قامت إحدى بلديات استنبول، بتنظيم مهرجان للقراءة على مدى ثلاثة أيام بالتعاون مع عدد من المكتبات ودور النشر. نصبوا فانوسين ضخمين في ساحتين عامتين في قلب استنبول، يمكن من يشاء أن يستخدمهما «خلوة» للقراءة، ومن باب تشجيع عامة الشعب على استخدامهما، قرأ رئيس بلدية «غلاطة» تحت أحد الفانوسين في اليوم الأول، الأعمال الشعرية الكاملة لأورهان ولي رائد قصيدة النثر في الشعر التركي الحديث.
حين قرأت هذا الخبر في جريدة، رن مثل، كانت أمي تردده بكثرة: كلّ الكلاب أحسن من حمّور. كانت توبخنا به حين تسبقنا إحدى البنات فتنال درجة أعلى من درجتنا في المدرسة. طبعاً، حمور هو كلب الدار.
سرعان ما تبادر إلى ذاكرتي مشهد “نقش الغزال” المطمور في حماه، بقرار أو بقلة قرار من بلدية حماه، وبإهمال مقصود أو غير مقصود من دائرة الآثار.
قمت ومن باب الوفاء لهذا الغزال المطمور، ومن أجل لفت الأنظار لأهمية إظهار أثر نقش هذا الغزال إلى العيان، تاريخياً أو حتى سياحياً، قمت وعلى مدى أربعة أشهر بإعداد بحث عن قيصر بن مسافر، وهو عالم من بلاد الشام سكن في حماه خلال القرن الثالث عشر للميلاد، ونقش هذا الغزال كمقياس مائي يدل على الإرتفاع اللازم لمياه العاصي لتدوير جميع طواحين المدينة. فإذا وصل ارتفاع سطح الماء إلى مستوى معين من قدمي الغزال، فهذا يعني أن غزارة المياه كافية لإدارة جميع طواحين المدينة. وقد كان مقابل هذا النقش سوق المدينة الذي يشتري منه الناس حاجياتهم اليومية، فإن وجدوا أن مياه النهر قد لامست هذا المستوى يدركون أن طواحين المدينة كلها دائرة وبالتالي يمكنهم أن يقوموا بطحن ما يلزم من حبوب. أنهيت بحثي بكل همة، متأكدة بأن تنبيه البلدية إلى أهمية هذا النقش يكون بالعلم، وأني إن أوصلت هذا البحث للمسؤولين، سيرحمون الغزال ويزيحون حائط الاسمنت الذي يطمره أو يحجبه. حملت بحثي ومضيت أولاً إلى نقابتي، نقابة المهندسين، كي أحجز موعداً مع زملائي من المهندسين الذين من المفروض أن يهتموا بمهندس سبقهم بمئات السنين، ويشاركوني مهمتي في إظهار الغزال. بدأت بأحد المهندسين المناضلين، من أجل الثقافة تاريخاً وحاضراً، استمع إلي باهتمام، وأبدى اطلاعه الجيد على تاريخ العلم وتاريخ العالم قيصر بن مسافر والغزال المطمور، وكان موافقاً تماماً على أهمية البحث، لكنه بادرني باقتراح آخر، وهو أن أكون عضواً مساهماً ودائماً في لجنة الإعلام في نقابة المهندسين، أشارك معهم في تحرير مجلة تختص بشؤون المهندس، وأتابع النشاطات الثقافية لنساهم معاً في تشجيع المهندسين والمهندسات على القراءة، كان متحمساً، ومن شدة حماسه اندفعت موافقة، وقلت: لِمَ لا نحاول؟ ربما نستطيع أن نضيء شمعة في شارع الثقافة في طرق حماه شديدة العتمة ويزيدونها تعتيماً.
رتبت أحلامي في ذهني، ومضيت إلى أول اجتماع للجنة الإعلام.
مضت نصف الساعة الأولى، تحدثنا عن نية كل منا ورغبتنا بأن نجدد في الوجه الثقافي لنقابة مهندسي حماه.
يوجد فسحة مكانية وزمانية ليست صغيرة مخصصة للتسلية. بعض مهندسي النقابة يلعبون الورق في المساء، ويتسامرون، وأحياناً “يُحَلّون ضرسهم”، بقطعة من حلاوة الجبن، ويتسلون بالنميمة على بعضهم أو على المهندسات، يبدؤون بالسخرية من شكل مشروع المهندسة الذي ترسمه وتقدمه مخططاً إلى لجنة الدراسة، إلى شكل تنورتها وحركة التفافها على جسمها.
