ظهرت “حكاية الوصيفة” للكندية مارغريت آتوود قبل ما يزيد على ثلاثة عقود، وعادت بعد وصول ترامب إلى البيت الأبيض، لتحتل قائمة أكثر الكتب مبيعاً في الولايات المتحدة. تنتمي الرواية إلى جنس الأدب القيامي (apocalyptic). وهذا الجنس قديم قدم الإنسان، وحاضر في العهد القديم، الذي أسهم في تشكيل مخيال الغربيين على مدار ألفيتين من السنين، إلى جانب مُحرّضات أنجبتها الأزمنة الحديثة من نوع التوسع الكولونيالي، وانتصار العلم في مجابهة الطبيعة، ونشوء المدن العملاقة، والدولة الشمولية الحديثة.
وعلى خلفية كهذه، لا يصعب تفسير عودة “حكاية الوصيفة” إلى دائرة الاهتمام، فوصول ترامب إلى السلطة يعني أن احتمال قيام دولة القوميين البيض، وانهيار النظام الديمقراطي، أصبح أقوى مما كان عليه في أوقات مضت. الأدب لا يشتغل على طريقة التحليل السياسي، ولكن في كل أدب جيّد ما يمكّن التحليل السياسي من تجاوز العواطف الأيديولوجية الجارفة، وملامسة الحقيقة بطريقة جديدة.
والواقع أن “حكاية الوصيفة” ليست فريدة، فقد التحقت بقائمة طويلة من الأعمال الأدبية، التي تخيّلت مصيراً مُظلماً للولايات المتحدة نفسها، ودول غيرها في الغرب، ولكنها احتلت مكانة خاصة لظهورها في زمن صعود الموجة النسوية هناك. تخيّلت آتوود جماعة متطرفة (داعشية، هذا أهم تعبير غني الدلالات دخل اللغة العربية منذ عقود طويلة) نجحت في السيطرة على ولايات أميركية مختلفة بالانقلاب العسكري، أسمت دولتها “جلعاد”، وفرضت قوانين أخلاقية متشددة من بينها تقييد الجنس، وعزل العذارى في مراكز خاصة، والخدمة في بيوت القادة، وتقديمهن لهؤلاء بهدف الإنجاب.
بعد “حكاية الوصيفة” بسنوات قليلة، كتب الإسرائيلي عاموس كينان روايته “الطريق إلى عين حارود”، ورسم فيها مشاهد وتداعيات حرب أهلية بين المتدينين والعلمانيين في إسرائيل،. فبعد نجاح المتدينين في فرض قوانينهم المتشددة، واحتلال مدن كثيرة، لم يبق من خيار لدى الفاعل الرئيس، وغيره من العلمانيين سوى اللجوء إلى “عين حارود”، التي لم تسقط بعد. في رواية كينان توابل كثيرة بشأن الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، أيضاً. وهذا لا يعنينا، الآن. المهم أن المشترك بين “حكاية الوصيفة” و”الطريق إلى عين حارود” يتمثل في محاولة اللجوء إلى مكان آخر بحثاً عن الحرية، في الأولى يهرب الناس إلى كندا، وفي الثانية إلى مكان يدعى “عين حارود”.
والمهم، أيضاً، أن سقوط مدن في قبضة جماعات مُتشدّدة، وحتى إعلان دول من فصيلة جلعاد الأميركية (خلافة البغدادي، مثلاً)، ومحاولة الهرب من مكان إلى آخر بحثاً عن الحرية، أشياء لا تنتمي في المشهدين العراقي والسوري إلى الروايات (وليتها كانت كذلك) بل تتجلى، الآن وهنا ملء السمع والبصر، كحقيقة يومية على الأرض. وهذا ليس موضوعنا.
فالمقصود أن أكثر الكوابيس سوداوية يمكن أن تصبح حقيقة واقعة وواقعية في يوم ما، وأن الحروب الأهلية بين متدينين وعلمانيين، وبين فاشيين وديمقراطيين، وبين مدافعين عن الحق في أسلوب معيّن في الحياة، ومعادين لهم، والهجرات الجماعية من أماكن موبوءة بالفقر والدكتاتورية والتطرّف، لم تعد مجرّد كوابيس.
