأمر لا يتعلّق بليبيا فحسب؛ فهي حرب بالوكالة للصراع بين الدول المعادية للإسلاميين من جهة وقطر وتركيا اللتين تتعاطفان مع الإسلاميين من الجهة الأخرى. وقد فسر في هذا السياق أحد صانعي السياسات العرب النافذين ضربة الإمارات العربية المتحدة ضد المتمردين الذي سيطروا على مطار طرابلس الغرب على أنها فعلاً رسالة لقطر، لأن هؤلاء المتمردين هم تابعين بشكل أساسي وكامل لقطر. بالفعل، لقد اجتاز الإماراتيون مسافة بعيدة للإيصال هذه الرسالة إلى جيرانهم في الدوحة. وحريٌّ بالولايات المتحدة ألا تفاخر بهذه العمليات المستقلة من قبل “شركائها” العرب، فمثل هذه المبادرات إشارة إلى قلة التعاون والتنسيق بين واشنطن وهذه الدول.
3. بعد ثلاث سنوات على الربيع العربي الظلمة باتت مسألة عادية في القاهرة، لكن المشكلة ليست الكهرباء فحسب، بل هي السياسة. تُطفأ الأنوار في القاهرة مراراً هذه الأيام، لكنها ليست الوحيدة التي تقع في الظلمة. لم يعد هناك من سياسة حقيقية في مصر. صحيح أنه هناك مساومات بين أقطاب سياسية مختلفة لتشكيل وفك وإعادة تشكيل الائتلافات قبل الانتخابات البرلمانية التي لم يظهر موعدها بعد. إلا أن هذه السياسة تنحصر في نطاق ضيق ولا تشبه الموجة العاتية من النشاط السياسي التي اعتاد العالم عليها في السنوات الثلاثة. فقد اختفت هذه الأخيرة. لم يعد “الإخوان المسلمون” لاعباً سياسيّاً. في الواقع، لقد قُضي على الإسلام السياسي بكافة أشكاله كلاعب سياسي. وكذلك الناشطون في الشارع من الليبراليين واليساريين والوسطيين اختفوا بمعظمهم من الساحة السياسية. بالتالي، لم تعد الظلمة مجرّد انقطاع للتيار الكهربائي – وإن كان كل مصري يعتبر حصوله أمراً عاديّاً الآن، وإن كان سيتكرر بوتيرة أعلى بحسب أحد خبراء الطاقة – بل تنطبق على السياسة أيضاً.
لكن حتى من دون سياسة، لا تزال القيادة في مصر تعاني لتحديد التوجه الدقيق للدولة حول المسائل الأساسية بين الدين والسياسة، وبشكل أساسي حول كيفية إيجاد “نقطة التوازن” بين رفض الإسلاميين لكن ليس الإسلام. هذا ما أسميه التوتر بين “النساء العاريات” و”الخصر المتمايل”. ففي زيارة إلى القصر الرئاسي لمقابلة مسؤول رفيع المستوى، تفاجأت لرؤية الردهة مليئة بتماثيل صغيرة أشبه بالتماثيل النصفية الإغريقية، ومعظمها يجسد نساءً بصدور عارمة. وفي بداية المقابلة أشرت إلى ذلك أمام المتحدث وسألته إذا ما كانت هذه التماثيل متواجدة منذ سنة ونصف حين كان الرئيس محمد مرسي من جماعة “الإخوان المسلمين” في الحكم. فضحك وهنأني على دقة ملاحظتي. وقال لا، أول ما فعله الرئيس السابق مرسي حين وصل إلى القصر هو إزالة هذه التماثيل، وأضاف قائلاً إن مرسي كان قد أزال حدارية تاريخية كبيرة من المكتب الداخلي للرئيسي تمثّل خريطة مصر والسودان. وأوضح أن رسالة محمد مرسي كانت موالية للإسلام السياسي وضد القومية. وأشار إلى أن أحد أول القرارات التي اتخذها الرئيس عبد الفتاح السيسي لدى دخوله القصر الرئاسي هو إعادة السجادة إلى الجدار وإعادة التماثيل إلى غرفة الجلوس.
