لم أقصد القامشلي منذ عشرين سنة. فقد ذهبت إلى شمال شرق سوريا، كطالب دكتوراه في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى، برفقة صديقين في أواخر التسعينات لاستكشاف تلك المنطقة، في رحلة قادتني إلى كل من الرقة ودير الزور والحسكة والقامشلي. ومنذ العام 1997، عدت إلى مدن سورية أخرى في عدة مناسبات ولكن لم تتسن لي زيارة روجاڨا. منذ عشرين سنة، نزلت في فندق سميراميس المحترم. فقد شُيِّد هذا الفندق الفاخر على طراز الآرت ديكو في الخمسينات، وهي “العصر الذهبي” لمقاطعة الجزيرة، عندما كانت القامشلي المركز الاقتصادي لتلك المنطقة الغنية المنتجة للحبوب والقطن. وكان فندق سميراميس يستقبل التجار وتجار الأقمشة وطحّاني حلب الذين كانوا يقصدون المنطقة لشراء المحاصيل، في ما كان وجهاء القامشلي يقصدون مطعم الفندق لتذوق النبيذ الفرنسي بمختلف أنواعه وتناول شرائح اللحم المعروفة بـ “فيليه مينيون”. كانت مدينة القامشلي تضم بشكل أساسي مسيحيين، إذ لم يكن النزوح الريفي قد طالها بعد. فقد هرب الأرمن والسريان من تركيا نحو الأراضي الخاضعة للسيطرة الفرنسية في ظل الانتداب الفرنسي الجديد لسوريا إثر الحرب العالمية الأولى، ووضعهم الفرنسيون في تلك المنطقة شبه الفارغة بغية الحد من مطامع مصطفى كمال أتاتورك في شمال سوريا. وجعل المسيحيون الصحراء مزدهرة باستخدام الأراضي الممنوحة لهم من قبل السلطات.
عناقيد الغضب
ولكن عندما رأيت القامشلي عام 1997، كان العصر الذهبي قد ولّى. فالرفاهية المفرطة التي كانت تطبع فندق سميراميس قد تلاشت، تمامًا كالمدينة، إذ زال الطلاء واختفت الشمعادين لتُستبدل بمصابيح النيون الرخيصة. وأصبحت غرف الفندق تضم عدة أسرّة مفردة، بما أن معظم الزبائن هم اليوم عمال يتشاركون الغرف. وباتت “باريس الصغيرة” (وهو لقب يُطلق على القامشلي) المشهورة في الخمسينات محاطة بمخيمات غير نظامية. فمع النزوح الريفي، تزايد عدد سكان المدينة عشرة أضعاف. كما كانت تمتد على مد العين والنظر ضواحٍ هائلة مؤلفة من بيوت قرميدية على الطراز النمطي الشائع، بحيث كان التصميم الفني يتناقض بشدة مع وسط المدينة النظيف، الذي كان يشبه آنذاك المنطقة المركزية في حلب. وكانت القامشلي تضم سوقًا شعبيًا يعمل فيه السكان الريفيون بشكل ناشط، بالإضافة إلى شوارع تسوق شبيهة بحي العزيزية، وهو الحي المسيحي الغني في حلب. تناولنا العشاء في مطعم ممتاز شبيه بمطاعم حلب، غير أنه لم يكن يملك سوى قارورة نبيذ فرنسي واحدة فقط.
كانت المدينة والريف متناقضين بالكامل. ففي حين كانت تحفل “الساحة الفرنسية” في القامشلي بأبنيتها الفخمة ومتاجرها الغربية، كان الجزء الباقي من القامشلي يشبه قرية مفرطة النمو، ولكن أكثر حداثة نوعًا ما. وكانت مساكن المدينة مصنوعة من قوالب بناء إسمنتية وذات سقوف إسمنتية وكان كل منزل موصولًا بشبكة الكهرباء. أما في الريف، فكانت البيوت ذات جدران طينية وسقوف مصنوعة من القش وكانت معظم القرى غير موصولة بشبكة الكهرباء. كان الفلاحون في الأجزاء الباقية من سوريا قد حصلوا على أراضٍ خلال إصلاح الأراضي في الستينات، ما عدا محافظة الحسكة في القامشلي. فقد احتفظت الدولة بالأرض المصادرة وقامت بتأجيرها لمالكيها السابقين، وعام 1970، أوقف حافظ الأسد توزيع الأراضي لتجنب إنشاء طبقة صغيرة من المالكين الأكراد.
كان الهدف من ذلك دفع الأكراد للهجرة إلى المدن السورية الكبرى حيث يكون “تعريبهم” أكثر ترجيحًا. فالوحدوية الكردية كانت تُعتبر خطرًا محتملًا من قبل السلطات السورية حتى قبل نظام البعث. في ظل النظام “الليبرالي” عام 1961، جُرد عشرات آلاف الأكراد من جنسيتهم السورية وأصبحوا “بدون”، أي مقيمين بصورة غير قانونية في بلدهم. تعهد الرئيس بشار الأسد بمنح الجنسية لجميع “البدون” بعد تمرد الأكراد عام 2004، في محاولة لتهدئة الأكراد، غير أنه لم يتذكر تعهده إلا بعد اندلاع الثورة عام 2011.
