إبراهيم العريض وعبدالرحمن المعاودة في شبابهما
إنه أبو الفنون وأولها منذ زمن الإغريق والرومان بسبب قدرته على الجمع والموالفة بين عناصر فنية متعددة، وبالتالي فهو الأقدر على التعبير من سائر الفنون الأخرى. وهو الأداة الأكثر فعالية التي إستخدمها فقهاء اللغة والنحاة وحتى القضاة لنقل أفكارهم” وتجاربهم ومعارفهم إلى الخاصة والعامة. إنه المسرح، الذي هو جنس من الأجناس الأدبية، بل الجنس الأحدث نسبيا مقارنة بالشعر الذي ظل متسيدا ومهيمنا على المجتمعات حتى القرن التاسع عشر.
من جهة أخرى يتميز الفن المسرحي بأنواعه المختلفة. فهناك مثلا المسرحية المأساة، والمسرحية الهزلية الفكاهية، والمسرحية المسلية، ومسرحية المعجزات – التي تمثل مشاهد من حياة الأولياء والقديسين – والمسرحية الغنائية الإستعراضية، والمسرحية العبثية، ومسرحية التجريب وغيرها.
على أنه رغم كل هذه الحقائق يبقى ما كــُتب عن المسرح في منطقة الخليج مقارنة بغيره من الفنون قليل جدا. ولعل تفسير ذلك هو أن هذا الفن لم يــُعرف في المنطقة إلا حديثا طبقا للفنان والمخرج البحريني خليفة العريفي الذي يقول “لا يوجد ما يشير إلى أن الحضارات الكبرى التي مرت بها جزر البحرين قد عرفت شيئاً من المسرح بدءاً من العصر الدلموني ومروراً بالعصور الإسلامية وانتهاءً ببداية القرن العشرين”.
غير أن البحرين يحق لها أن تفتخر بأنها سبقت كل شقيقاتها الخليجيات – بإستثناء العراق الذي عــُرض فيه أول مسرحية في عام 1880 وكانت دينية مسيحية من إعداد الشمـّاس حنا حبشي – لجهة دخول عالم المسرح، مثلما سبقتهن في مجالات حضارية أخرى. فالعمل المسرحي الأول الذي شهدته البحرين كان في عام 1925 حينما عــُرضت مسرحية “القاضي بأمر الله” من فوق خشبة مسرح مدرسة الهداية الخليفية. وهذا إنجاز مثير، خصوصا إذا ما عرفنا أنه قبل 75 عاما من ذلك التاريخ لم تعرف حتى دول أوروبية متقدمة كالنرويج مثلا الفن المسرحي لأن تجذر ونمو هذا الفن كان محصورا – حتى ذلك التاريخ – في عدد محدود من الدول الأوروبية مثل اليونان وإيطاليا وفرنسا وأسبانيا وإنجلترا طبقا لما ذكره الدكتور محمد علي الخزاعي في كتابه “دراسات في الأدب المسرحي”. وفي عام 1928 عرضت من فوق مسرح مدرسة الهداية الخليفية مسرحيتان أخريان هما “ثعلبة” و”وفود العرب على كسرى”، وفي عام 1939 مسرحية “ذي قار”
والملاحظ أن بدايات المسيرة المسرحية للبحرين طغى عليها المسرح التاريخي، الأمر الذي عزاه البعض إلى إكتشاف المدرسين – والمدرسات – العرب الذين إستقدمتهم البحرين من مصر وسوريا ولبنان وفلسطين أن المسرح هو أفضل وأسهل وسيلة لإيصال معاني التاريخ الإسلامي لطلابهم.
ونرى هذا جليا في عناوين كل المسرحيات التي قدمت في عقود العشرينات والثلاثينات وبدايات الأربعينات. فإضافة إلى المسرحيات آنفة الذكر، عــرضت المدرسة الخليفية للبنات بالمنامة مسرحية “فضائع الطليان في طرابلس الغرب”، وعرضت المدرسة الأهلية، التي أسسها الشاعر الكبير إبراهيم العريض في المنامة في بناية الحاج منصور العريض التي تحولت لاحقا إلى مقر لإدارة المعارف، مسرحيتي “وامعتصماه” و”بين الدولتين” إضافة إلى مسرحية “وليم تل” بطل إستقلال سويسرا التي كتبها العريض بالإنجليزية وشخصها نفس الطاقم الذي مثل مسرحية “وامعتصماه”.