هذا طرف من المعادلة، أي النساء العاريات. لكن في اليوم نفسه، أخذت حكومة مصر خطوة بالاتجاه المعاكس مانعةً مسابقة رقص شرقي يتم عرضها على قناة فضائية شعبية. لا شك في أن عرض “الخصر المتمايل” على العلن خدش الحياء العام، الأمر الذي لم تفعله التماثيل النصفية الخاصة لنساء عاريات. فأي قرار سيحدد التوجه النهائي لمصر الجديدة؟ الأمر يعود بشكل أساسي لرجل واحد، إنه عبد الفتاح السيسي.
4. الرئيس السيسي يحفر لمصر، حرفيّاً، والشعب يهتف له. أشير هنا إلى قناة السويس الجديدة، وهو مشروع ضخم ذات طموحات كبرى لا يهدف فقط إلى بناء قناة ثانية بوجهتي سير في المجرى المائي الشهير، بل أيضاً إلى إعادة توجيه الاقتصاد المصري بطريقة تجعل منطقة القناة مركزاً للنشاط الاقتصادي الوطني، من خلال مناطق صناعية جديدة ومناطق تجارية وأخرى تكنولوجية. جوهريّاً، تهدف استراتيجية هذا المشروع إلى ضخ الأمل والحماسة في الاقتصاد والمجتمع بشكل عام. في الواقع، تعتمد الخطة المرتبطة بشكل وثيق بالرئيس الجديد، بشكل أساسي مقاربة “فلنحفر الآن ونؤجل الأسئلة”. فلم يتحدث أي من الذين قابلتهم عن دراسات جدوى محترفة أو أي نوع من التقييمات حول كيفية جني مصر للمال من هذا المشروع الضخم علماً أن التمويل أشبه بالتسويق الهرمي (عذراً على التلاعب بالكلمات) ويتطلب بشكل متزايد شراء السندات العامة لتتمكن الحكومة من دفع أسعار الفوائد المرتفعة التي تعهدت بها بشكل منتظم.
لكن حتى الآن المشروع ناجح، والشعب متأمل ومتحمس. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو إذا ما كان هذا الوضع سيستمر، وإذا ما كان الرئيس سيستمر بإيجاد طرق جديدة لضخ الأمل والحماسة في وعي الشعب ليجتاز فترة العسر الاقتصادي التي ستسبق أي تحسن اقتصادي (هذا إن حصل تحسّن). حتى الآن لا يزال الشعب هادئاً ويراعي القيادة الجديدة. حتى حين ينقطع التيار الكهربائي – علماً أن البلاد شهدت أسوأ انقطاع للتيار الكهربائي خلال أكثر من عقد من الزمن – لا يزال عدد كبير من الأشخاص يلوم الرئيس السابق محمد مرسي عوضاً عن الرئيس الحالي السيسي. أما السؤال الكبير الذي يطرح نفسه عن الرئيس هو كم سيدوم ذلك.
5. مصر والولايات المتحدة، إن كان من كلمة واحدة تصف الوضع فهي الازدراء. يشعر المصريون من كامل الأطياف بالازدراء تجاه واشنطن. البعض متأثر بنظريات المؤامرة المرتبطة بالسياسة الأمريكية كنظرية أن البيت الأبيض خاضع لسيطرة “الإخوان المسلمين”. أما بين الفئات الأكثر جدية فهذا الشعور بالازدراء ناتج عن عدم إمكانية تفسير عجز واشنطن عن رؤية مكمن مصالح الولايات المتحدة ورفض هذه الأخيرة المربك للإيفاء بالتزاماتها. والمشكلة أكبر من مسألة طائرات “الأباتشي”، التي وُعدت مصر بها من أجل مقاتلة الجهاديين في سيناء مرات عدة من دون أن يتحقق الوعد، في الواقع المشكلة أعمق من ذلك بكثير. وقد أوضح لي مسؤول رفيع المستوى من مصر أنه فيه ذهن المصريين، ترك جيل من المساعدات الروسية سد أسوان، أما جيل المساعدات الأمريكية فلم يترك أكثر من شحنات الواقيات الذكرية التي يبيعها الأطفال كبالونات للحفلات في زوايا الشوارع.