بمعنى أكثر إثارة لأوجاع الرأس: ثمة أسئلة جدية وجديدة يفرضها القرن الواحد والعشرون على مفاهيم من نوع الشعب، والهوية، والدولة، والديمقراطية، والسلم الأهلي، لم تكن محط تساؤل قبل عقود قليلة. فلو احتكمنا إلى نتائج الاستفتاء في تركيا يوم أمس يتضح أن المدن الكبرى رفضت تعديلات أردوغان، التي تستهدف تفكيك نظام الدولة العلمانية التركية. ولو احتكمنا قبلها إلى نتائج الاستفتاء على الدستور، في ظل حكم “الإخوان” القصير في القاهرة، يتضح أن المدن الكبرى صوّتت ضده. وفي الانتخابات التي جاءت بترامب لم تكن نيويورك هي الحاسمة، بل مدن وبلدات حزام الإنجيل، حسب التعبير الأميركي. أسوأ ما فعله “المفكر العربي” في ثوبه القطري سخريته من البعض “الذي يعتقد أن العلمانية أسلوب حياة”، ولم يكن ليفعل ذلك دون إلغاء الصلة العضوية بين المدينة الحديثة وأسلوب الحياة.
على أي حال، لم يعد من الممكن تأجيل التفكير في أشياء من نوع أن الظاهرة الداعشية (الوحشية والناعمة، المعادية للديمقراطية، واللاعبة بها وعليها) عند العرب والعجم تقوم على، وتصدر عن، وتمثل قاعدة اجتماعية لا يجب التغاضي عن وجودها، وأن جانباً من المجتمع يشن الحرب على جانب آخر، وإن اختلفت الذرائع ولغة التعبير، في سياق الاحتكام إلى اللعبة الديمقراطية، أو الاستيلاء على السلطة بالقوّة. فالانتحاريون لم يهبطوا من كوكب آخر، بل أنجبتهم أيديولوجيا سائدة، وحواضن شعبية. هذه مجرّد علامات لم تتضح أبعادها الحقيقية بعد.
ولنقل: ثمة خيارات في عالم اليوم، إما جلعاد، والخلافة، أو دولة الحرب الأهلية التي تسخن أو تبرد من حين إلى آخر. فالمجتمعات المتوازية، في مدينة واحدة، أو دولة واحدة، لم تعد قادرة على العيش والتعايش معاً. وقد يتجلى، في يوم ما، أفق جديد. فبدلاً من الحروب الأهلية يمكن تحقيق السلم الأهلي، والاستقرار السياسي، لا بفرض إرادة جانب من السكان على جانب آخر، سواء باللعبة الديمقراطية، أو الانقلاب المُسلّح، أو عنف الدولة، بل بكانتونات على طريقة سويسرا، مثلاً، أو الصين (نظامان في دولة واحدة)، ليس على أسس قومية أو لغوية أو طائفية، بل استناداً إلى هويات ثقافية مختلفة، وأسلوب حياة مختلف، وقوانين تضمن الحق في نظام تعليم خاص، وأحوال شخصية خاصة، يُصوّت عليها سكّان هذه المقاطعة أو تلك، ويحق لرافضيها الخروج والعيش في مقاطعات لا توافق عليها. ولنرى إلى أين يرحل الناس، ومن يربح السباق في حقول الإدارة الذاتية، والاقتصاد والسياسة والعلوم والثقافة بين تلك المجتمعات.
وحتى يحدث ذلك لن يشكو أحد، في بلاد العرب والعجم، ندرة حكايات الوصيفة، أو يستهجن استيهامات الطريق إلى “عين حارود”.
khaderhas1@hotmail.com
*
صورة المقال حسب “الشفاف”: “ساعة يوم القيامة” (أو “ساعة منتصف الليل”)، حسب “جمعية العلماء الذريين الاميركيين” (كان “أينشتاين” أحد مؤسّسيها، ومعظم أعضائها من الحائزين على “جائزة نوبل”) هي الآن “دقيقتان ونصف قبل نهاية العالم”! وكانت قد ظلّت في مستوى 3 دقائق قبل ساعة القيامة” خلال السنوات الأخيرة، وهو أخطر مستوى تبلغه منذ سنوات الثمانينات! وهذا حسب إعلان أصدرته الجمعية في 27 يناير 2017، بعد انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة. يعود تاسيس “ساعة يوم القيامة” إلى يونيو 1947. والفكرة هي إمكانية أن تقوم البشرية بتدمير نفسها بنفسها، بسبب تضافر القدرات التقنية، وعوامل سياسية ومناخية.. وغيرها.
يمكن مراجعة إعلان العلماء الذريين الأميركيين عن “تقديم الساعة إلى “دقيقتين ونصف قبل نهاية العالم” على الرابط التالي. أو مشاهدة الفيديو أدناه: