الدستور، بدون فذلكة، هو وثيقة تعاقد بين الشعب صاحب السلطة (أو المفترض أن يكون كذلك) وبين ممثليه وحكامه، حول مباديء وشكل وأهداف الدولة التي يريد أن يعيش فيها، وكيفية ممارسة السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية. ولكن العلاقة بين الدستور والدين تثير (خصوصا في منطقتنا) تساؤلات حائرة، ونقاشا لا يتوقف بين داعٍ لفض التشابك، وبين متحمس لزيادة التلاحم.
وبدلا من الدخول في جدل فلسفي أو سفسطي؛ فلنحاول أن نستكشف قبل كل شيء ما تقوله بعض دساتير العالم في هذا الشأن، عن طريق مراجعة دساتير عيِّنة كبيرة تصل إلي 64 من دول العالم، زائد الاتحاد الأوروبي (27 دولة)، تمثل معا أكثر من 80% من سكان العالم. وقد سبق لنا التعرض لهذا الموضوع، ولكن التغييرات الدستورية الجاري مناقشتها حاليا في مصر تدعونا لإعادة عرضه بعد مراجعة المادة المستخدمة وتوسيع نطاق العينة، خصوصا وأن بعض الصحف “القومية” تنشر كماً لا بأس به من الأكاذيب والجهالات في هذا الأمر (راجع مثلا صفحة الفكر الديني ـ الأهرام 23 فبراير).
***
دول تفصل الدين وشرائعه عن الدولة:
في أوروبا، مسوَّدة الدستور المشترك للاتحاد الأوروبي صدق عليها من معظم دول الاتحاد، ولكنها رُفضت من دولتين (فرنسا وهولندا) لأسباب داخلية مما عطل عملية الموافقة. على أي حال فالمسودة لا تذكر شيئا عن الدين، بخلاف إشارة في المقدمة إلى أهمية “التراث الديني” في تاريخ أوروبا. وقد قامت فرنسا باستلهام الفصل الخاص بحقوق الإنسان وأدمجته في دستورها عبر تعديل تم في 2006، علما بأن دستورها ينص في المادة الأولى على أنها “جمهورية موحدة علمانية ديموقراطية واجتماعية. تضمن المساواة أمام القانون لكافة المواطنين بلا تمييز بسبب الأصل أو الجنس أو الدين. تحترم كافة المعتقدات (..) وشعار الجمهورية هو “الحرية والمساواة والإخاء””. وفي إيطاليا (حيث مقر الفاتيكان): ينص الدستور على “فصل الدولة عن الكنيسة” وعلى أن كافة الديانات متساوية أمام القانون. أسبانيا (1978): تنص المادة الأولى على أنها “(..) دولة اجتماعية وديموقراطية ودولة قانون تعلي شأن الحرية والعدالة والمساواة والتعددية السياسية وتجعل منها قيما عليا لنظامها القانوني”. وتضمن المادة 16، وعنوانها “لا دين للدولة”، حرية العقيدة وأنه لا يمكن أن يُطلب من أي شخص أن يفصح عن معتقداته وأنه “لا يمكن لأي ديانة أن تكون دينا للدولة. ولكن على مؤسسات الدولة الاحتفاظ بالعلاقات المناسبة مع الكنيسة الكاثوليكية وسائر الطوائف (الأديان)”. اليونان (حيث رئاسة الكنيسة الأرثوذكسية) يذكر الدستور أن الأرثوذكسية هي الديانة الغالبة ولكن كافة الديانات تمارس بحرية وكلها سواء أمام القانون. بولندا: لا ذكر فيه للدين وإن نص بوضوح على أن “الكنائس وسائر المؤسسات الدينية لها حقوق متساوية، وأن السلطات تقف على الحياد التام إزاء كل ما يتعلق بالمعتقدات الشخصية أيا كانت”.
خارج الاتحاد الأوروبي، روسيا الاتحادية: تنص المادة 14 على أن الدولة عَلمانية، ولا يمكن لها أن تساند أو تفرض أيا من الأديان. ألبانيا: تنص المادة 7 على عَلمانية الدولة. البوسنة: لا ذكر فيه للدين، وهو دستور متحضر وُضِع في 1995 بمساعدة الهيئات الدولية.
في الأمريكتين، هناك الولايات المتحدة: لا مكان للدين في الدستور الذي يرجع إلى 1787. وينص التعديل الأول الشهير (1791) على أن الكونجرس لا يحق له سن قوانين تُأسس أو تساند (establish) أي ديانة أو تمنع أي ديانة من الممارسة أو تحد من حرية التعبير الخ. كندا: لا مكان للدين في الدستور الذي يرجع إلى 1867، بينما ينص “ميثاق الحقوق والحريات” (1982) على ضمانات للحريات الأساسية. المكسيك (1917) وهي كبرى دول أمريكا الوسطى: لا علاقة بين الدولة والدين، وتضمن الدولة (مادة 3ـ1) حرية الاعتقاد. البرازيل، وهي أكبر دولة في أمريكا الجنوبية: لا كلام عن الدين في دستور 1988.
في أفريقيا نجد الكوت ديفوار (معدل في 1994): ينص على عَلمانية الدولة. مالي (1961): تنص المادة 25 على كونها جمهورية ديموقراطية عَلمانية. إثيوبيا (1994): تنص المادة الأولى على أنها دولة عَلمانية والمادة الثانية على أنه “لا يمكن أن يكون للدولة دين رسمي ولا أن تتدخل في الشئون الدينية ولا يمكن للدين أن يتدخل في شئون الدولة”. غانا (1979): لا ذكر للدين. أوغندا (1955): لا ذكر للدين. الكونغو (1992): تنص المادة الأولى على عَلمانية الدولة. الكاميرون (1972) تنص المادة الثانية على عَلمانية الدولة. السنغال (1963) تنص المادة الأولى على عَلمانية الدولة. جنوب أفريقيا (1993): لا يذكر دستورها الدين، وينص على حرية الضمير والعقيدة. بوركينا فاسو (1996): تنص المادة الثالثة على كونها دولة ديموقراطية عَلمانية. أما نيجيريا فينص الدستور الاتحادي (معدل في 1999) في المادة العاشرة علي أن الدولة الاتحادية “لا يمكن أن يكون لها دين رسمي”. لكن الولايات حرة من هذا القيد، ونتيجة لذلك قامت حكومات الولايات الشمالية ذات الأغلبية السكانية المسلمة بتطبيق الشريعة، وإن كان هذا في بعض الحالات يطبق علي المسلمين فقط. تنزانيا (1998) لا كلام عن الدين ويخصص الباب الثالث بأكمله عن الحريات والمساواة وضماناتها ويحظر في المادة 13ـ2 سن قوانين تؤدي بصورة مباشرة إو غير مباشرة إلى التمييز بين المواطنين، وتنص المادة 19 على حرية العقيدة بما في ذلك حرية التغيير.
وفي آسيا، نجد الهند (1950): تنص المقدمة على كونها جمهورية اشتراكية عَلمانية ديموقراطية تضمن لمواطنيها العدالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وحريات العقيدة والتعبير والعبادة. الفلبين (معدل في 1987): ينص على فصل الدين عن الدولة. الصين الشعبية (معدل في 1982): ليس هناك نص بشأن الدين. اليابان (1946): تقول المادة 20 أنه “لا يمكن لأي مؤسسة دينية أن تحصل على امتيازات بأي صورة من الدولة ولا أن تؤثر على السلطة السياسية، كما أن الدولة لا تقدم تعليما دينيا ولا تمارس أي نشاط ديني”. وتحظر المادة 89 انفاق أموال عامة على أي مؤسسات دينية. إندونيسيا (1945): تقول المادة 29 أن الدولة مبنية على الإيمان بإله واحد وأن الدولة تضمن حرية العقيدة “لكل بحسب ديانته أو اعتقاده”، ولا يوجد نص بشأن دين الدولة أو الشريعة الإسلامية. كوريا الجنوبية (1948) تنص المادة 11 على “حظر التمييز لأسباب سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية أو بسبب الجنس أو العقيدة أو الوضع الاجتماعي” وعلى أنه “لا يمكن لطائفة دينية أن تُميَّز أو تُسانَد (established) بأي صورة من الصور. تايلاند (معدل في 1997) تنص المادة الخامسة على أن “أفراد الشعب يتمتعون بالمساواة بغض النظر عن الأصل أو الجنس أو العقيدة”، والمادة التاسعة على أن الملك “بوذي ويحمي كل الديانات”. تركيا (معدل في 1982): ينص الدستور في مادته الثانية على كون تركيا “دولة ديموقراطية عَلمانية تخضع لحكم القانون”. ولا يمكن (طبقا للمادة الرابعة) تغيير هذه المادة. كازاخستان (1995): اتخذت نصا مشابها لتركيا حول العَلمانية. أوزبكستان (1992): تقول المادة 12 أنه لا يمكن للدولة أن تتخذ لها أي أيديولوجية. أما إسرائيل، فلها عدد من “القوانين الأساسية” (بمثابة دستور) أقرتها عبر نصف قرن، لا نجد فيها شيئا واضحا عن وجود علاقة بين الدولة والدين (ومن المهم هنا التذكير بأن شعار “دولة يهودية” يرجع إلى الهوية الثقافية وليس إلى العنصر أو الشرائع الدينية).
أستراليا (1901): لا يوجد في دستورها أي كلام عن الدين.
في العالم العربي، تنفرد لبنان بدستورها (1926) الذي لا يذكر دينا للدولة. وتنص المادة 9 على الحرية المطلقة للضمير وعلى أن الدولة تضمن حماية كافة الأديان والممارسة الحرة للشعائر.
دول تنص دساتيرها على “دين” للدولة بدون مرجعية للتشريع:
في العالم “الإسلامي” هناك بنجلاديش (1996): تنص المادة الثانية على أن “الإسلام دين الدولة، ولكن الديانات الأخرى يمكن ممارستها في سلام ووئام”. ولا نص حول الشريعة. ماليزيا (1963): ينص على الإسلام دينا للدولة ولكن “الديانات الأخرى تمارس في سلام ووئام في أي مكان بالدولة”. وتضيف المادة الثانية أنه “لا يمكن جباية ضرائب من أي شخص يُستَخدم حاصلها كلياً أو جزئياً لأغراض تتعلق بديانة تخالف ديانته”. ولا يوجد نص حول الشريعة.
في العالم العربي، نجد المغرب (1996) والجزائر (1963) وليبيا (1969) وتونس (معدل في 1991) تنص كلها على الإسلام كدين للدولة، وليس في أي منها إشارة للشريعة الإسلامية.
هناك عدد قليل جدا من الدول الغربية مثل النرويج والدانمارك، التي نجد في دساتيرها نصوصا تعود إلى قرون خلت بأن “الكنيسة الإنجيلية اللوثرية هي كنيسة البلاد السائدة (أو المؤسَسة established) وتحظى برعاية الدولة” وأن يكون الملك في الدانمارك من أتباع تلك الكنيسة؛ أو الأرجنتين التي ينص دستورها (1853) على أن “الحكومة الفيدرالية تساند الديانة الكاثوليكية”، وإن كانت هناك نصوص أخرى ـ يشهد الواقع بتطبيقها ـ حول المساواة في الحقوق والواجبات بغض النظر عن العقيدة.
دول تربط بدرجات مختلفة الدين وشرائعه بالدولة:
في العالم العربي هناك سوريا: (1973) لا ينص الدستور على دين للدولة، مكتفيا بأن يكون رئيس الجمهورية مسلما، لكن أضيفت في 1980 فقرة (2ـ2) بأن الفقه الإسلامي “مصدر رئيسي” للتشريع. وتضمن المادة 25 حرية العقيدة واحترام كل الأديان وحرية ممارسة الشعائر الدينية. الأردن (1952) ينص على الإسلام دينا للدولة وعلى حرية الاعتقاد. لا توجد إشارة مباشرة للشريعة كمصدر للتشريع، بينما تحدد المادة 106 دور المحاكم الشرعية في أمور الأحوال الشخصية والأوقاف والدِيّة. أما السودان (1998) فدستورُها مُحيِّر بعض الشيء؛ فمادته الأولى تحتوي على الكثير من “الإنشاء” حول كون السودان “دولة تناغم عرقي وثقافي وتسامح ديني، وأن الإسلام هو دين الأغلبية بينما المسيحية والديانات التقليدية لها أتباع كثيرون”. ومن ناحية أخرى تقول المادة الرابعة أن “الله هو صاحب السيادة العليا ولكنه يندب السيادة للشعب الذي يمارسها عبادةًً لله”؛ أي أنه قد جري تقنين المبدأ الثيوقراطي، كما بنيت العديد من المواد في صلب الدستور على نصوص الشريعة، بينما تؤكد المادة 65 من ناحية أخرى على أن الشريعة هي أحد مصادر أربعة إلى جانب “الوفاق الوطني والدستور والتقليد”. دساتير الكويت (1962) والبحرين (معدل في 2002) والإمارات (1996) وقطر (2003) تقول أن الإسلام دين الدولة و”الشريعة مصدرٌ رئيسيٌ” للتشريع. وتتحدث جميعها عن حرية “ممارسة الشعائر الدينية”. دستور العراق الجديد (أكتوبر 2005) ينص في المادة الثانية أن “الاسلام دين الدولة الرسمي، وهو مصدرٌ أساس للتشريع؛ لا يجوز سن قانونٍ يتعارض مع ثوابت أحكام الاسلام؛ لا يجوز سن قانونٍ يتعارض مع مبادئ الديمقراطية؛ لا يجوز سن قانونٍ يتعارض مع الحقوق والحريات الاساسية الواردة في هذا الدستور” (والتي يفرد لها الباب الثاني بأكمله). دستور مصر (المعدل في 1980) ينص في المادة الثانية على أن الإسلام هو دين الدولة وأن مباديء الشريعة هي “المصدر الرئيسي” للتشريع. دستورا اليمن (معدل في 1994) وعُمان (1996) يقولان أن الشريعة هي “مصدر” التشريع. أما السعودية فليس لها دستور مكتوب (القرآن هو دستورها)، بينما لها “قانون أساسي”.
في بقية العالم “الإسلامي” هناك جمهورية إيران الإسلامية (1979): تنص المادة 12 على أن:”الدين الرسمي لإيران هو الإسلام (طبقا لـ) المذهب الإثنى عشري الجعفري. وسيبقى هذا المبدأ ثابتا لا يُنسخ للأبد (..)”. جمهورية باكستان الإسلامية (1973): تنص المقدمة على اتباع تعاليم القرآن والسنة وعلى حماية حقوق الأقليات. جمهورية أفغانستان الإسلامية: الدستور الجديد الذي تمت الموافقة عليه في يناير 2004 ينص على أن الإسلام دين الدولة، وألا تسن قوانين تتعارض مع ثوابت الإسلام، وعلى الالتزام بمواثيق حقوق الإنسان الدولية.
* * *
ملاحظات واستنتاجات
1ـ موضوع العلاقة بين الدين والدولة، كما ينص عليها في الدستور، قد حسم في الديموقراطيات الغربية، أو التي تتبع هذا النموذج كالهند واليابان؛ حيث يستحيل تخيل إمكانية التعدي على حرية العقيدة أو فرض قوانين تستند إلى عقيدة ما، لما في ذلك ـ بغض النظر عن عَلمانية النظام ـ من تفرقة ضد من لا يتبعون تلك العقيدة. بل وصل الأمر في مسودة دستور الاتحاد الأوروبي إلى عدم الإشارة في المقدمة إلى الدور الذي لعبته المسيحية في التطور التاريخي للحضارة الأوروبية ـ وهو حقيقة تاريخية ـ حتى لا يسبب ضيقا للبعض. كما أن العلاقة بين الدين والدولة ليست شأنا ذا أهمية في معظم دول الشرق الأقصى، حيث التراث الديني (الهندوكي والبوذي والكونفوشي) منفتح على مبدأ فصل الدولة عن الدين، أو المسار الروحي الفردي.
2ـ يعيش خُمس مسلمي العالم كأقليات في دول شتي يتمتعون فيها بحرية الضمير كاملةً وبالمساواة في الحقوق والواجبات، نظرا لكونها دولا تفصل الدين عن الدولة. ومن بين الدول ذات الأغلبية الكبيرة من المسلمين، هناك دول عَلمانية مثل تركيا وأوزبكستان ومالي وكوت ديفوار، إضافة إلى أندونيسيا التي لا ينص دستورها علي دين للدولة. ويعيش في هذه المجموعة ما يقرب من ربع مسلمي العالم، كلهم خارج العالم العربي. وبهذا يتضح أن حوالي 45% من مسلمي العالم يعيشون كأقليات أو أغلبيات في دول علمانية أو “شبه علمانية”.
3ـ باستثناء سوريا ولبنان (وهي دول متعددة الأديان)، تنص دساتير الدول العربية علي كون الإسلام دين الدولة. وتشير عشرة دساتير إلي الشريعة: باعتبارها “مصدرا رئيسيا” للتشريع في سبع دول، وباعتبار مبادئها “المصدر الرئيسي للتشريع” في مصر، وباعتبار “الشريعة مصدر التشريع” في اليمن وعُمان. وتشاركهما في هذا إيران وباكستان.
4ـ يلاحظ أن النصوص المتعلقة بالحريات والحقوق في دساتير العالم المتخلف تمثل “سقفا أعلى” لما يمكن أن يحدث في الواقع. ولكن وجود هذه النصوص يوفر ـ على الأقل ـ مرجعا يتطلع إليه الشعب ودعاة حقوق الإنسان. ويلاحظ أيضا أنه في حال ذكر الحريات الدينية في دساتير العالم العربي، فهي غالبا تعني “حرية العبادة” أو “حرية ممارسة الشعائر” (وغالبا ما تكون محددة بعبارة “طبقا للقانون”) وليس حرية الاعتقاد، التي تعني حرية التغيير أو حرية عدم الاعتقاد. أما في حالة السعودية، فلا توجد هناك حرية عقيدة أصلا، إذ تنص المادة 23 من “القانون الأساسي” على أن “الدولة تحمي الإسلام وتطبق شريعته، وتأمر الناس بالصلاح وتنهى عن المنكر..” وتقول المادة 26 أن “الدولة تحمي حقوق الإنسان فيما يتفق مع الشريعة الإسلامية”.
5ـ لا توجد دول خارج العالم العربي والإسلامي تربط قوانينها وتشريعاتها بالعقائد الدينية. وإن كانت قلة نادرة من الدول الغربية تذكر دساتيرُها دينا للدولة؛ فإن هذا عادة لأسباب تاريخية ولا يزيد عن كونه موضوعا إداريا (مثل قيام أجهزة الدولة بجمع ضرائب من أتباع الديانة المعنية نيابة عن المؤسسة الدينية لأغراض إنفاقها ـ ولكن الدولة في المقابل تستقطع قيمة تبرعات أتباع الديانات المختلفة لمؤسساتهم الدينية والخيرية من الضرائب العامة المفروضة عليهم) ولا يمتد إلى النواحي العقائدية أو قيام أجهزة الدولة بمساندة تعاليم هذا الدين أو استلهامه في القوانين.
6ـ هناك نوعان من الدول: مجموعة الدول “المدنية” وفيها يكون الدستور وثيقة بشرية تستند إلى عدد من القيم الإنسانية الحضارية مبنية على الحرية والمساواة والعدالة وتسعى لتحقيق طموحات بشرية، وهي الدول التي عرفت أو تحاول أن تعرف طريق الحداثة والتقدم. والأخري، ذات مرجعية دينية، أي تستند أو تسعى إلى تحقيق ما تزعم أنه “أوامر إلهية”، تصبح إطارا محددا، تتقيد وتتكبل بداخله قيم الحرية والمساواة والعدالة. كما أنه ليس سرا أن بينها دول موقعة على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لكنها لا تحترمه وتنص في دساتيرها على أمور منافية ومناقضة له. ومن البديهي أن هاتين المجموعتين متعارضتان 180 درجة، لا يمكن الخلط أو المزج أو التقارب بينهما.
***
ختاما؛ من الواضح أن مصر، وهي دولة متعددة الأديان، وفيها أقلية دينية لا يستهان بها بين مواطنيها الأصلاء ـ وليس الوافدين ـ هي الدولة الوحيدة من نوعها في العالم (تشاركها في هذا الشرف ماليزيا) التي تفرض ديانة الأغلبية دينا رسميا للدولة، وهي الدولة الوحيدة في العالم (لا يشاركها أحد هذا الشرف) التي تفرض الشريعة الدينية للأغلبية كالمصدر الرئيسي للتشريع.
وبعد مايقرب من قرنين من التقدم على طريق “الدولة المدنية” عكست مصر الاتجاه منذ 1970 ثم سارعت منذ 1981 لتدخل نفق الدولة الدينية المظلم وتتخبط بداخله دون أن تحاول البحث عن مخرج.
adel.guindy@gmail.com