بل نجد ذلك أكثر وضوحا في المسرحيات التي عـُرضت من على مسرح مدرسة الإصلاح الأهلية، التي أنشأها الشاعر المعروف عبدالرحمن المعاودة، وكانت تقع بالقرب من السوق القديم على الشاطيء الغربي للمحرق. حيث تم تقديم مسرحيات “سيف الدولة بن حمدان”، و”الرشيد وشارلمان”، و”سقوط بغداد”، و”عبدالرحمن الداخل”، وكلها مسرحيات تاريخية شعرية. ولهذا السبب أطلق على المعاودة لقب “أبو المسرح الشعري” إضافة إلى لقبيه الآخرين وهما “شاعر الشباب” و”شاعر المناسبات”.
ويقول الدكتور الخزاعي في كتابه المشار إليه آنفا أن العريض – المولود في عام 1908 – كتب وأخرج وطبع مسرحية “وامعتصماه” في عام 1932 اي وهو في ريعان شبابه، وبالتالي فهي محاولته الأولى في التأليف المسرحي. ورغم ذلك كانت محاولة تبشر بموهبة واعدة لو لم يستسلم العريض لسطوة الشعر، بل كان بالامكان أن تظهر تلك المحاولة بصورة أفضل وأعمق لولا أن هدفها كان تبسيط دروس التاريخ الإسلامي للطلبة بإعتراف العريض نفسه.
وتعتبر أربعينات القرن العشرين عقدا مفصليا في تاريخ الحركة المسرحية البحرينية لأنه شهد إنتقال قيادة الحركة من مسارح المدارس الرسمية والخاصة إلى مسارح الأندية الأهلية التي بدأت في الظهور تباعا منذ تلك الفترة. ومن أمثلة هذه الأندية التي أخذت على عاتقها النهوض بالحركة المسرحية، قبل سنوات من دعم وتشجيع المؤسسة العامة للشباب والرياضة للفرق المسرحية: نادي البحرين ونادي الإصلاح بالمحرق، ونادي العروبة والنادي الأهلي بالمنامة، ونادي النهضة بالحد. ومما لاشك فيه ان هذه الأندية، بقيادتها للحركة المسرحية البحرينية، أدخلت عليها صورا ومفاهيم جديدة مثل الإبتعاد عن المواضيع التاريخية القديمة من تلك التي لا تمت إلى روح العصر، والتركيز بدلا من ذلك على القضايا العامة المعاصرة، وإنْ لم تتخل نهائيا عن تقديم المسرحيات التاريخية بدليل أن نادي البحرين قدم مسرحية ” مجنون ليلى” لأحمد شوقي في عام 1940 ، ثم قدم في عام 1943 مسرحيتي “كليوباترا” لشوقي، و”قيس ولبنى” لعزيز أباظة.
وبالتزامن مع هذه التحولات ووجود تلك البيئة الثقافية والأدبية الخصبة، ظهر العديد من الكتاب الذين أخذوا على عاتقهم كتابة نصوص مسرحية تعالج قضايا البحرين والعالم العربي الإجتماعية والسياسية المعاصرة بصيغة كوميدية ناقدة وساخرة، كما ظهر العديد من النقاد الذين تخصصوا في نقد المسرح البحريني.
ولعل من أبرز من عمل في الحقل المسرحي في حقبة الأربعينات كمخرج عميد الصحافة البحرينية المرحوم الأستاذ محمود المردي الذي أخرج في عام 1941 مسرحية “لولا المحامي” للبناني سعيد تقي الدين، وكانت مسرحية جادة من خمسة فصول تدور أحداثها حول الإقطاع في القرية اللبنانية. وبهذا يكون المردي أول بحريني يقدم مسرحية حول أحداث إجتماعية من واقع الحياة السائدة في المجتمعات العربية طبقا للكاتبة “طفلة الخليفة” في بحثها الموسوم بـ “تجاربنا المسرحية بين الماضي والحاضر”.
بعد ذلك قدم المردي سلسلة من المسرحات من أهمها “دموع” في عام 1944 ، و”نخب العدو” في عام 1946 وهي مسرحية كوميدية من ثلاثة فصول حول الصراع الطائفي في القرية اللبنانية، و”الهادي” في عام 1947 وهي مسرحية أعدها المردي بنفسه ودفع فيها لأول مرة بفتاة بحرينية كي تمثل من فوق خشبة المسرح، وأخيرا مسرحية “عبدالرحمن الناصر” للمصري عزيز أباظة التي تم عرضها في عام 1947 في مسرح النادي الأهلي، وعُدّت بمثابة علامة بارزة في تاريخ الحركة المسرحية البحرينية طبقا للشاعر قاسم حداد.
وفي أوائل عقد الخمسينات كانت البحرين على موعد مع ظهور أولى فرقها المسرحية (ندوة الفن والأدب). ولم ينتصف هذا العقد إلا وكانت الفرقة المسرحية الثانية قد ظهرت تحت إسم “الفرقة التمثيلية المتنقلة” والتي هدفت إلى نقل النشاط المسرحي إلى مناطق وقرى البحرين المختلفة، لكنها توقفت بعد أن قدمت في عام 1955 ثلاث مسرحيات قصيرة في عرض واحد هي: مسرحية “الإنسانية المشردة”، ومسرحية “صرخة لاجيء” من تأليف وإخراج محمد صالح عبدالرزاق، ومسرحية “الضمير” من تأليف وإخراج صلاح المدني. وفي عام 1956 شكل بعض أعضاء هذه الفرقة كيانا جديدا عــُرف بإسم “فرقة البحرين” التي تحولت بعد عام إلى “أسرة هواة الفن” وهي مجموعة من الشباب جمعت بين فنون الغناء والعزف والتمثيل والفن التشكيلي، قبل أن تحصر نشاطها في المسرح. وقدمت “أسرة هواة الفن” منذ بدء مسيرتها الفنية في عام 1957 مجموعة كبيرة من الأعمال المسرحية مثل: “إخلاص” من إقتباس يوسف أحمد حسين، و “الأمل” من تأليف وإخراج المدرس المصري عبدالرحمن رفعت النجدي، و”أعمامي الثلاث” من تأليف عبدالله أحمد وإخراج عبدالرحمن بركات. هذا قبل أن تتوقف “أسرة هواة الفن” في عام 1975 عن تقديم المسرحيات، مفضلة تقديم الفواصل التمثيلية في الحفلات الغنائية والموسيقية.
أما في عقد السبعينات فإن الحركة المسرحية في البحرين راحت تأخذ مسارا أكثر تنظيما وإجادة – طبقا لما كتبه الدكتور منصور سرحان في جريدة الأيام – وكان ذلك بسبب إزدهار حركة الكتابة في البلاد من جهة، ومن جهة أخرى بروز فرق مسرحية جديدة في تلك الحقبة. من هذه الفرق مسرح الاتحاد الشعبي الذي تأسس بناء على دعوة من نادي إتحاد الشباب بالمحرق في تجمع للأدباء والمثقفين، لكنه إنشق في عام 1970 على نفسه بسبب كثرة أعضائه وتباين وجهات نظرهم وإنتماءاتهم، ليتولد من رحم هذا الإنشقاق فرقة المسرح البحريني الذي تحول لاحقا إلى “مسرح أوال”، وهو المسرح الذي قدم منذ ولادته عشرات المسرحيات المحلية والعربية والعالمية، وشارك في العديد من المهرجانات العربية والإقليمية، ووقفت وراءها اسماء ادبية وفنية رفيعة من أمثال قاسم حداد ومحمد عواد وراشد المعاودة وراشد نجم وعبدالله يوسف وخليفة العريفي. وعلى نفس المنوال ساهم مسرح الجزيرة منذ ولادته في سبعينات القرن الماضي في إثراء الحركة المسرحية البحرينية من خلال أعماله الموزعة ما بين المحلية والعالمية ومشاركاته في المهرجانات الخارجية.