بالطبع الواقع مختلف جدّاً، لكن هذا الازدراء يعكس أمراً عميقاً جدّاً. يشير المصريون بوجل إلى أنهم يملكون “خيارات أخرى”، لكنني أظن أن التهديد المبطن لا يتخطى كونه تهديدا. هم يريدون علاقة مع واشنطن ولا يعرفون لماذا لا ينجح الأمر. وسيحصل أول اجتماع بين الرئيسين في نيويورك في أواخر شهر أيلول/سبتمبر حين ينعقد مجلس الأمم المتحدة، وسيشكل ذلك مناسبة لفتح صفحة جديدة. غير أن هذا الاجتماع يجب أن يتضمن أكثر من مجرد حديث لائق، بل يجب أن يطلق حواراً استراتيجيّاً جديّاً، حيث يجلس كل طرف ليشارك في حديث راشد ومدروس جيداً عن كافة المخاوف والأولويات. في هذا الإطار، تشكل الأولويات مفتاحاً. لن تتفق واشنطن والقاهرة على كافة المواضيع، لكن على الرغم من الخلافات العميقة حول بعض المسائل التي يجب إيضاحها عليهما أن تجدا طريقة للتعاون والتنسيق حول المسائل الرئيسية لاسيما في مجال الأمن. على كل طرف أن ينظر في المرآة ويرى ما يمكنه أن يفعل لاسترجاع بعض عناصر الشراكة في علاقة تدهورت بشكل خطير.
6. برهنت حرب غزة أنها كانت ملحة لكن ليست غاية في الأهمية. خطفت غزة مدة خمسين يوماً أنظار العالم. فالتهديدات كانت مخيفة وملزمة أكانت صواريخ على المدن أو أنفاق إلى القرى أو قصف على المناطق المأهولة. أما المشاهد فكانت صاعقة. وبما أن إسرائيل كانت معنية، فهي شكلت محط أنظار الإعلام العالمي. بالطبع بالمقارنة مع سوريا والعراق لم تكن الخسائر كبرى، لكن بالنسبة للمعايير العربية الإسرائيلية كانت الخسائر هائلة. ففي نهاية النزاع، وصلت العلاقة الأمريكية الإسرائيلية إلى شفير الأزمة الحقيقية، فبعد التدخل في العملية الطبيعية لتغطية كلفة العتاد العسكري لإسرائيل، سيكون من الصعب على إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما القول من جديد إنه، وبغض النظر عن الاختلافات السياسية، إنه لا يمكن زعزعة العلاقة بين الدولتين. بنهاية المطاف، كانت العلاقة متزعزعة، واستمر الأمر على هذا النحو خلال الحرب. لكل هذه الأسباب كانت حرب غزة ملحة. لكن هل كانت مهمة؟ هل غيرت شيئاً؟
حتى الآن الإجابة غير واضحة. بحلول نهاية النزاع، نشأت فرصة حقيقية بفضل التفاهمات المصرية الإسرائيلية لتغيير الديناميات في قطاع غزة والتحكم بالنتيجة لبدء عملية طويلة لنقل السلطة هناك من حركة «حماس» إلى السلطة الفلسطينية. وشمل ذلك فكرة ربط إعادة الإعمار بنزع السلاح أو على الأقل تجنب إعادة التسليح؛ أي فكرة اشتراط سيطرة السلطة الفلسطينية الأمنية على المعابر في مساعي إعادة الإعمار الدولية، وفكرة حصر نقل الأموال الخارجية لدفع الرواتب المحلية بالمؤسسات المالية التي تسيطر عليها السلطة الفلسطينية وليس «حماس». كل هذا كان من الممكن أن يطلق عملية تغيير صعبة لكن تحمل الأمل.
