حسم هذه المحادثات المستمرة لم يكن سهلاً. تماماً مثل المعركة التي لن يكون حسمها سهلاً أيضاً. تداخل كل اللاعبين في الميدان زاد الوضع تعقيداً. وقد جاء التدخل التركي ليحقق، بين ما حقق، توازناً ميدانياً مهماً في مواجهة تدخل إيران وميليشياتها المتعددة الجنسية، وكذلك في مواجهة الحضور الجوي لروسيا. كانت الأخيرتان على علم سابق بعملية «درع الفرات». لكن الرئيس رجب طيب أردوغان ذهب بعيداً. أعلن قبل أيام أنه لم يعد ممكناً تقرير مستقبل سورية من دون حضور تركيا والوقوف على رأيها. لهذا، اندفع خارج جرابلس. لن يكتفي بطرد القوات الكردية إلى شرق الفرات. سيقيم منطقة آمنة بحماية قواته الخاصة ودباباته وطائراته وفصائل «الجيش الحر»، تقارب نصف مساحة لبنان. وأبدى نجاح قواته في تحرير الرقة إذا تلقت دعماً جوياً من التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، على غرار ما حصل في جرابلس. أليس هذا كافياً لإزعاج موسكو؟ استفزها اندفاعه، لذا لم تجد بداً من تحذيره من «خطوات تزيد في زعزعة الموقف»، وقد تؤدي إلى تعقيد الوضع العسكري الصعب وتترك أثاراً سلبية على الجهود الدولية لوضع قاعدة للتسوية. أي أنها ستؤثر عملياً في استئثار كل من موسكو وواشنطن برسم صورة التسوية وإن كانت موقتة ومتواضعة. إذ باتت أنقرة بعد تقدمها إلى العمق السوري شريكاً لا يمكن تجاهله في أي صفقة أو مساومة. فيما لا تخفي أوروبا إحباطها من الثنائي الروسي – الأميركي الذي منحته وقتاً طويلاً بلا نتيجة. لذلك، رحبت برؤية «الهيئة العليا للمفاوضات» للحل السياسي، والتي يتوقع أن تقدمها بريطانيا التي استضافت منتصف الأسبوع الفائت اجتماع «النواة الصلبة» في مجموعة «أصدقاء سورية»، إلى مجلس الأمن.
بالطبع، إن المحادثات التي شغلت ولا تزال تشغل العالم بين الوزيرين كيري ولافروف قد لا تفتح الباب أمام التسوية. هذا على الأقل شعور الأوروبيين والمعارضة السورية! فجل ما كانت تستجديه واشنطن من موسكو هو وقف محدود للنار وهدنة موقتة في حلب ومحيطها أساساً لوقف القصف الجوي للنظام، وتمرير المساعدات لتخفيف المأساة الإنسانية المتفاقمة نتيجة الحصار، والتفاهم على سبل الفصل بين الفصائل المعتدلة وتلك الإرهابية، لا سيما منها «جبهة فتح الشام» (النصرة) التي يعرف الطرفان أن المعارضة عموماً ليست في وارد الاستغناء عن «خدماتها» الميدانية. إنها نتائج متواضعة لضجيج لا أحد يعتقد بأنه سيفضي إلى التوافق على حل سياسي للحروب الأهلية التي تنهش سورية وتزيدها تفكيكاً. فالتسوية تزداد كل يوم تعقيداً. وحتى «الرؤية» التي قدمتها المعارضة مجتمعة (الائتلاف الوطني وهيئة التنسيق والفصائل المنضوية تحت عباءة الهيئة العليا للمفاوضات) لا تقيم لها روسيا وإيران أي اعتبار مهما علا التهليل الأوروبي لها. وعودتهما إلى حصار حلب دليل على مواصلتهما مشروع تمكين النظام من قضم كل المواقع التي خسرها منذ بداية الحرب. كما أن أصحاب «الرؤية» يدركون أن عليهم الاستعداد لمجيء إدارة أميركية جديدة لعلها تكون أكثر فاعلية من الحالية. ويهمهم بالطبع التهدئة في ظل استئساد حلفاء النظام.
إلى جانب المشهد المعقد لتداخل كل الحروب في حلب، إن ما أطال ويطيل أمد المحادثات بين واشنطن وموسكو أن الأولى وجدت نفسها مرغمة على الانخراط في أزمة سعت طويلاً إلى الابتعاد منها. لذلك، أوكلت أمرها أولاً إلى العرب ثم إلى الأوروبيين، ولم تجد أخيراً سوى التسليم لروسيا بدورها الراجح. أرغمها تنامي الإرهاب الذي عبر الحدود إلى دول الاتحاد الأوروبي والأطلسي ولم تسلم منه سوى دول قليلية. وهالتها موجات اللاجئين الذين أربكوا القارة العجوز وهددوا وحدتها واستقرارها ولحمة مجتمعاتها. مثلما هالها تفاقم الأزمة الإنسانية بعدما اتهمت بالتغاضي عن مستخدمي الأسلحة الكيماوية المحرمة دولياً. وهي اليوم لا تريد أبعد من محاربة «تنظيم الدولة» وغيره من «الجهاديين». في حين لا تبدو موسكو مستعجلة. ما يهمها هو شراء الوقت إلى حين وصول إدارة جديدة لعلها تبرم معها صفقة مقايضة تريحها من العقوبات الاقتصادية بسبب أوكرانيا وتثبيت دورها لاعباً دولياً وليس في الشرق الأوسط فحسب. ولن تتخلى إلى حينه عن النظام حتى وإن خرق هدنة يتفق عليها اللاعبان أو اللاعبون الكبار. ألم يفعل ذلك في اتفاق مماثل في شباط (فبراير) الماضي؟ ولا يخفي النظام وحلفاؤه مشروعهم لاستعادة السيطرة على كامل دمشق وريفها والمدن الرئيسية، أي ما سمي «سورية المفيدة». فلا تبقى سوى مناطق إدارة ذاتية للكرد في الشمالي الشرقي، وبعض جيوب مماثلة لأطراف المعارضة. غير هذه النتائج يعني أن التدخل الروسي في المحصلة لم يحقق «التحول الجذري» الذي تحدث عنه الرئيس بوتين بعد فترة قصيرة من تثبيت قاعدته في حميميم.
من هنا، استماتة النظام وحلفائه لاستعادة السيطرة على حلب. وكانت تركيا وراء فك الحصار الأول عن الأحياء الشرقية للمدينة قبل أن تلتف فصائل المعارضة بدعم وتخطيط منها على هذا «الإنجاز» بحصار مماثل لأحيائها الغربية. فهل جاءت مباركة موسكو لتدخل أنقرة في جرابلس مقدمة لمقايضة «المنطقة الآمنة» في الشمال بعاصمة الشمال؟ ثمة من يرى أن الرئيس أردوغان أصاب بتفاهمه مع نظيره الروسي على خطوة التدخل، أكثر من عصفور بحجر واحد: وفر حماية لحدوده بطرد «داعش». وأربك واشنطن التي اضطرت إلى مراعاته بدعوة الكرد، «جنودها» في الحرب على «تنظيم الدولة»، إلى الرضوخ لشروط أنقرة والانسحاب إلى شرق الفرات. وباتت هذه مستعدة للبحث معه في مواصلة الحرب على الإرهابيين إلى حد التنسيق في معركة الرقة. إنها «ضربة معلم» بلا شك. ولعله سيراوغ الروس في المقايضة. يثبت «المنطقة الآمنة» وبعد ذلك يساوم على مستقبل حلب. قد يكرر ما فعله أسلافه عندما دخلوا قبرص عام 1974 واحتلوا شمال الجزيرة ثم دفعوا أهلها، بعد تسع سنوات، إلى إعلان استقلال «جمهورية» لم يعترف بها أحد غيرهم!
بالطبع، الرئيس التركي كرر أن لا مطامع لبلاده في جارتها الجنوبية. كما أنه يعرف أن التركمان شمال سورية قلة قليلة بين بحر من العرب بخلاف الحال في شمال قبرص، حيث المكون التركي هو الغالب ديموغرافياً. ولكن، إذا كان مشروع روسيا وإيران تثبيت أقدام النظام وتمكينه من استعادة حلب مهما طالت الحرب، فلا ضير في أن تكون لتركيا منطقة تشكل منصة لعرقلة أي تسوية لا تراعي مصالحها، كما أنها يمكن أن تخفف عنها عبء اللاجئين، وتشكل مقراً لقيادة ما يبقى من المعارضة السياسية. ولن تجد هذه مفراً اليوم من درس خطواتها السياسية بالتنسيق مع حكومة بن علي يلدريم.