ومما لوحظ على الاعمال المسرحية التي قدمت في حقبة السبعينات والثمانينات ومطلع التسعينات تميز معظمها باللغة النقدية الساخرة، وتناولها لقضايا سياسية واجتماعية من تلك التي كانت تشغل بال السواد الاعظم من الناس بأسلوب كوميدي، وباستخدام اللهجة العامية. نجد هذا متجسدا في الاعمال التي قدمها “مسرح أوال” آنذاك مثل مسرحيات “كرسي عتيج”، و”السالفة ومافيها”، و”أنا وإنت والبقرة”، و”سبع ليالي”، و”ح.ب”، و”سوق المقاصيص”، و”خميس وجمعة”، و”بنت النوخذة”، و”حليمة ومنصور”، و”البراحة”، و”الطبول”، وغيرها. ومن خلال هذه الأعمال وما تبعها برزت أسماء بحرينية كثيرة في الإخراج والتأليف المسرحي، غير من تم ذكرهم في سياق الحديث عن مؤسسي “مسرح أوال”، من أمثال قحطان القحطاني، وعبدالله ملك، وعقيل سوار، وعلي الشرقاوي، وجمعان الرويعي، وجاسم شريدة، وعبدالله سويد، وأمين صالح، وإبراهيم بحر، وإبراهيم خلفان، وإبراهيم عيسى، وإبراهيم الحمادي، وخلف أحمد خلف، وسامي القوز، ويوسف السند، وعبدالواحد درويش، وغيرهم.
وفي مطلع التسعينات شهدت البحرين ميلاد فرقة مسرحية جديدة تحت إسم “مسرح الصواري” الذي تميز بتقديم فنون مسرحية جديدة من تلك التي تجبر المشاهد أن يتفاعل مع العرض بكل حواسه “فيتحول هو إلى ممثل، ويتحول الممثلون إلى مشاهدين” طبقا لما كتبه أحدهم عن عروض “مسرح الصواري”، ومحاولته الدؤوبة للخروج عن المعتاد. ومن بين من برزوا من خلال “مسرح الصواري” الممثل والمخرج المسرحي “عبدالله السعداوي” مخرج مسرحية “الكمامة” لألفونسو ساستري التي حصدت جائزة الإخراج في مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي في عام 1994 ، والفنان الناقد يوسف الحمدان وزميله إبراهيم خلفان، والفنان خالد الرويعي.
ويمتدح “أحمد الشملان” إبن المرحلة المسرحية السبعينية تجربة “مسرح الصواري” في كتابه “ملامح التجريب في المسرح البحريني” واصفا إياها بالمتألقة عربيا وعالميا. وطالما أتينا على ذكر كتاب الشملان فلا مناص من القول أنه كتاب مهم لأنه يوثق ويؤرخ لمرحلة هامة في تاريخ المسرح البحريني هي مرحلة الثمانينات والتسعينات التي تميزت بالثورة على ما كاد سائدا في السبعينات من رؤى ومفاهيم وتقنيات مسرحية. ومن جانب آخر تأتي أهمية الكتاب من كونه يتطرق إلى مشاكل المسرح البحريني لجهة ضعف إمكانياته مقابل طموحات مبدعيه اللامحدوده، وعدم وعي المتلقي بأهمية المسرح كحاجة يومية ثقافية ملحة، وقلة الدعمين الرسمي والأهلي إلا فيما ندر.
وفي مطلع التسعينات تكونت أيضا فرقة مسرحية أخرى تحت إسم “مسرح جلجامش”، لكنها لم تشهر رسميا إلا في عام 1998 . وقد ركز هذا المسرح في أنشطته وعروضه على التعبير الحركي والأعمال التاريخية.
aaaelmadani@gmail.com