إنه مبنى صغير عادي في بقعة ضائعة من الصحراء قرب مدينة “رفح” حيث تلتقي حدود مصر وقطاع غزة وإسرائيل. تحت السقيفة المصنوعة من أغصان النخيل، يلتجئ عشرات الأفارقة، وبينهم نساء وأطفال، هرباً من حرارة الشمس الحارقة. بعضهم وصلوا قبل أيام، وبعضهم وصلوا لتوّهم. ولكنهم جميعاً ينتظرون إشارةً من المهرّبين البدو، الذين يتولون حراسة “المخيّم”. مع هبوط الظلام، يعطي “الريّس” إشارة الإنطلاق. مسافة صغيرة تقطعها سيارات “البيك أب” باتجاه الشمال الشرقي، ثم مئات الامتار الأخيرة سيراً على الأقدام في الليل المظلم حتى الصفوف الثلاثة للأسلاك الشائكة التي تمثّل الحدود الصحراوية بين سيناء المصرية والنقب الإسرائيلية.
في إحدى هذه “المزارع” التي يملكها بدوي من قبيلة “الطرابين”، التي تمتدّ أراضيها على جانبي الحدود، لقي خمسة أريتريين على الأقل حتفَهم قبل أسبوع واحد. ويبدو أن الأريتريين حاولوا الإستيلاء على أسلحة المهربين، الذين طالبوهم بمبالغ تفوق المبالغ المتّفق عليها، لإيصالهم إلى إسرائيل. وبعد ذلك بقليل، قتل حرس الحدود المصريون مهاجرين إريتريين آخرين. كما ضاع إريتريون غيرهم في الصحراء. في ما يشكل أفدح خسائر بشرية منذ 3 سنوات.
أربعة أيام في مكعّب من الباطون
في البداية، كانت إسرائيل ترحّب بالمهاجرين القادمين من “قرن إفريقيا”، خصوصاً حينما كانت أنظار العالم مصوّبة على نزاع دارفور. ولكن حجم الظاهرة سرعان ما دفع رئيس الحكومة السابق إيهود أولمرت، في يونيو 2007، لمطالبة الرئيس حسني مبارك بوضع حدّ لدفق المهاجرين. وبالنتيجة، مات 80 إفريقياً وهم يسعون للوصول إلى إسرائيل، حيث كانوا يأملون في حياة أفضل، أو على الأقل في الحصول على عمل. وقد مات بعض هؤلاء من الإعياء، ولكن معظمهم سقطوا برصاص رجال الشرطة المصريين.
وكانت سياسة “إطلاق النار بقصد القتل” قد تعرّضت، منذ 2008، لانتقادات “منظمة هيومان رايتس ووتش”، وكذلك لانتقادات “نافي بيلاي”، المفوضة السامية لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة، التي قالت: “لا أعرف بلداً آخر تقتل فيه قوى الأمن بصورة متعمدة في ما بيدو هذا العدد الكبير من المهاجرين غير المسلّحين. إن العدد المرتفع للضحايا يعني أن قسماً، على الأقل، من مسؤولي الأمن المصريين قد مارسوا سياسة “إطلاق النار بقصد القتل”. ولكن الإنتقادات ظلت بدون فائدة. فقد سقط 30 مهاجراً إفريقياً في العام 2010، وهذا يفوق حتى الآن عدد الضحايا في العام الماضي.
إن الإشتباك المميت الذي وقع في الأسبوع الماضي يمثّل تصعيداً جديداً. فلأول مرة، حسب علمنا، يقع إشتباك بين المهاجرين والمهرّبين. ولكن هذه الحصيلة لا تثير دهشة “إساياس”، وهو إريتري عمره 30 سنة عاش محنة مماثلة في العام الماضي. وكان “إساياس”، وهو من “سناف” القريبة من حدود إثيوبيا، قد هرب من الإضطهاد السياسي في بلاده في نهاية العام 2006 بعد أن دفع مبلغ 600 دولار لمهربين سودانيين. وبعد أشهر من التيه، فقد استقرّ في القاهرة، بدون عمل وبدون مال. وفي القاهرة، عرض عليه أحد المهرّبين المصريين أن يهرّبه إلى إٍسرائيل: “قالوا لي أنني سأجد عملاً بسهولة في إسرائيل، وأن الرحلة ستستغرق 3 ساعات وأنها تخلو من المخاطر..”.
وقد أمضى “إساياس” أربعة أيام مع 30 إفريقياً آخرين في “مكعبات باطون” مخصصة للمهاجرين: “لم يكن معنا ما نأكله أو نشربه. ولم يخبرنا البدو شيئاً عن نواياهم، وكانوا يهددوننا بأسلحتهم إذا حاولنا الخروج. كان الوضع متوتراً جداً”. وفي النهاية، تم اعتقال “إٍساياس” قبل أن يصل الحدود. وبعد 40 يوماً في السجن، سُمح له بالعودة إلى القاهرة بفضل تدخل “المفوضية العليا للاجئين”. وهو يعتبر نفسه سريعاً لأن سواه من المهاجرين اعتقلوا وأعيدوا إلى بلدانهم الأصلية رغم المخاطر التي يتعرضون لها: “لا نعرف ماذا ينتظرنا إذا عدنا، وخصوصاً إذا اعتبرتنا السلطات من المعارضين”.