بيد أن لاعباً أساسيّاً قد رفض المشاركة فجأة، وهو ليس حركة «حماس» التي لم ترحب يوماً بهذه الأفكار بل اضطرت إلى تقبلها نظراً للوضع المأساوي التي كانت غزة تعاني منه. الطرف الذي تراجع هو رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس. لقد قرر أنه لا يريد المشاركة في هذه اللعبة. ففي سن الثمانين، يرى محمود عباس من دون شك هذه الاستراتيجية على أنها تحوله إلى مقاول بناء لقطاع غزة فيما هو يريد أن يؤدي دوراً أكبر، ومن هنا نشأت مبادرته الدبلوماسية في الأمم المتحدة التي لن تحقق شيئاً. وهو في الغالب قلق لأنه يفتقر للعديد والقوة الكافية لمواجهة الحركة ويخشى من انسحاب غير مشرّف.
والنتيجة النهائية هي أن الوضع في غزة مع كافة الدمار الناتج عن استراتيجية الاحتكاك التي اعتمدتها «حماس» لا يزال كما كان قبل بداية النزاع إلى حد كبير. في الحقيقة على الرغم من وقف إطلاق النار المؤقت ومن الوعد بالتفاوض لدوام وقف إطلاق النار – تفاوض من المرجح ألا يحصل فكيف سيكتب له النجاح – ما من احتمال ولو بسيط بتجدد النزاع في وقت قريب. وهذه فرصة كبيرة ضائعة. فإن عودة الأطراف إلى نقطة البداية هو ما عنيت به أن حرب غزة كانت ملحة لكن ليست غاية في الأهمية.
7. بصيص الأمل في ظلمة الشرق الأوسط: العلاقات العربية مع إسرائيل. إذا كنا سنطبق قاعدة الوصف بالكلمة الواحدة لعلاقة مصر مع الولايات المتحدة لقلنا “الازدراء”، ومع «حماس» “الاشمئزاز” و”الاحتقار” تجاه محمود عباس و”الكراهية” لقطر، أما بالنسبة لإسرائيل فالكلمة المناسبة هي “الاحترام”. بالطبع لا يجب أن نبالغ، فالأمر ليس وكأن الرئيس السيسي بات يحمل راية الصهيونية. وفي هذا الإطار، أنا لا أصدق أي كلمة من الخرافات الجديدة التي تفيد بأن عبد الفتاح السيسي قدم جزءاً من سيناء للفلسطينيين لإنشاء دولة. مع ذلك، علينا أن نقدر الحقيقة كما هي؛ أي أن إسرائيل ومصر تنظران إلى الوضع الإقليمي بالطريقة نفسها وتسعيان لتلاقي التحاليل والمصالح. ويعتبر ذلك أبرز عنصر يدعو إلى التفاؤل في الشرق الأوسط اليوم. (أما أن تتعاون القاهرة وإسرائيل لسبب يعود جزئيّاً إلى فقدانهما الكثير من الإيمان والثقة بواشنطن هو فالوجه القاتم لهذا الأمل).
بيد أننا نسمع عن أهمية العلاقة الاستراتيجية مع إسرائيل أكثر في الأردن حيث تشكل إسرائيل شريكاً حقيقيّاً على أصعدة عدة. وتجلّى ذلك مؤخراً بتوقيع صفقة توريد غاز كبرى تم توقيعها بعد أيام قليلة على وقف إطلاق النار في الحرب بين إسرائيل وغزة، على الرغم من المشاعر السلبية التي تغمر البلاد تجاه إسرائيل نتيجة الحرب الأخيرة. ولا شك في أن أغرب اللحظات التي عشتها في هذه الجولة هي حين سمعت بعض المسؤولين الأمنيين العرب يتجادلون حول من يقيم علاقة أفضل مع إسرائيل. فعلى هذا المستوى لا بد من أن الزمن قد تغير.