كان هناك فئتان من “البدون”: “البيض” و”الحمر”. كان يُسمح للـ”بيض” بالتنقل بحرية داخل محافظة الحسكة مع أوراقهم البيضاء التي يحصلون عليها من مخاتير القرى. أما “الحمر” فكان لديهم رخصة من دمشق تتيح لهم حرية التنقل عبر كافة أنحاء سوريا. وكان يُحظَر على الفئتين تملّك الأراضي أو المباني. فإذا ما أرادتا تملك عقارات، كان لا بد من وجود كفيل، هو إما مواطن سوري كردي محظوظ أو صديق عربي. ويمكن لأولاد “البدون” ارتياد المدرسة حتى سن الثامنة عشر والخضوع لامتحان البكالوريوس، ولكن لا يحق لهم الحصول على شهادة أو ارتياد الجامعات، سواء أكانت سورية أم لا. أما الأكراد الذين يملكون جنسية سورية فيمكنهم التنقل بحرية ولكنهم عرضة لتمييز واسع النطاق على خلفية انتمائهم العرقي. بالتالي، أدى وضع “البدون” الأكراد الذين يبلغ عددهم 300 ألف فرد، عام 2011 إلى تأجيج حدة التظاهرات ضد النظام السوري. ففي العقد الذي سبق اندلاع الثورة في سوريا، كان الوضع الاقتصادي والاجتماعي لمقاطعة الجزيرة يتدهور، إذ أن الجفاف ونقص الاستثمارات والقيود الإضافية المفروضة على البناء وإنشاء شركات جديدة جعل وضع تلك المنطقة أكثر تفجرًا من وضع بقية المناطق في سوريا.
مدينة منقسمة
في آذار/مارس 2017، أصبح فندق سميراميس دار البلدية الجديد الخاص بالقامشلي والخاضع لـ”حزب الاتحاد الديمقراطي” الكردي منذ العام 2013. فدار البلدية الأصلي خاضع لسيطرة الجيش السوري وغير متاح لـ”حزب الاتحاد الديمقراطي”.
القامشلي مدينة مقسمة بين ثلاثة جيوش: “حزب الاتحاد الديمقراطي” والجيش السوري وميليشيا السوتورو. يسيطر “حزب الاتحاد الديمقراطي” على معظم المدينة، في حين يسيطر الجيش السوري على “المربع الأمني” بين السوق والحدود التركية، ومحيط المطار. يخضع الحي المسيحي جزئيًا لسيطرة السوتورو، وهي ميليشيا مسيحية مرتبطة بالنظام السوري، إذ أن الشوارع مقفلة بأواني الزهور البسيطة، التي ترسم حدود أراضي السوتورو. ولا يدخل عناصر “حزب الاتحاد الديمقراطي” والشرطة الكردية (الأسايش) المنطقة الخاضعة لسيطرة السوتورو تجنبًا لأي مواجهات. فعام 2016، حاولت الأسايش السيطرة على الحي المسيحي، مما نتج عنه اشتباكات عنيفة أدت إلى مقتل عنصر واحد من السوتورو وثمانية عناصر من الأسايش. بالمقابل، يمكن للمدنيين التنقل بسهولة من حي إلى آخر.
يمكن للقوات الكردية الاستيلاء بسهولة على جزء المدينة الخاضع لسيطرة الحكومة. إلا أن الحكومة ستعمد عندها على الأرجح إلى إقفال المطار، وهو وسيلة اتصال أساسية لبلوغ دمشق وبيروت ومدن أخرى في الخارج، ولتلقي الأدوية. فضلًا عن ذلك، سينتقم النظام السوري من منطقتي تمركز الأكراد عفرين والشيخ مقصود الواقعتين في حلب، واللتين تمر إمداداتهما عبر المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة. علاوةً على ذلك، لم يعد الجيش الكردي مؤيدًا للأعمال العدائية ضد دمشق. لذلك، ينبغي على “حزب الاتحاد الديمقراطي” التوصل إلى اتفاق مع الأسد للسيطرة على شمال سوريا. ويجب ألا يشكل حكم “حزب الاتحاد الديمقراطي” مصدر قلق لدمشق.