إن “إساياس”، الذي لا يستطيع مغادرة القاهرة لأنه لا يملك جواز سفر، لا يحلم سوى بشيء واحد: أن يجمع مبلغاً كافياً للقيام بمحاولة جديدة لدخول إسرائيل سرّاً. ورغم الظروف المرهقة للرحلة، وخطر الموت، فإن عدد الأفارقة الراغبين في محاولة دخول إسرائيل آخذ بالتزايد. ويصل العدد إلى 7000 أو 8000 كل عام، حسب “خليل”، وهو ناشط سياسي بدوي في شمال سيناء. ويقول خليل: “المهرّبون ليس لديهم أية أخلاق. المال وحده يهمهم. وعلى الأقل، فالذي يمارسون التهريب مع غزة يفعلون ذلك بإسم قضية”.
من 500 إلى 2000 دولار للرحلة الواحدة
إن شبكات تهريب الأفارقة منفصلة كلياً عن الشبكات الفلسطينية، وهي منظمة تنظيماً شاملاً وعابرة للحدود. فبعض المهاجرين، مثل “أساياس”، يتم تهريبهم من إريتريا أو إثيوبيا أو السودان، عبر سواحل البحر الأحمر وصعوداً في وادي النيل. ويعيش سواهم في القاهرة. وهم جميعاً يرغبون في الفرار من الحروب أو الإضطهاد أو البؤس، وأحياناً من العنصرية التي يتعرضون لها في مصر.
لقد حصل بعض المهاجرين، ومعظمهم من السودانيين، على “بطاقات زرقاء” من المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة. ولكن ذلك لا يخوّلهم الحصول على عون مالي، كما لم يعد من حقهم الإنتقال إلى بلد غربي منذ العام 2005، أي منذ عقد إتفاق السلام بين سلطات الخرطوم والتمرّد الجنوبي. وبذلك لم يبقَ أمامهم سوى المنفى غير الشرعي، إما بحراً باتجاه أوروبا، أو عبر الحدود الإسرائيلية التي لا تبعد سوى 400 كيلومتراً عن القاهرة. وقال لنا “عوّاد”، وهو دارفوري عمره 32 سنة يعيش في القاهرة منذ العام 2003: “أعرف أنها رحلة خطرة، ولكن البقاء هنا بات صعباً إلى درجة أنني مستعد لركوب المخاطرة، حتى لو كلّفني ذلك حياتي”.
“عمليات التهريب تفيد الجميع”
يبدأ القسم الأخطر من الرحلة عند قناة السويس، وهي مدخل شبه جزيرة سيناء. ومن هذه النقطة يبدأ عمل المهربين البدو. وتتراوح كلفة النقل حتى الحدود بين 500 و2000 دولار، حسب الجنسيات والشبكات. فمع أن القناة تمثل نقطة إستراتيجية خاضعة للمراقبة، ومع أن شواطئ القناة تعتبر مناطق عسكرية محظورة، فإن المهربين لا يعدمون وسيلة لإيصال “شحنتهم”. وفي الجانب المقابل، تنتظر سيارات 4×4 الإشارة لكي تحمّل المهاجرين وتنقلهم بسرعة أثناء الليل نحو الحدود، وذلك باستخدام طرقات لا تغطيها مراقبة الشرطة.
إن “محمد”، وهو بدوي شاب من قبيلة “السواركة”، وهي قبيلة أخرى تعيش في شمال سيناء، يمارس عمل المهرّب منذ سنة، “لأنه لا يوجد عمل آخر هنا”. وقد غطى وجهه بكوفية حمراء لكي يتحدث إلى الصحافة، وقال أن الرحلة الواحدة تدرّ عليه 5000 دولار، يذهب قسم منها كأتعاب لأصحاب السيارات. وحيث أنه يؤمن 4 رحلات في الشهر، فإن ما يجنيه أفضل بكثير من العمل في الأنفاق التي تزوّد غزة بحاجاتها.
إن مهمة محمد تتوقّف في آخر “درب السودانيين”، وهي التسمية التي يطلقها البدو على الخط الرئيسي الذي يوصل إلى “المزارع” حيث يتم تجميع الأفارقة. وأحياناً، فإنه ينقل الأفارقة باتجاه الحدود. ولكن ليس إلى مسافة صغيرة جداً من الحدود لأن “هنالك أكثر من فريق، ولكل فريق عمله”. وتمثل الحدود اللحظة الأكثر خطراً. فخلال ثوانٍ، ينبغي فتح ثغرة في الأسلاك الشائكة، وإدخال المهاجرين السرّيين عبرها إلى الجانب الإسرائيلي، حيث ينتظرهم مهرّبون آخرون. ويتم اختيار نقطة العبور بدقّة، ومع أنه يمكن أن تتواجد فجأة دورية مصرية أو إسرائيلية، فإن الرواية المصرية الرسمية ومفادها أن حرس الحدود يطلقون النار “بسبب خوفهم من المهرّبين والإرهابيين” لا تقنع أحداً من البدو.
ويقول “خليل” أن “عدد رجال الشرطة لا يكفي لمراقبة 250 كلم من الحدود التي يعرفها البدو كما يعرفون ما في جيوبهم. وليس معقولاً أن تعثر الشرطة المصرية على المهاجرين بطريق الصدفة، فالواقع هو أن المهرّبين أنفسهم يسلّمون قسماً من المهاجرين للشرطة لكي يُتاح لهم أن يهرّبوا سواهم”. ويؤكّد محمد ذلك قائلاً: “بعض المهرّبين لديهم تفاهمات مع الشرطة، ويضيف أن “عمليات التهريب تفيد الجميع”، مشيراً إلى الفيلا الفخمة التي بناها رئيس شبكة التهريب التي يعمل فيها في “رفح”، مع أن عمره لا يزيد على 26 عاماً. التهريب يفيد الجميع، ما عدا الأفارقة الذين يدفعون ضريبة الدم!
ترجمة “الشفاف”، نقلاً عن “الفيغارو” الفرنسية