8. الوضع الاستراتيجي في الأردن لم يكن أبداً قاتماً كاليوم، لكن مقاهي البلد لم تبدُ أبداً منتعشة كاليوم، فهل هذه المرحلة النهائية أو الذهبية للملك عبدالله الثاني؟ برأيي لا يجب المراهنة ضد الملك. فقد أدار بحذر شديد وضعاً مستحيلاً في ما يتعلق بالأزمة السورية، وانتهى به الأمر بالصمود أمام الضغط السعودي القوي للاضطلاع بدور مباشر وفاعل أكثر في محاربة الرئيس السوري بشار الأسد، الأمر الذي كان سيجعل من الأردن لاعباً على الخط الأمامي في القتال مع سوريا أو دفع ثمن رفض طلب الرياض بخسارة كافة المساعدات السعودية. برأيي كان ذلك قراراً جريئاً قد يكون له تبعاته في المستقبل (فعبء الدين على الأردن ضخم، وستعود هذه المشاكل لتطوف على سطح الماء في نهاية المطاف) لكنه أبقى القتال خارج الحدود الأردنية بما يتطابق مع مبدأ المملكة الهاشمية التقليدي بحل المشاكل كل يوم بيومه. فحين يكون على الهاشميين أن يقرروا بين أن ينخرطوا في حرب خطرة اليوم أو حمل عبء دين ضخم غداً، الخيار واضح.
في هذا السياق، يجب أن نميّز بين أربعة تهديدات أمنية للأردن:
· التهديد العسكري المباشر من «داعش». هناك اتفاق عام على أن القوات المسلحة الأردنية وعلى خلاف الجيش العراقي هي جيش فعال ومنضبط ومتسق يمكنه مواجهة التهديد. ولا شك في أنه سيقاتل بكفاءة وبشكل مقنع.
· عبء اللاجئين. بعد استقبال أكثر ن مليون لاجئ سوري في السنوات الثلاثة الأخيرة وصلت الأردن إلى قدرة الاستيعاب القصوى. واتخذت نتيجة لذلك الإجراءات الفعالة لتخفيض صافي تدفق اللاجئين الحالي إلى صفر. إلا أن كل هذا يعتمد على إبقاء القتال بعيداً عن الحدود السورية الأردنية. فإذا انتقل القتال سينتقل بين ربع ونصف مليون سوري إلى الأردن وبحسب عدد من المحللين الخبراء، عندها ستنهار المنظومة بالفعل.
· انتشار السلفية أو حتى الجهادية في الداخل. هذه مسألة خطيرة. هناك إثباتات على أن حوالي 7 إلى 8% من الأردنيين يتعاطفون مع «داعش». بحسب المسؤولين، هناك حوالي عشرة آلاف سلفي في البلاد وقد خرج حوالي 1400 أردني من البلاد للمشاركة في معارك كـ”مقاتلين أجانب” وقد التحق عدد كبير منهم في البداية بـ”جبهة النصرة” لكنهم يتوجهون الآن أكثر فأكثر نحو «داعش». معظمهم من الفلسطينيين لكن بالطبع ليس كلهم. لقد سمعت الكثير من القصص من بعض الأردنيين البارزين حول أنسباء شبان اتصلوا بعائلاتهم فجأة من مطار إسطنبول ليقولوا لهم “أمي، أبي، أنا ذاهب إلى الجهاد”. وإذا انتشرت هذه الظاهرة ستكون خطرة جدّاً، لكن حتى الآن لا تزال مجرّد سيفاً مسلطاً.
· مشكلة الأردن المزمنة هي الاقتصاد. تاريخيّاً، كان قدر الأردن أن تكون دولة فقيرة. في الوقت الحالي تحصل البلاد على مليار دولار من الولايات المتحدة، أي النسبة الأعلى للشخص الواحد في العالم، لكنها لا تحصل على أي مساعدة من المملكة العربية السعودية فيما تتلقى القليل من دول الخليج الأخرى. وقد يؤدي الانفجار العكسي الداخلي مقابل كل ما تنفقه الدولة لدعم اللاجئين إلى مشكلة في هذا الإطار. أظن أن هذا أمر حقيقي وخطير وإن لم يكن ملحّاً بعد.
9. من القتال ضد «داعش» إلى حل النزاع الإسرائيلي الفلسطيني – هل من رابط؟ أوضح الرئيس الأميركي باراك أوباما بشكل رئيسي في خطاب 11 أيلول/سبتمبر هذا العام مقاربة إدارته تجاه تهديد «داعش» متحدثاً عن “استراتيجية سنية” تبدأ بحكومة عراقية شاملة تعيد دمج السنة العرب في المناصب الرئيسية في الأجهزة البيروقراطية والسياسية والعسكرية. وبالفعل، أشار ملخّص بيانات وزارة الخارجية الذي تم توزيعه بعد خطاب الرئيس إلى حكومة عراقية جديدة ومحسنة تكون بمثابة “القلب والعمود الفقري” لحملته. كما أنه هناك لاعبون أساسيون آخرون معظمهم من السنة، كتركيا والأكراد، وبشكل خاص السنة العرب كالمجموعات الثورية غير الجهادية في سوريا.
وسيكون على واشنطن أن تتخطى مشكلة كبرى لتنجح استراتيجيتها وهي أن شعبية الولايات المتحدة بين العرب السنة متدنية جدّاً. ومع أننا تصرفنا عن وجه حق لحماية الأيزيديين والأكراد السنة في شمالي العراق، لم يتجاوب الرئيس أوباما مع مناشدات دامت ثلاثة سنوات للدفاع عن السنة العرب في سوريا الذين قُتلوا من دون أي رحمة من قبل حكومتهم. وفي الوقت نفسه، غضت واشنطن النظر عن الحكومة التي يسيطر عليها الشيعة في بغداد والتي حرمت بشكل فاعل السنة العرب في العراق من حقوقهم. بالإضافة إلى ذلك، يزيد التودد الأمريكي لإيران، الذي يعتبره كثر في واشنطن فرصة وليس تهديداً، الوضع سوءاً.
يشكل كل ذلك مقدمة إلى مسألتين: أولاً أن قلة الثقة تجاه الولايات المتحدة بين السنة العرب سيجعل تطبيق الاستراتيجية المعادية لـ «داعش» معركة صعبة، وثانياً هي أنه هنا قد ينعطف مجرى الأمور باتجاه إسرائيل في وقت ليس ببعيد.
إسرائيل؟ كيف يمكن للحملة الأميركية ضد «داعش» أن تؤدي إلى إسرائيل؟
في المستقبل القريب، وفيما تعمل واشنطن لتشكيل ائتلاف فعال ومحفز، قد يعتبر البعض في واشنطن المنطقة ويتساءلون “من لديه مقومات تساعدنا على جذب العرب السنة؟”. وليس من المستغرب أن يلتفت البعض إلى إسرائيل. ولن يتطلعوا إلى قوتها العسكرية بل إلى المسألة الفلسطينية. وقد يعتبرون إعادة إحياء عملية السلام مفتاحاً لضمان مساعدة السنة العرب في “الحرب” الطويلة ضد «داعش».
برأيي هذه مبادرة ناتجة عن تحليل سيئ، فالسنة يركزون بشكل كبير على مسألة أخرى ولإسرائيل اتصالاتها مع السنة في هذه الأيام. لكن هذا ليس موضوع ملاحظتي، فملاحظتي هي تسليط الضوء على كيف قد تجد إسرائيل نفسها مشاركة في الحملة ضد «داعش».
في هذا الإطار، من المفيد أن نسأل إن لم يكن نظير الوضع الحالي ليس العام 1990 بل العام 1977، حين اجتمع العرب والإسرائيليين (من خلال أنور السادات ومناحيم بيغن) للتصدي لفكرة المؤتمر الدولي للرئيس جيمي كارتر من خلال تبني مبادرة خاصة بهم لإرساء السلام. كيف قد يحصل ذلك؟
في وقت سابق هذا العام، قدم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو شيئاً ملفتاً في المفاوضات مع الفلسطينيين. وبقي هذا التنازل بشكل رئيسي تحت المجهر في الأشهر الأخيرة، لكنها كانت خطوة كبيرة – الاتفاق على إجراء المفاوضات على أساس خطوط 1967 مع مبدأ تبادل أراضي متفق عليه. مذاك، أُجهضت الجهود الدبلوماسية لكن بقي هذا التنازل في جيبه. قد ترغب واشنطن باستخدام ذلك كأساس لاستئناف محادثات السلام وربما كطريقة لعرقلة المبادرة الذاتية التدمير التي يتبناها محمود عباس الآن في الأمم المتحدة. إلا أن هذه الخطة لن تجدي نفعاً، لا يهتم الإسرائيليون اليوم بإعطاء عباس أي شيء، لاسيما حين يرفض أن يؤدي الدور الممنوح له فبعد الحرب في غزة.