التقسيم بحسب البلدات والتكريد
أنشأ “حزب الاتحاد الديمقراطي” إطارًا إداريًا جديدًا وفقًا للمبادئ التي وضعها عبد الله أوجلان. تضم كل وحدة أو ما يعرف بـ“جمعية”، وهي حوالي ألف شخص وتديرها لجنة منتخبة مؤلفة مما يقارب خمسة عشر شخصًا يمثلون مختلف عائلات الحي أو القرية. يجب على الجمعية معالجة مشاكلها اليومية ولعب دور الوسيط بين الأفراد والإدارات. وتُعد الجمعية قوائم المستفيدين من عمليات توزيع الوقود والخبز، كما تلعب دورًا تعليميًا من خلال تنظيم دورات اللغة الكردية. بالنسبة إلى “حزب الاتحاد الديمقراطي”، تشكل الجمعيات العنصر الأساسي من شبكة أراضيه. تحمل كل جمعية اسم شهيد فيما تزين صور أوجلان وعدة شهداء جدران المنازل. ويُفترض أن تتمتع الجمعية بالاكتفاء الذاتي نسبيًا من الناحية الاقتصادية، مع قيام الجمعيات ببعض الأعمال التجارية في ما بينها. لذلك، يجب على الجمعية أن تشجع إنشاء تعاونية إنتاجية تضم حوالي خمسة عشر عاملًا. ففي نهاية المطاف، يتمثل الهدف بإبعاد التجار وفرض المقايضة العامة على أساس محلي. غير أن السلطات الجديدة لا تشدد على الناحية الاقتصادية من إطار العمل، بما أن توحيد روجاڨا والمعركة ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” يشكلان الأولوية بالنسبة إليها وهي لا تريد أن يثور السكان.
إن إطار العمل الجديد الخاص بروجاڨا يشجع الطبقة العاملة وطبقة الفلاحين الصغيرة على حساب مالكي الأراضي والطبقة الوسطى الحضرية، الذين يخشون أن يقعوا ضحية ثورة. فالشروخات القديمة بين السكان الحضريين والريفيين من جهة وسكان المدن القدامى والجدد من جهة أخرى تصبح انقسامات ملموسة. تعارض الأقلية المسيحية بشدة نظام “حزب الاتحاد الديمقراطي” وتتطلع إلى عودة النظام السوري. وسبق أن غادر نصف مسيحيي القامشلي المدينة في حين لم يكن القتال يطالها. فالتجار والمحترفون الليبراليون المسيحيون يهربون من الركود الاقتصادي عوضًا عن القتال. إلا أن التباطؤ الاقتصادي يسبب مشاكل خطيرة لأولئك الذين بقوا في المدينة. وسيولد تكريد نظام التعليم موجة هجرة جديدة لدى المسيحيين والعرب المسلمين الذين لا يتخيلون مستقبلهم في مقاطعة كردية. بعد فرض اللغة الكردية في معظم المدارس العامة، تريد السلطات أيضًا فرضها على المدارس المسيحية الخاصة بدءًا من أيلول/سبتمبر 2017. كما ستُلزم المدارس الثانوية العامة بتعليم اللغة الكردية. وسيجد آلاف المعلمين العرب أنفسهم عاطلين عن العمل بعد استبدالهم بمعلمين أكراد تم اختيارهم من بين مؤيدي “حزب الاتحاد الديمقراطي”.
من القامشلي إلى قامشلو
تشهد القامشلي عملية تكريد متقدمة. من الصعب معرفة إلى أي مدى سيصل “حزب الاتحاد الديمقراطي” في مشروعه الاقتصادي المتمثل بـ”التعاونية”، ولكن لن يؤدي هذا الأخير على الأرجح سوى إلى عكس مسار علاقات السلطة بين الأكراد والعرب. فكما قال لي مفكر كردي عام 2011: “لطالما عاش الأكراد كأقلية في أراضيهم، وبالتالي سيتوجب على العرب تعلم العيش كأقلية في الأراضي العائدة للأكراد عبر التاريخ إذا أرادوا البقاء”. تشكل الأيديولوجية الكردية القائمة على مبادئ المساواة ستارًا للمشروع القومي الكردي. ويحاول “حزب الاتحاد الديمقراطي” الإبقاء على هذا الستار لأطول وقت ممكن من أجل التحالف مع القبائل العربية في المنطقة ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” والمحافظة على الدعم الدولي. بالطبع، قد يعتبر البعض أن مشروع “حزب الاتحاد الديمقراطي” يشكل انتقامًا لسنوات القمع تحت حكم السلطات العربية وخطوة لصالح العدالة الاجتماعية للشعب الكردي. ولكن ابن خلدون يعتبر أن المشروع السياسي لـ “حزب الاتحاد الديمقراطي” هو مجرد عملية نهب جديدة لصالح عصبية جديدة. لا بد أيضًا من أخذ العامل الطائفي بعين الاعتبار في عملية التطهير العرقية السياسية، بما أن الطبقة الوسطى الكردية الموالية لـ “الحزب الديمقراطي الكردستاني” هي أيضًا ضحية. فالقامشلي أصبحت قامشلو وفندق سميراميس، الذي كان قبلة أنظار الطبقة المخملية في “باريس الصغيرة” في الخمسينات، بات يأوي أطفال البروليتاريا الزراعية. هذا وقد فرّ صاحب الفندق السابق، وهو من السريان الكاثوليك، إلى كندا وولت أيام النبيذ الفرنسي.