اقترحت أن تشغل هذه الفسحة بنشاطات ثقافية أو حوارات جادة، وتداركت حتى لايفهموا أني أقصد حوارات سياسية، بأن تكون حوارات حول قراءات أدبية، تاريخية، علمية.. أوعلى الأقل أن يخصص يوم للثقافة وبقية الأسبوع للتسلية، على أن تقام في هذا اليوم ندوة ثقافية تساهم في تنويع وجه النقابة الواحد وتنبه المهندسين أن هناك أمراً في الحياة اسمه ثقافة، فن، جمال..
كنت كل الوقت أرمي باللوم على المهندسين، ولم يخطر ببالي أبدأً أن أحمل المسؤولين مسؤولية هذا التراجع، على أساس أن المراكز الثقافية مفتوحة لكن لايوجد رواد لها.
رتبنا ورقتنا ووقعنا على توصياتنا التي كتبناها بخط جميل، واتفقنا على أحلامنا، وانتظرنا قدوم نقيب المهندسين. ليبارك كالعادة الاجتماعات في لحظاتها الأخيرة.
كعادة أغلب المسؤولين لايأتون وحدهم، بل برفقة اثنين على الأقل. مرافقو نقيب المهندسين، ليسوا حرساً، هم من الزملاء المهندسين الملازمين له كظله. كثيراً مافكرت بحجم المصالح والمكاسب التي ينالها المرافقون وتعادل تحمل “غلاظات” المسؤولين. كنت أتعاطف معهم، وأقول إنهم سذج وطيبون وعلتهم فقط أنهم قليلو الموهبة.
ألقى النقيب سلاماً سريعاً ونظرة سريعة خصصت لي، كوني مهندسة امرأة جديدة في اللجنة. سحب كرسيه، وبدون أن يأخذ نفساً قال متململاً: هاتوا..
أصابني الصمت من “هاتوا” هذه. شردت بمنصب نقيب المهندسين، وبسحبة كرسيه السريعة، ورحت أفكر بأسلوب مناسب أدخل عبره، لإقناعه بأهمية لجنتنا في النقابة وأهمية الثقافة في الحياة. أنجدني صاحبنا المهندس رئيس اللجنة، تبين أن لديه خبرة عميقة بالخطاب مع المسؤولين، سرعان ما استغرق بشرح منمق وبدون تلعثم عن رغبتنا بأن ننشط دور الثقافة في النقابة، طال شرحه، لدرجة أحسست أن مذياعاً أدير، ورحت أراقب وجه النقيب وتفاعله كي أرتب خطواتنا وأشعل شمعتنا في شارع الثقافة.
كان وجهه جامداً كأنه لم يسمع شيئاً، أو كأنه يعرف مايسمع.
أنهى صاحبنا حديثه، وحمل ورقتنا بأناقة، ومع ابتسامة خاصة، وضعها نصب عيني النقيب. التفتنا كلنا باتجاه النيقب، منتظرين تفاعله وموافقته على بنود اجتماعنا: إصدار مجلة، إقامة نشاطات أدبية علمية اجتماعية..
بعد سكوت ليس بقصير، نظر النقيب في ورقتنا نظرة سريعة، وضحك، ثم ضحك. ثم التفت الى مرافقيه من زملائنا المهندسين وسمح لهم بمشاركته الضحك، فضحكوا. نظر إلينا مهدداً، فضحكنا.
وبعد أن اهتز عدة هزات، أنهى الضحك، وقال وهو يشير إلى مكتبة النقابة التي ربما لم يتحرش بكتبها أحد، كانت مغطاة كلياً بالغبار:
ـ بربكم هل قرأتم أي كتاب من هذه المكتبة؟ وأضاف: من ناحيتي لم أفعل.
تشجع البقية ومنهم رئيس اللجنة وقالوا:
ـ ولا نحن.
عاود ضحكاته وقد تحولت إلى قهقهات.
نظر ناحيتي، فوجدني أبتلع ريقي.
أنهى الضحك، وطلب لنا شاياً، ومضى.
sarraj15@hotmail.com