لكن هل من خيار إقليمي؟ هل يمكن لإسرائيل والدول العربية السنية التي تتفق على الكثير من المسائل في هذه الأيام أن تجد طريقة لوضع مخطط يستند إلى مبادرة السلام العربية المقترحة في العام 2002 التي سُهلت الآن بهذا التنازل الإسرائيلي؟ هل الإغراء بالذهاب إلى دبي أو حتى إلى جدة كافٍ لتجاوز التأثير اليميني في السياسة الإسرائيلي منذ أن صمتت القذائف في قطاع غزة؟ آمل أن تتبنى هذه الفكرة العقول العربية والإسرائيلية المبدعة. في الواقع، يعتمد الأمر إلى حد كبير على نقطتي النهائية.
10. هل نتانياهو الرجل القوي الأضعف في المنطقة أو أقوى رجل ضعيف؟ هل يتحكم رئيس الوزراء الإسرائيلي فعلاً بزمام السلطة لكنه يخشى استخدامها سعياً وراء مصلحة وطنية كبرى؟ أم أنه شخص يبدو أنه العملاق الوحيد في حقل من الأقزام السياسيين لكنه في الواقع أضعف مما يظهر؟ تتوفر الإثباتات للنظريتين في الواقع. يحب نتنياهو أن يعكس صورة أن “ما من شخص آخر” يمكنه أن يكون رئيس وزراء في ساحة إسرائيل السياسية المصدعة الآن، مع أنه لم يحرك ساكناً فيما كان أتباعه يتخذون إجراءات ذات تبعات سياسية هامة كتطبيق تحركات ميدانية واستعمارية في الضفة الغربية. وفي الوقت نفسه، اقترب أحد أخصامه السياسيين الرئيسيين وحليفه بشكل متقطع وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان من إطلاق مناورة سياسية، لو نجحت كانت لتغير مكانة حزب “الليكود” كأكبر حزب سياسي في الكنيست. والتفاصيل غامضة جداً حتى لهذا العرض، لكن في نهاية المطاف تسلط الأحداث الراهنة الضوء على لغز جوهري لاحق بيبي، كما يُسمى رئيس الوزراء، طوال فترة توليه منصبه. من هو وماذا يريد؟
في الواقع، أظهرت حرب غزة ما ليس رئيس الوزراء عليه، أي انه ليس شخصاً مغامراً مستعداً للمراهنة بحياة الناس وهيبة قوات الدفاع الإسرائيلية لإرضاء المطالبة الشعبية بالاستجابة إلى مشكلة معقدة. بل برهن أنه حذر وإن لم يكن الحذر والصبر موقفاً شعبيّاً. نعرف ما ليس عليه رئيس الوزراء، لكن الإسرائيليين لا يزالون بعد كل هذه السنوات يحاولون اكتشاف ما هو عليه. لعل الأمل بمبادرة سلام إقليمية تكرس إسرائيل كعنصر ثابت في اتفاق سلام مقبول في الشرق الأوسط، حتى قبل إنجاز تفاصيل اتفاق سلام دائم مع الفلسطينيين، يحل مشكلة هوية إسرائيل في المنطقة.
إن هذه الملاحظات العشرة لا تتطرق إلاّ إلى قشور مشاكل الشرق الأوسط اليوم. ومن كل هذه الأمور، أمر واحد على الأقل مؤكد: لن يكون هناك حديث عن “النقلة الأميركية نحو آسيا” في السنوات الأخيرة من هذه الرئاسة. ومن بين التبعات للمقاربة التزايدية في التعامل مع «داعش» التي ذكرها الرئيس الأمريكي أوباما هي أنه، في السراء والضراء، سيبقى الشرق الأوسط موضوعاً طاغياً على السياسة الخارجية في الولايات المتحدة لعدة سنوات.
روبرت ساتلوف هو المدير التنفيذي لمعهد واشنطن